الذاكرة، والنسيان، والزمن الفاسد

من "التغريبة الفلسطينيّة": أبو صالح وإخوته، حسن وعلي ورشدي

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في مقالة حول التشابه بين التاريخ والذاكرة الجمعيّة، تتساءل سوزان كرين[1] عن خلقنا لأشكال تمثِّل التاريخ، ألأنّه ماضٍ أم لأنّه حاضر؟ وهل كنّا نكتب التاريخ لأنّنا عشناه أم نكتبه وكأنّنا ذوات تنظر إلى شيء بعيد افتراضيّ وضائع بالنسبة إلينا؟

من تلك الأسئلة أشتقّ أخرى، وتحديدًا عندما أفكّر في أشكال التأريخ الفلسطينيّ المختلفة، منها: ما سياسات الذاكرة؟ لماذا نتذكّر أو ننسى؟ وهل ثمّة فعلًا ذاكرة جمعيّة، بمعزل عن موضعتها سياقيًّا في الحاضر وتنقيحها لتلائم غايات استرجاعها؟

سأحاول في هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة، متّخذًا من مسلسل "التغريبة الفلسطينيّة" نموذجًا تأريخيًّا، ومعه تحضر خواتيم الانتفاضة الثانية، اللحظة الزمنيّة الّتي فيها عُرِضَ المسلسل عام 2004، وأيضًا الجدل الأخير حول التطبيع في الدراما العربيّة، والذاكرة الجمعيّة بوصف المسلسل ممارسة تخليد وتذكّر.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

التاريخ، والتذكّر، والذاكرة الجمعيّة

في دراسة لممارسات تخليد الانتفاضة الأولى، يعتقد علاء العزّة أنّ موقف الباحث المعرفيّ لا ينفصل عن موضوع دراسته، ولا عن التاريخ بوصفه موضوعيًّا؛ فيكون الموقف المعرفيّ، حسب النظريّة النقديّة، من الحقيقة بوصفها نِتاج عمليّة صناعة مجبولة بعلاقات القوّة والأيديولوجيا السائدة، وهو ما يجعل دراسة الذاكرة موقفًا معرفيًّا يتجاوز عمليّة دراسة التاريخ، باعتباره موضوعًا للفحص يمكن فهمه وتفسيره، بل أداة معرفيّة لنقد الأيديولوجيا السائدة، وإبراز جوانب أخرى للحقيقة غُيِّبَت في عمليّة إنتاج المعرفة حولها؛ وهكذا تصبح دراسة الذاكرة أداة تخليد وتذكير أيضًا.

عودتي لمسلسل "التغريبة الفلسطينيّة" هنا والآن محاولة لنقد أيديولوجيا ما ربّما سائدة، وربّما ممارسة تَذَكُّر شخصيّة لها سياقها الخاصّ في السياق العموميّ الأوسع؛ لأنّ لا شيء يحدث فحسب، وكذلك النكبة في حدّ ذاتها ليست حدثًا حدث مرّة واحدة فحسب، بل حدث مؤسِّس لا تزال تبعاته وتشكّلاته...

