"جنين جنين"... الاحتلال ضحيّة ضحاياه

الفنّان محمّد بكري، مخرج «جنين جنين»

 

معانٍ عديدة يحتملها «القضاء»، كما يوافينا بها المعجم، ومنها "سلطة يوكل إليها بحث الخصومات للفصل فيها طبقًا للقانون، أو هيئة العدالة الّتي يُعْهَد إليها في بحث الخلافات للفصل فيها"، ومعنًى آخر هو "التقسيم الإداريّ التابع للمحافظة"، والمعنى الأخير في هذا السياق هو "قضى عليه: قتله". والحديث هنا عن محاولة القضاء على الحقّ بالألم وفي توثيقه، كي يبقى له صوت وصورة.

إنّ قهر إسرائيل للألم يحفر ندبة في القلب والروح والوجدان، تفوق ما يتركه قمع الفرح، ويُضاف إليه القهر الناتج عن مساعي المحتلّ المستعمِر لإثبات أنّه ضحيّة ضحاياه، لتغدو القصّة محصورة بالجنود «الضحايا»، أمّا ضحايا مجزرة مخيّم جنين، من شهدائه والجرحى والأضرار، فليس لهم نصيب في قصر العدالة، وليسوا شأنًا أبدًا.

 

دمية «البابوشكا»

الملفّ الّذي يُفتح لا يُغلق ثانية، أمّا ملفّاتنا الكبيرة فهي مفتوحة منذ البدايات ولا تغلقها إسرائيل، بل هي جزء من عدوانها المستدام على شعبنا. إسرائيل كدولة ممثّلة بالمستشار القضائيّ للحكومة، تلاحق شعبنا ممثّلًا بالفنّان محمّد بكري، على صوته وإبداعه في مواجهة الاحتلال، ومجزرة مخيّم جنين، هي الأخرى جزء من جرائم أوسع، والحديث هنا عن عدوان «السور الواقي».

لماذا هذه الحملة على هذا الإنتاج الفنّيّ السياسيّ وبهذه الحدّة؟ سبعة عشر عامًا والملفّ مفتوح، يفتحونه ضدّ الفنّان كي يُغْلِقوا ملفّ المجزرة والعدوان، وفي هكذا ملفّ تتلاشى الملامح المميّزة بين المحكمة الإجرائيّة والمحكمة الميدانيّة...

إنّ تداخل المجزرة بالمجزرة وبالاحتلال وبالنكبة، يذكّرنا بدمية «البابوشكا» الروسيّة، وشتان الفارق بين «البابوشكا» ودمية المجزرة، فما يميّز الأولى أنّها دمية مصنوعة يدويًّا، عادة من أنواع الخشب الليّن، بحيث تكون دمية وفي داخلها دمية أصغر على ذات الشاكلة، وهكذا لتكون دمًى في دمية، وكلّها بذات الملامح كما تحكي الأساطير الروسيّة. أمّا مجزرة جنين عام 2002، فلم تكن أسطورة، ولم تكن دمية، بل داست دبّاباتها دمى الأطفال من فقراء المخيّم.

لقد كانت ضمن عدوان «السور الواقي» الّذي أعلنه رئيس الحكومة آنذاك إريئيل شارون، وكم من المجاز  يتحمّل مسؤوليّتها، في «قبية» و«صبرا وشاتيلا» و«سيناء» و«مخيّم جنين»، وكلّ المجازر متشابهة، وكلّها تقع إحداها في إطار الأخرى، وكلّها يحمل ذات المزايا والجوهر، حتّى ضحاياها هم أنفسهم.

