"مقابلة مع السيّد آدم"... إنسان الحقّ الضائع

من مسلسل "مقابلة مع السيّد آدم"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"أنا صاحب حقّ"، مَنْ منّا لم تَرد على لسانه هذه العبارة؟ مَنْ منّا لم يشعر في لحظة ما بأنّه تعرّض لانتهاك عظيم، عندما سُلِب منه أحد حقوقه الإنسانيّة؟

"الحقّ" في العبارة أعلاه قيمة إنسانيّة مُسْتَحَقّة، يتطلّع إليها كلّ إنسان باعتبارها كذلك، تختزل كلّ تطلّعاته وآماله في الحرّيّة والمساواة والعدالة والديمقراطيّة والإنصاف، إنّه قيمة أخلاقيّة اجتماعيّة سياسيّة أساسيّة، ويأتي ليكشف عن الفاعليّة الإنسانيّة لدى الإنسان، ولا سيّما في تلك اللحظات الّتي يشعر فيها بأنّه قد انْتُهِك؛ فيُطْلِق فيها صرخته الواعية بحقيقة انتهاكه، والمطالِبة بضرورة استرداده، قائلًا: "أنا صاحب حقّ، وأريد حقّي".

إنّ تلك الصرخة هي ما ورد على لسان آدم عبد الحقّ، في المسلسل السوريّ "مقابلة مع السيّد آدم"، الّذي عُرِض في شهر رمضان عام 2020، عملًا غير مكتمل سيتبعه أجزاء أخرى، وهي صرخة بمنزلة الثيمة، جاءت لتختزل بين طيّاتها مضامين الإدراك الإنسانيّ، الواعي بحقيقة حقّه المنتهَك، وضرورة المطالبة باسترجاعه.

"أنا الدكتور آدم عبد الحقّ، أب مفجوع وصاحب حقّ، وبدّي آخذ حقّي...".

 

"فاوست"، الطبيب الشرعيّ الّذي يعاقب المجرمين

الدكتور آدم، بطل المسلسل الّذي جسّد دوره الفنّان غسّان مسعود، بأداء متقن واحترافيّة عالية، أحد الأطبّاء في الطبّ الشرعيّ، يعمل أستاذًا ومحاضرًا في إحدى الجامعات، وهو إنسان مبدئيّ ومثاليّ، وذو كاريزما فريدة من نوعها، يُطْلِق صرخته تلك بعد حدث مفصليّ أصاب حياته وقلبها رأسًا على عقب، وأدّى إلى تغيّر جذريّ في شكل شخصيّته وطباعها، وهذا الحدث هو مقتل ابنته حياة، وهي طفلة مصابة بمتلازمة داون، وذلك بعد أن اخْتُطِفَتْ على يد عصابة، كان هدفها ابتزازه وإجباره على تزوير أحد تقارير الطبّ الشرعيّ، الّتي أوردها إلى جهات التحقيق، في قضيّة مقتل فتاة مصريّة؛ إذ إنّ تقرير الدكتور آدم كان كفيلًا بكشف تورّط العصابة بقضيّة القتل تلك.

 

 