وبناءً عليه، تكون عودتي لمسلسل "التغريبة الفلسطينيّة" هنا والآن محاولة لنقد أيديولوجيا ما ربّما سائدة، وربّما ممارسة تَذَكُّر شخصيّة لها سياقها الخاصّ في السياق العموميّ الأوسع؛ لأنّ لا شيء يحدث فحسب، وكذلك النكبة في حدّ ذاتها ليست حدثًا حدث مرّة واحدة فحسب، بل حدث مؤسِّس لا تزال تبعاته وتشكّلاته – لا الأخيرة بالطبع بل المستمرّة – في طور التشكّل والتمظهر في الواقع، كما أنّ الاستعمار الاستيطانيّ بوصفه غزوًا هو بنية وليس حدَثًا[2]، ومن ثَمّ يكون الغزو فعلًا ماضيًا لا يزال ما تمخّض عنه يتشكّل ويتمظهر في الحاضر؛ إذن، قد أقول إنّني لا أزال أعيش النكبة، لا أزال أعيش الانتفاضة الثانية، وآخَر لا يزال يعيش الانتفاضة الأولى، وآخر لا يزال يعيش حرب 1967، ولكلٍّ ذاكرته الخاصّة، ولكلٍّ تقويمه الزمنيّ الخاصّ الّذي يبدأ أو ينتهي في نقطة زمنيّة معيّنة. كذلك يمكن صياغة الأمر كما تصوغه سوزان كرين مرّة أخرى، باعتبارها أكثر الأوصاف تفاهة للتاريخ القول إنّه "حدَث"[3]، وذلك يشمل ما قيل أو كُتب عن الماضي، والتفاهة تكمن في احتواء التاريخ على أكثر من ماضٍ مرويّ بغير رواية واحدة؛ فيكون التاريخ مواضيَ متعدّدة ورواياتها بوصفها ذاكرة تاريخيّة على علاقة بالحاضر، بينما تكون الذاكرة الجمعيّة عمليّة مفاهيميّة، فيها يُسْتَشْعَر حضور الماضي المستمرّ في الحاضر؛ وبهذا المعنى يمكن الذاكرة الجمعيّة أن تكون ممارسة فرديّة أو مؤسّساتيّة تعكس أنواعًا متعدّدة من التفكير التاريخيّ، والتذكّر، والكتابة أو إنتاج المعرفة حول التاريخ.

 

الذاكرة بوصفها أداة لفهم الحاضر

ثمّة إجابتان مختلفتان لسؤال سبب العودة الآن إلى "التغريبة الفلسطينيّة"؛ والأولى تتعلّق بمنظور فرويد للتاريخ/ الذاكرة، الّذي يقوم على افتراض أساسيّ مفاده أنّ وظيفة المؤرّخ التفكير في الماضي، بالطريقة ذاتها الّتي فكّر بها فاعلو الماضي، ومن ثمّ تكون غاية المؤرّخ استعادة العالم كما كان في الماضي، وتكون مشكلته الّتي تشابه حسب فرويد مشكلة المعالج النفسيّ، هي الوصول إلى الذاكرة باعتبارها مخيّلة الماضي، وباعتبار الأحداث التاريخيّة موجودة كما هي في الذاكرة؛ ولذلك يمكن استعادتها كما كانت في صورتها الأصليّة، عبر تقنيّتَي التكرار والتذكّر[4].

يبالغ فرويد في افتراضاته النظريّة، ويمكن القول إنّ تاريخ علم النفس والعلوم السلوكيّة بعد فرويد، هو تاريخ تصحيح مبالغات فرويد ومغالطاته النظريّة، ومع ذلك يمكن البناء على تقنيّتَي التكرار والتذكّر اللتين يقترحهما. في ما يتعلّق بالتكرار؛ أوّلًا ثمّة الافتراض الأساسيّ وهو وجود الذكريات كما هي في لاوعينا، ومن ثَمّ فهي تتحكّم في سلوكيّاتنا في الحاضر دون أن نتمكّن من فهمها، إلّا أنّه بين الحين والآخر، تكون عمليّة التكرار الّتي فيها نكرّر فعلًا، أو نسعى إلى تكرار شعور ما اختبرناه من قبل، دون أن نعي أنّنا إنّما نكرّر شيئًا من الماضي. واقتراح فرويد يكون في تحويل عمليّة التكرار إلى عمليّة تذكّر واعية لاسترجاع ذكريات مكتملة عن الماضي – موجودة أصلًا – لتمكين الإنسان من فهم حاضره بطريقة أفضل. وللتمكّن من فعل ذلك، يجب تحويل عمليّة التكرار إلى عمليّة مستقرّة، يمكن التحكّم فيها للتمكّن من استعادة أعمق الذكريات، وتتمثّل مهمّة المعالج النفسيّ في تفكيك سلسلة الارتباطات العشوائيّة الّتي يُنشئها العقل الباطنيّ لعزل الذاكرة عن التجربة الأصليّة؛ أي "التذكّر الواعي لإدراك تقنيّة أخرى غير واعية"[5]، وهي المهمّة ذاتها للمؤرّخ: استعادة الماضي كما هو، من خلال تحويل عمليّة التذكّر العشوائيّة للماضي إلى عمليّة مستقرّة لتكوين الذاكرة الجمعيّة.