 

عتاد الثقافة

ويُسْأَل السؤال: لماذا هذه الحملة على هذا الإنتاج الفنّيّ السياسيّ وبهذه الحدّة؟ سبعة عشر عامًا والملفّ مفتوح، يفتحونه ضدّ الفنّان كي يُغْلِقوا ملفّ المجزرة والعدوان، وفي هكذا ملفّ تتلاشى الملامح المميّزة بين المحكمة الإجرائيّة والمحكمة الميدانيّة، فلو جمعنا مجمل التحريض على محمّد بكري منذ إنتاج الفيلم حتّى اليوم، لوجدنا أنّ التشهير هو الجانب المخفّف فيه، بينما يصل الأمر إلى حدود التحريض عليه والنيل منه والتهديد، لكن هذا لا يعني المحكمة الإسرائيليّة. أمّا نحن، فمن كثرة ما اعتدنا عليه لم نعد نكترث له قانونيًّا، بل نواجهه ونصمد في وجهه؛ فالقانون يرفض أن يحمينا، والقضاء يرفض أن ينصفنا.

إنّهم يهابون قوّة الفنّ والإبداع والثقافة، ولا يستطيعون إعمال سطوتهم عليها إن لم تكن خاضعة لهم أصلًا؛ ففي الثقافة والفنّ كيان مستقلّ ومساحة محرّرة بلا تجزيء للوطن ولأماكن الشعب. لدى الثقافة عتاد لا يملكه جبروت جيش الاحتلال ولا سياسات دولته، ليتراجع ويَتَمَتْرَس وراء محكمة وجهاز القضاء، إنّه عتاد الحقيقة وعدالة القضيّة الفلسطينيّة.

 

 

المخيّم ومجزرته

للتذكير، فالمخيّمات هي في المجمل أبناء وبنات وأحفاد أهلنا الّذين طُرِدوا من قراهم ومدنهم عام 1948، وكلٌّ من هؤلاء، كما أسلافهم، يحمل قطعة من ذاكرة الوطن والمكان الأوّل. وفي هذا المخيّم، مخيّن جنين، غالبيّتهم من قضاء حيفا الّذي يمتدّ لغاية بلاد الروحة، وعام 2002 لاحقتهم إسرائيل في عدوان أطلقت عليه اسم «السور الواقي»، وهي تهدم أسوار بيوت اللجوء. ويسقط اثنان وخمسون شهيدًا في المخيّم، بعد أن دمّرت الجرّافات المدرّعة الرهيبة مئات البيوت والمحالّ، للتخلّص من أزقّته الّتي كانت تشكّل قاعدة انطلاقٍ وملاذًّا في مواجهة جيش الاحتلال، وفيها تكثّفت ذاكرة المخيّم وقصّة الشعب.

ما إن أُتيح المجال لدخول المخيّم كان محمّد بكري هناك، وكلّ مَنْ زار المخيّم في تلك الأيّام للاطمئنان على الأهل أسهم في تقاسم هموم الناس، البعض في الإغاثة، والأخريات والآخرون في تقديم العلاج الأوّليّ للجرحى، والبعض لمواساة أهالي الشهداء وللمساندة الشعبيّة والسياسيّة. وكان ثمّة من الأخوات والإخوة الّذين حضروا تماثلًا مع الأهل هناك، ومن أجل توثيق المجزرة. وما إن بدأت العروض الأوّليّة للفيلم الوثائقيّ «جنين جنين» حتّى ثارت ثائرة كتيبة الاحتلال، ورفعت دعوى انتهت في «المحكمة العليا».

 

الجندي الضحيّة

سعت «المحكمة العليا» عام 2004 إلى حصر المسألة، بل محاصرتها في المساحة بين حرّيّة التعبير والتشهير الجماعيّ ضدّ الجيش، ومن منطلق إجرائيّ قانونيّ يقول بأنّ دعوات التشهير ينبغي أن تكون شخصيّة فرديّة. توجّه «المحكمة العليا» مهّد الطريق عمليًّا إلى قرار «مركزيّة اللدّ» حديثًا، كي تحكم لصالح الجنديّ، "هذا المواطن الفرد الّذي ذهب في خدمة الدولة فوجد نفسه..."، وهكذا بات هو الضحيّة، مسنودًا من كتيبة وجيش وقضاء وإعلام ودولة، مقابل محمّد بكري الّذي انتزعوا منه صفة الفرد دون أن يحدّدوا مَنْ هو! وجاء تحويلها إلى المسار الفرديّ، لتتكامل أركان تجريم الضحيّة وتبرئة المجرم الحقيقيّ من احتلاله ومجزرته. بل إنّ القاضية عيّنت ذاتها ناقدة أفلام، وهي تتدخّل أوثائقيًّا كان الفيلم أم لا! لكن ليس هذا موضوعنا.