فبعد أن رضخ الدكتور آدم لطلب الخاطفين، وسكت على مسألة استبدال العصابة بتقريره وتزويره تقريرًا آخر، وبعد أن أعاد الخاطفين ابنته إليه، استيقظ صباحًا فوجدها جثّة هامدة، باردة كالثلج، واكتشف أنّ عمليّة الاختطاف كانت هي السبب الرئيسيّ في موتها؛ وذلك بسبب أخطاء ارتكبها الخاطفون في كيفيّة إعطائها الأدوية الّتي كانت تتناولها، جرّاء حالتها المرضيّة بمرض متلازمة داون؛ فقرّر السكوت على خبر موتها خوفًا من أن تعرف العصابة فيُصيبها الخوف من ردّة فعله، فتُلْحِق الأذى بعائلته، ثمّ رتّب مراسم دفنها، ودَفَنَها بيديه في مكان مخفيّ عن عيون الجميع. ثمّ قرّر بعدها، وفي ظلال انتفاء الأدلّة الّتي تربط بين مقتلها وقضيّة التقرير، وفقدانه الثقة بقدرة القانون على إنصافه وجلب حقّه في أن ينتقم لها؛ بدأ بتتبّع الآثار الّتي تقوده إلى العصابة الخاطفة، وارتكب بعدها سلسلة من الجرائم المنظّمة فيهم، مستعينًا بخبرته طبيبًا في الطبّ الشرعيّ؛ إذ إنّه - وبعد كلّ جريمة قتل يرتكبها في حقّ فرد من أفراد العصابة - كان يرسل تفاصيل الجريمة إلى جهات التحقيق، معرّفًا نفسه بـ "فاوست"، أو الرجل الّذي يعاقب المجرمين الّذين باعوا أرواحهم للشيطان.

 

رمزيّة

وبشكل عامّ، فإنّ الأسماء الّتي حملتها شخصيّات المسلسل جاءت مليئة بالترميزات الحاملة لمعانٍ ودلالات واضحة؛ فآدم عبد الحقّ، وهو اسم الشخصيّة الرئيسيّة، جاء ليرمز إلى الإنسان أو "البني آدم"، الواعي بحقّه الإنسانيّ بل بحقوقه الإنسانيّة والمدرك لها.

مّا فاوست، وهو اسم الشخصيّة الّتي اتّخذها ليذيع جرائمه بحقّ أفراد العصابة، فهو مأخوذ من حكاية شعبيّة ألمانيّة، وقد جاء هذا الاسم ليرمز إلى التحوّل العميق والجذريّ الّذي أصاب شخصيّة آدم...

أمّا حياة، وهو اسم ابنة آدم الّتي قتلتها العصابة، فجاءت لترمز إلى أنّ حياته هي الّتي تعرّضت للقتل مرّات عدّة؛ فمَنْ قتلوا ابنته قتلوا فيه حياته مرّتين، مرّة عندما قتلوا ضميره الأخلاقيّ، وأجبروه على السكوت على مسألة تزوير التقرير لينقذ حياتها، ومرّة أخرى عندما وجد أنّ التضحية بضميره الأخلاقيّ لم ينقذها، وكان شاهدًا على موتها بين يديه.

أمّا فاوست، وهو اسم الشخصيّة الّتي اتّخذها ليذيع جرائمه بحقّ أفراد العصابة، فهو مأخوذ من حكاية شعبيّة ألمانيّة، وقد جاء هذا الاسم ليرمز إلى التحوّل العميق والجذريّ الّذي أصاب شخصيّة آدم، وجعله ينتقل من إنسان مبدئيّ ومثاليّ إلى إنسان يتعاقد مع الشيطان، فيرتكب جرائم متسلسلة من أجل الانتقام من أشخاص قتلة ومجرمين، باعوا أرواحهم للشيطان أساسًا، وكأنّه بهذا يكون المنتِقم الّذي يؤسّس لانتقامه العادل، القائم على أساس "الجزاء من جنس العمل".

 

الأبوّة في قالب بوليسيّ

إنّ المسلسل بشكل عامّ يأتي زاخرًا بالحوارات الثريّة والأخّاذة، الّتي تعكس مفاهيم الأبوّة ومدى تعلّق الآباء بالأبناء، في إشارة واضحة وعلنيّة إلى مدى تعلّق الدكتور آدم بابنته حياة. ومن تلك الحوارات، تلك القصّة الّتي وردت على لسان الدكتور آدم، في حديث له مع ابنه يوسف حول الأبوّة ومضامينها، حين ورد على لسانه: "‘ألا ترَين المسدّس في يدي؟‘، قصّة، عن أب وبِنْتُه، بتكون البنت حاملة المسدّس وبدها تقتل حبيبها، أبوها بحاول يشلّحها المسدّس وبالغلط بتقتله، وهُوّي عم بموت وبآخر لحظة بتِطّلّع بعيونه، بِيْقُلْها: ’ألا ترَين المسدّس في يدي؟’؛ يعني لا تخافي أنا قوّصت حالي... هاي الأبوّة، بآخر لحظة وإنتا عم بتموت، الشي الوحيد اللي بتفكّر فيه كيف تتطّمّن عن ابنك، وكيف تحميه".