 

زمن ما بعد أوسلو المقدّس

يشكّل الزمن مفهومًا أساسيًّا في دراسات الذاكرة، أي الحاضر في علاقته بالمستقبل والماضي. في أطروحته حول التاريخ، يصف والتر بنيامين زمن الحداثة بالزمن المتجانس الفارغ، وفراغه ناتج عن التصنيف القائم على التقويم، والفراغ الّذي ينعكس في غياب المعنى الثقافيّ الّذي يقلّص الزمن إلى سلسلة من التقسيمات الحسابيّة[6]. وعلى نقيض الزمن المتجانس الفارغ، ثمّة التاريخ بصفته بناءً تاريخيًّا يصير حقيقة هنا والآن. إنّ ما يجعل من حدث ماضٍ حاضرًا في الحاضر عدم اعتباره جزءًا من تقسيمات حسابيّة زمنيّة؛ أي لا شيء يحدث مرّة واحدة وينتهي، بل فعل يتوالد عن آخر يشبهه ويكونه في الوقت ذاته، أو يحقّق ما عجز عنه الفعل الأوّل. مواضٍ متعدّدة تتداخل في الحاضر دونما اعتراضات حسابيّة تصنّف التاريخ بالشهور، والأيّام والساعات، وتُكْرِه التاريخ على أن يكون انعكاسًا حسابيًّا لحياة الإنسان لا أكثر.

ينغلق باب السماء الذهبيّ، تكون زفرة العربيّ الأخيرة؛ ينغلق الزمن الفلسطينيّ المحمَّل بالحلم، كما يصف إدوارد سعيد، حين تُناط خصوصيّة الحلم بواقع فاسد مهدّد، أو يعاد إنتاجها بفعل ذلك الواقع تحديدًا[9] ليُسْتَبْدَل بحلم العودة حلم الدولة...

هكذا كان الزمن الفلسطينيّ قبل أوسلو، زمن يتقاطع ويتلاحم بأزمان متعدّدة. في قصيدة "أحد عشر كوكبًا" يقف درويش عام 1991، مستشعرًا النهاية القريبة، ومخاطبًا عرفات: "إنّ هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار... وكلّ شيء مُعَدّ لنا؛ فلماذا تطيل التفاوض، يا ملك الاحتضار؟"[7]؛ كانت محاولة شعريّة أخيرة ربّما لاواعية من الشاعر، لثني الزمن عن الالتفافة الأخيرة الّتي تتقاطع مع النهاية الأخيرة في الزمن الأندلسيّ، عندما سلّم أبو عبدالله الأحمر غرناطة، الأرض الأندلسيّة الأخيرة، للملكين إيزابيلا وفرناندو. لكنّ المحاولة تبوء بالفشل، وتستمرّ النبوءة أكثر: "سترفع قشتالة تاجها فوق مئذنة الله. أسمع خشخشة للمفاتيح في باب تاريخنا الذهنيّ، وداعًا لتاريخنا، هل أنا مَنْ سيغلق باب السماء الأخير؟ أنا زفرة العربيّ الأخيرة"[8].

ينغلق باب السماء الذهبيّ، تكون زفرة العربيّ الأخيرة؛ ينغلق الزمن الفلسطينيّ المحمَّل بالحلم، كما يصف إدوارد سعيد، حين تُناط خصوصيّة الحلم بواقع فاسد مهدّد، أو يعاد إنتاجها بفعل ذلك الواقع تحديدًا[9] ليُسْتَبْدَل بحلم العودة حلم الدولة؛ هكذا يتكيّف التاريخ والذاكرة بشكل متبادل كما يقول فرويد. في البدء كان الحلم العودة ثمّ كانت الدولة، وكان الزمن الفلسطينيّ يتقاطع مع الزمن الأندلسيّ، حتّى أنّه كان امتدادًا لزمن الأمريكيّين الأصلانيّين كما في قصيدة درويش "خطبة الهنديّ الأحمر ما قبل الأخيرة"، وكان يتقاطع والزمن الفيتناميّ، والزمن الجنوب أفريقيّ في حربه الطويلة ضدّ الأبيض ونظامه العنصريّ، وكان يتقاطع والزمن الجنوب أمريكيّ، ليصل في النهاية ليكون مجرّد صفحة حسابيّة في تقويم الزمن الأمريكيّ الفاسد.

بيدَ أنّ التحوّل لم يكن تلقائيًّا، بل كان ثمّة محاولات مؤسّسيّة لتحويل الزمن الفلسطينيّ من زمن سمته فوضى مواضٍ متعدّدة الأقطاب، ما قبل عام 1993، إلى زمن متجانس فارغ من أيّ معنًى ثقافيّ، وإن تضمّن أيّ معنًى فهو مجمّد مؤطَّر بتقويم حسابيّ دولاتيّ؛ وذلك جرّاء هيمنة المؤسّسة الرسميّة – السلطة الفلسطينيّة وحتّى منظّمة التحرير الفلسطينيّة – على عمليّات تذكّر الماضي وتخليده، في إطار الرواية الرسميّة الّتي استبدلت بخطاب الكفاح المسلّح والعالم الثالث التحرّريّ، خطاب حقوق الإنسان والخطاب الدولاتيّ[10].

وذلك انعكس أيضًا، كما ترى ليلى الخليلي في دراستها لممارسات تخليد الذاكرة الفلسطينيّة، في تغيّر ثيمات التذكّر نتيجة اختلال التوازن في علاقات القوّة بين الأفراد والمؤسّسات؛ إذ إنّ عمليّات التذكّر قبل عام 1993 كانت تجري بواسطة أفراد كجزء من عمليّة غير رسميّة تركّز على ثيمات البطولة، والشهداء، وتحرير فلسطين التاريخيّة، وتفكيك الاستعمار الصهيونيّ، وحقّ العودة للاجئين[11]. في المقابل، لم تهمل المؤسّسة الرسميّة هذي الثيمات فحسب، بل استبدلت بها ثيمات أخرى كحقوق الإنسان، وحلّ الدولتين، والاعتراف بإسرائيل، والتردّد بما يتعلّق بحقّ العودة شرطًا جوهريًّا لأيّ حلّ دائم.

 

الذاكرة بوصفها نسخة منقّحة عن الماضي

يتقاطع هذا التحوّل في سياسات الذاكرة والتذكّر فلسطينيًّا، مع إطار نظريّ آخر في دراسات الذاكرة وضعه موريس هالبواش، الّذي يشارك فرويد اعتقاده بأنّ الذاكرة تشمل التفاعل بين التكرار والتذكّر إلّا أنّها - كما يجادل - تكون استجابة لديناميكيّات اجتماعيّة لا نفسيّة، ثمّ إنّ الذكريات نفسها لا يمكن التيقّن من وجودها كما هي في العقل الباطن، ومن ثَمّ، فإنّ ذلك المستعاد منها يكون نسخة منقّحة مراجعة تلائم سياق استرجاعها[12].

بمجرّد أن تكفّ فترة زمنيّة عن كونها محطّ اهتمام فترة لاحقة، يؤدّي ذلك بالضرورة إلى نسيان الجماعة نفسها للماضي؛ لأنّ ثمّة جماعتين متعاقبتين في الفترة ذاتها، واحدة تحتفظ بماضٍ وأخرى تفتّش عن آخر يلائم حاجاتها، وبالتالي، فلكلّ مجتمع أكثر من ماضٍ، وأكثر من تاريخ، وأكثر من ذاكرة جمعيّة