والمسلسل دراميّ بوليسيّ في طابعه، وهو يختلف عن كثير من المسلسلات السوريّة الشبيهة له والمُنْتَجَة على مدار السنوات القليلة الماضية، في أنّه لا يتطرّق إلى أحداث الثورة أو الأزمة السوريّة، كما جرت عادةً تسميتها في مختلف الأعمال الدراميّة السوريّة.

 

دولة الفساد والاستبداد

وعلى الرغم من ابتعاد المسلسل عن أحداث الثورة/ الأزمة السوريّة، فإنّه يمكن القول إنّ التطوّر الدراميّ لشخصيّة بطل المسلسل، وتحوّله من طبيب مبدئيّ مثاليّ، إلى شخص نفعيّ غاياتيّ، تتلخّص غاياته كلّها في الانتقام وتحقيق عدالته الخاصّة، يمكن القول إنّه يأتي محمّلًا بالعديد من الإشارات، ومن أهمّ تلك الإشارات أنّ العيش في دولة الفساد والاستبداد، كفيل بأن يقتل في الإنسان شخصه القانونيّ والأخلاقيّ كذلك؛ فالدكتور آدم هو ذلك الشخص الّذي قُتِل فيه شخصه القانونيّ منذ زمن، حتّى قبل حادثة اختطاف ابنته، وهو ما يظهر واضحًا في كيفيّة تصرّفاته، وفقدانه الثقة بمدى قدرة دولة الفساد الّتي يعيش فيها على انتزاع حقّه له، وآدم هو الشخص الّذي كان مضطرًّا إلى قتل شخصه الأخلاقيّ داخله، ليتحوّل من شخص مثاليّ مبدئيّ إلى شخص هدفه الأوّل والوحيد الانتقام.

إنّه إنسان الحقّ الضائع، الّذي يخرج تعريف الحقّ لديه من كونه شيئًا تتكفّل بتحقيقه له القوانين السارية في المجتمع، إلى شيء يجب عليه نَيْلُه وتحقيقه بيديه...

شرعنة العنف بأداة الحقّ

إنّ شخصيّة الدكتور آدم في مسلسل "مقابلة مع السيّد آدم"، نموذج لشخصيّة كلّ إنسان يعيش في دول الفساد والاستبداد في العالم العربيّ، حيث يكون مُدْرِكًا لمنظومة الحقوق المدنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي يستحقّها، لكنّه محروم منها ولا يملكها؛ إنّه إنسان الحقّ الضائع، الّذي يخرج تعريف الحقّ لديه من كونه شيئًا تتكفّل بتحقيقه له القوانين السارية في المجتمع، إلى شيء يجب عليه نَيْلُه وتحقيقه بيديه، حتّى لو كان ذلك عبر صيغ الانتقام والتصرّف الفرديّة الخارجة عن القانون؛ تلك الصيغ الّتي يتحوّل في إطارها الحقّ، من أداة لعقلنة العنف إلى أداة لشرعنته. إنّه إنسان الحقّ الضائع الّذي تأتي صرخته: "أنا صاحب حقّ" – في بعض الأحيان - في أكثر أشكالها عنفًا وتطرّفًا، حين لا تأتي تلك الصرخة إلّا على أنقاض روح الاجتماع المدنيّ والمواطنيّ فيه!

 

 

إسراء عرفات

 

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في مختلف المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.