حسب هالبواش، التاريخ يكون القليل الّذي يُتَذَكّر في سياق الذاكرة الجمعيّة المعاصرة، والّذي يلائم مصالح المجتمع في الزمن الحاضر[13]. بهذا المنطق تختلف الذاكرة الجمعيّة عن التاريخ "بأنّها تحتفظ من الماضي فقط بما لا يزال حيًّا، أو بِمُكْنَتِه العيش في العقل الباطن للجماعة، الّتي تُبْقي على الذاكرة حيّة"[14]. لكن بمجرّد أن تكفّ فترة زمنيّة عن كونها محطّ اهتمام فترة لاحقة، يؤدّي ذلك بالضرورة إلى نسيان الجماعة نفسها للماضي؛ لأنّ ثمّة جماعتين متعاقبتين في الفترة ذاتها، واحدة تحتفظ بماضٍ وأخرى تفتّش عن آخر يلائم حاجاتها، وبالتالي، فلكلّ مجتمع أكثر من ماضٍ، وأكثر من تاريخ، وأكثر من ذاكرة جمعيّة، ويمكن عمليّات التذكّر هذي كلّها أن تأخذ حيّزًا في المجتمع ذاته، في اللحظة الزمنيّة ذاتها؛ فيكون ثمّة مجتمع في لحظة زمنيّة تتقاطع فيها مواضٍ متعدّدة، تُسْتَعاد وتتصارع في ما بينها أو تتلاقى، حسب مواقع القوى السياسيّة والمؤسّسيّة والاجتماعيّة القائمة في المجتمع نفسه؛ وبذلك تصير الذاكرة الجمعيّة جزءًا من تجارب عِيشَت، وتُمَثِّل روابط مع الأسلاف المباشرين. وعلى النقيض، يكون التاريخ "وحدويًّا"، أي "يمكن اعتبار التاريخ ذاكرة عالميّة للجنس البشريّ، لكن ليس ثمّة ذاكرة عالميّة جمعيّة؛ فكلّ ذاكرة جمعيّة تتطلّب وجود جماعة محدودة في الزمان والمكان"[15]، وإن كان لا بدّ من إسقاط الادّعاء على الواقع، يمكن القول إنّ تاريخ فلسطين بصفته جزءًا من تاريخ العالم، في القرن المنصرم على الأقلّ، هو تاريخ الجماعات البشريّة الّتي عاشت فيها، وفي سياق هذا التاريخ ثمّة ذكريات جمعيّة متعدّدة تخصّ مجموعات بشريّة متعدّدة، ومنها الفلسطينيّ، وكذلك الإسرائيليّ الاستعماريّ، وفي الداخل من كلّ ذاكرة جمعيّة "عموميّة" ثمّة ذكريات جمعيّة أكثر خصوصيّة وتفرّدًا وتمايزًا، لكلٍّ منها وظيفتها النفسيّة والاجتماعيّة الّتي تُلَبِّي الحاجات النفسيّة للجماعة الّتي تقوم بعمليّات التذكّر أو النسيان.

ذلك يعني أنّ عمليّة استعادة أصيلة للماضي، كما يدّعي فرويد إمكانيّة ذلك، غير ممكنة، وهي ذاتها في العقل الباطن غير أصيلة؛ لأنّها تدمج بعضها في عمليّة تنقيح متواصلة. ويدّعي هالبواش أنّ الذكريات الّتي تنتقل إلى الحاضر في خضمّ عمليّة التكرار، تُقَلَّص إلى لحظات معيّنة في صورة مثاليّة تلائم حاجات الأفراد؛ إذ يُعاد بناؤها في سياق اجتماعيّ يضمّ/ يتذكّر أو يستبعد/ ينسى ذكريات معيّنة[16]؛ فلا يمكن البشر حينذاك استرجاع صورة من الماضي كما هي، بل تُحَوَّل لتلائم مفاهيم الحاضر الّتي شُكِّلَتْ وبُنِيَتْ بواسطة قوًى اجتماعيّة مهيمنة على المجتمعات؛ أي أنّ ما نتذكّره هو انعكاس تأثير هيمنة مجموعات اجتماعيّة فينا في الوقت الراهن.

 

الذاكرة بوصفها جسرًا بين الماضي والحاضر

باستخدام إطار هالبواش، يمكن فهم التحوّلات الّتي جرت على الذاكرة الفلسطينيّة في مراحل ثلاث: الأولى ما بعد عام 1967، حين كانت عمليّات التذكّر والنسيان تجري في سياق خطاب تحرّريّ، يتمحور حول الكفاح المسلّح سبيلًا لاستعادة الحقوق الفلسطينيّة. والثانية ما بعد أوسلو وصولًا إلى عام 2000، وقد تمحورت، كما سبق أن أشرت، حول الخطاب الدولاتيّ وحقوق الإنسان، والإصرار على المفاوضات سبيلًا لاستعادة "بعض" الحقوق الفلسطينيّة. ولاحقًا، ومع بداية انحسار هيمنة الخطاب المؤسّساتيّ على عمليّة التذكّر والتخليد، استعاد خطاب المقاومة المسلّحة بعضًا من أدبيّات الكفاح المسلّح، ليخلق مجالًا خصبًا لعمليّات تذكّر وتخليد للماضي، تجعل من الحاضر امتدادًا لذلك الماضي بعينه؛ ماضي الستّينات والصخب الثوريّ.

ما يعيدني إلى فرويد مرّة أخرى، أنّ كلّ فعل "مقدّس" في الحاضر يخلق حسًّا بالتكرار، يُلْتَقَط بواسطة آخرين ويكون الفعل سببًا لإنشاء عمليّة تذكّر ثابتة ومستقرّة، تستعيد الماضي، بالتأريخ له، بالكتابة عنه، أو حتّى في إعادة أداء الفعل نفسه في الحاضر، وهو فعل المقاومة.

وفي ذلك الوقت، عُرِضَ مسلسل "التغريبة الفلسطينيّة"، حيث كان الفلسطينيّون منشغلين في تخليد الحاضر، بوصفه امتدادًا لذاكرة الماضي غير منفصل عنه؛ لأنّه، وعند سيادة الزمن المقدّس، تتداخل عمليّات تذكّر الماضي بعمليّات تخليد الحاضر بوصفه ذاكرة تستحقّ التخليد، فيخلق كلّ فعل في الحاضر جسرًا متخيّلًا بين الحاضر والماضي، أو شعورًا واعيًا بأنّ الماضي يعيد نفسه في الحاضر.

ما يعيدني إلى فرويد مرّة أخرى، أنّ كلّ فعل "مقدّس" في الحاضر يخلق حسًّا بالتكرار، يُلْتَقَط بواسطة آخرين ويكون الفعل سببًا لإنشاء عمليّة تذكّر ثابتة ومستقرّة، تستعيد الماضي، بالتأريخ له، بالكتابة عنه، أو حتّى في إعادة أداء الفعل نفسه في الحاضر، وهو فعل المقاومة. والواقع يصير متعدّد الأبعاد؛ على شاشة التلفاز ثمّة شاشتان: واحدة تنقل الأخبار اليوميّة عن مقاتلين قاتلوا حتّى الطلقة الأخيرة واستشهدوا، وأخرى فيها أبو صالح الشيخ يونس (الفنّان جمال سليمان) يعدّ طلقاته الأخيرة، وحسن الشيخ يونس (الفنّان باسل خيّاط) يختفي ويُبْتَلَع في ثقب النكبة الأسود، وفي الواقع اجتياحات متكرّرة واشتباكات نسمع أصواتها، بينما نتابع رشدي (الفنّان والمخرج حاتم علي) وهو يلتقط بندقيّة خاله وأبيه؛ والسؤال كان ولا يزال: كيف وصلنا إلى هنا؟ والإجابة تأتينا على هيئة مسلسل دراميّ؛ هكذا.

 

الذاكرة الجمعيّة بوصفها عبئًا

بالعودة إلى "التغريبة الفلسطينيّة"، عادة ما أتذكّر مشهدين: الأوّل اقتراب عليّ (الفنّان تيم الحسن) من أخيه أبو صالح بداية الحلقة الأولى، وقوله له: "أنا من دونك ما صرت إشي"، ومن ثَمّ ابتعاده في تأويل موت أخيه إلى أبعد من مجرّد موت طبيعيّ، ليتساءل عمّا يمثّله الموت في سياقه التاريخيّ الأشمل، وبصوت الراوي يتساءل: "... أخي أحمد، أبو صالح، لن تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولن يتسابق الكتّاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبًا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر الرواة المنسيّين؛ أولئك الّذين عرفوه أيّام شبابه جوادًا برّيًّا لم يُسَرَّج بغير الريح؛ فمَنْ يحمل عبء الذاكرة؟ ومَنْ يكتب سيرة مَنْ لا سِيَر لهم في بطون الكتب، أولئك الّذين قسّموا جسومهم في جسوم الناس، وخلّفوا آثارًا عميقة تدلّ على غيرهم، ولكنّها لا تدلّ عليهم".

البداية إذن، سؤال موقع المهمّشين في الذاكرة الجمعيّة، وبالعودة إلى نموذج هالبواش، يمكن القول إنّ ثمّة ذاكرة مهيمنة وأخرى هامشيّة في أيّ مجتمع، في أيّ لحظة زمنيّة معطاة، والصراع بين الاثنتين محكوم بمواقع القوّة الاجتماعيّة، والتأثير في الثقافة مكوّنًا أشمل للهويّة الجمعيّة. وبالطريقة ذاتها الّتي فيها يكون المسلسل نفسه ممارسة تخليد وتذكّر لأولئك المهمّشين، يصير أيضًا متحفًا لذاكرة المهمّشين أنفسهم من المشاهدين؛ فأخيرًا، لجأ البعض إلى المسلسل بوصفه متحفًا لذاكرتهم "الأصيلة"، الذاكرة الّتي يعتقدون أنّها بالفعل تروي ما كان حقًّا ولا تُشَوِّه الماضي؛ وهنا يصير فعل مشاهدة المسلسل في حدّ ذاته طقسًا تطهّريًّا من الحاضر، وطقسًا استرجاعيًّا للذكريات، المتخيَّل منها والحقيقيّ.

ولأنّ طقوس التذكّر الشخصيّة تتداخل وعمليّة الكتابة؛ لأنّها ليست فعلًا موضوعيًّا بل ذاتيًّا، أتذكّر رام الله، مدينتي، وأتساءل عن محاولاتها الحثيثة، منذ ما يزيد على خمسة عشر عامًا، لتكون مدينة أخرى، لتنسى "الحدود"، ولتولد ولادة ثانية غير موجعة...

ومن ثَمّ أستحضر مشهد رشدي وهو يحلّل حالة التخبّط الثقافيّ المعرفيّ للفلسطينيّ بعد اللجوء، الّذي لا يزال تحليلًا مقنعًا بطريقة أو بأخرى حتّى يومنا الحاضر: "النضج ولادة ثانية، والولادة تحمل أوجاعها، وهنا الإنسان نفسه يمارس ولادة نفسه، لا بدّ من أن يموت فيه شيء ليولد فيه شيء جديد؛ أوجاع، صراعات شخصيّة، بحث عن الشخصيّة الموزّعة بين الماضي والحاضر وصورة المستقبل... تتعقّد المشاكل عندما يكون الإنسان ذكيًّا، معرفته أكبر من حاجته ومن ظروفه، ولفترة لن يتمكّن من التمييز بين الواقع والوهم، وحتّى بين الحلم الّذي ينبثق من الواقع وبين الوهم الّذي يكون بديلًا له؛ هنا الأفكار تتعالى على الواقع، وتحاول أن تشكّله ضمن قوالبها السابقة، لكنّ الواقع في النهاية يفرض شروطه... الواقع أنّ قضيّتنا هي قضيّة وطن مسلوب، ومجتمع يعاني من التخلّف، غير الواقع أنّ قضيّتنا هي قضيّة أبطال سارتر، والإنسان المطحون في المدينة الصناعيّة القاسية... كلّ شيء نحلم فيه، يجب أن يمرّ من هناك، يجب أن نتخطّى الحدود وألّا ننساها، حتّى إن حاولنا فسنجدها دائمًا أمامنا... الريفيّ إن لم تُفْسِدُه الكتب يبقَ مخلصًا للحقيقة البسيطة المباشرة، مهما كانت عميقة، والتعقيد ادّعاء، انتفاخ ثقافيّ كاذب يدلّ على أنّ الشخص يحمل همّ صورته مثقّفًا، أكثر من همّ الثقافة نفسها؛ وهنا الشكل يسبق الوظيفة".

ولأنّ طقوس التذكّر الشخصيّة تتداخل وعمليّة الكتابة؛ لأنّها ليست فعلًا موضوعيًّا بل ذاتيًّا، أتذكّر رام الله، مدينتي، وأتساءل عن محاولاتها الحثيثة، منذ ما يزيد على خمسة عشر عامًا، لتكون مدينة أخرى، لتنسى "الحدود"، ولتولد ولادة ثانية غير موجعة، وعن محاولات مؤسّسيّة وأخرى فرديّة، وعن محاولات حتّى ذاتيّة، لمحاولة الولادة الثانية. محاولات تنتهي إمّا بفشل ذريع، وبضياع كلّيّ، وإمّا بالوصول إلى حالة تشوّه لا معرفيّة ثقافيّة فقط، بل حتّى انمساخ خارجيّ إلى كائنات لا تشبه نفسها، غارقة في نسيان تامّ. شيء أشبه بالوصول لا إلى وعي مشوّه، بل إلى غياب تامّ للوعي.

أتذكّر دوّار المنارة في وسط مدينة رام الله، الأُسود الأربعة الرخاميّة، والقضبان المعدنيّة المقوّسة صعودًا إلى الأعلى، تحمل سارية علم ممزّق. هناك كان رجال المقاومة يتحصّنون عند كلّ اجتياح إسرائيليّ للمدينة، ولا أتذكّر الدوّار إلّا في نهار شتويّ ممطر، والرخام مليء بثقوب الرصاص ممزّق الحوافّ. الآن لم يَعُد قائمًا، واستُبدل به عمود رخاميّ في منتصف شيء مشوَّه؛ وما بين هاتين الصورتين، ثمّة زمن ينتصر بقباحة، ويفرض النسيان على المكان غصبًا، ويصير المكان كالشكل يسبق الوظيفة.

..........

إحالات:

[1] Susan Crane, “Writing the Individual Back into Collective Memory”, The American Historical Review, 102[5] (1997), 1372–1385.

[2] Patrick wolf, “Settler Colonialism and the Elimination of the Native”, Journal of Genocide Research (2006), 388.

[3] Crane, Writing the Individual.

[4] Patrick H. Hutton, “Sigmund Freud and Maurice Halbwachs: The Problem of Memory in Historical Psychology”, The History Teacher, 27[2] (1994), 145–158.

[5] Hutton, Sigmund Freud.

[6]Walter Benjamin, Illuminations (New York: Harcourt, Brace & World, 1968).

[7] محمود درويش، أحد عشر كوكبًا (عمّان: الأهليّة للنشر والتوزيع، 2014).

[8] المرجع نفسه.

[9] إدوارد سعيد، "تلاحم عسير للشعر والذاكرة الجمعيّة"، القدس العربيّ، 08/08/2017، شوهد في 06/2020، في: https://bit.ly/3dGjbZA

[10] علاء العزّة، "الذاكرة بوصفها خطابًا ورؤية مستقبليّة: ممارسات تخليد انتفاضة عام 1987"،  إضافات، العدد 43-44، ص 63-80.

[11] Laleh Khalili, Heroes and Martyrs of Palestine: The Politics of National Commemoration (Cambridge: Cambridge University Press, 2007).

[12] Hutton, Sigmund Freud.

[13] Maurice Halbwachs, The Collective Memory [1950] (New York: Harper Colophon Books, 1980).

[14] Ibid.

[15] Ibid.

[16] Ibid.

 

 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما والسياسة.