في الجوهر وحسب المحكمة، لا يوجد احتلال ولا اجتياح، وهذا دورها، وتُضاف إليه المقولة المحبّبة لدى القضاة فقط، حين ينظرون في ملفّات العرب الفلسطينيّين، وهي "القاضي بين شعبه يقيم"...

في مفهومها العميق، ليست المسألة حرّيّة تعبير، إنّها مسألة احتلال ومسألة مجزرة وشعب لا يستسلم. تاريخيًّا كنّا ضحايا الديمقراطيّة الإسرائيليّة؛ فهي شكل المنظومة، أمّا جوهرها فهو في يهوديّتها وفي طابعها الاستعماريّ الاستيطانيّ العنصريّ، وليس طابع المستعمِر اللطيف الليبراليّ من حيث الخطاب بأفضل حالًا من المستعمِر غير اللطيف؛ ففي «لطفهم» قهر، وفي فظاظتهم كشف لجوهر اللطف الاحتلاليّ.

في الجوهر وحسب المحكمة، لا يوجد احتلال ولا اجتياح، وهذا دورها، وتُضاف إليه المقولة المحبّبة لدى القضاة فقط، حين ينظرون في ملفّات العرب الفلسطينيّين، وهي "القاضي بين شعبه يقيم"، وفي المقابل لا تعترف بحقّ موازٍ لمحمّد بكري أو للشيخ رائد صلاح قبل أشهر، أو لأيٍّ منّا، في أن ينتمي إلى شعبه، وهي مقولة تمنح القضاة مساحة جديدة صادروها من مساحات العدالة، وهوّدوا النزاهة وأخلاقيّات المهنة.

قد يعود جنديّ الاحتلال إلى بيته مُعْتَدًّا بنفسه وبطهارة السلاح، وقد زاد إلى ثروته مئة وخمسة وسبعين ألف شيكل، ولا بدّ من وجود إجراء احتلاليّ مفرط في إنسانيّته، يعفيه من الحسم الضريبيّ، ليُضاف هذا المبلغ من حيث مغزاه وقيمته إلى تقاسم الثروة الجماعيّة التاريخيّة الكبرى، الّتي بُنِيَت - ولا تزال تُبْنى - على غنائم نهب شعبنا ووطنه، ومنها نهب البلدات والممتلكات والبيوت والأراضي من الأهل في مخيّم جنين.

خسر بكري المحكمة، وفي خسارته انتصار أخلاقيّ هائل للفنّان، ولِما يمثّله من عمل إبداعيّ، ومن رفض الاعتذار إلى قِيَم العسكريّة الإسرائيليّة الاحتلاليّة...

أمّا محمّد بكري، فإنّه يعود ومعه كرامة شعب يحملها فنّان. خسر بكري المحكمة، وفي خسارته انتصار أخلاقيّ هائل للفنّان، ولِما يمثّله من عمل إبداعيّ، ومن رفض الاعتذار إلى قِيَم العسكريّة الإسرائيليّة الاحتلاليّة، وهذه المسألة تجعل انتصارهم القضائيّ الذاتيّ هزيمة لهم، يجرجرون أذيالها بفرض غرامة ماليّة.

 

في التكافل وتقاسم المسؤوليّة

الغرامة الماليّة الّتي تصل في المجمل إلى نحو ربع مليون شيكل ليست الأساس، بل قرّرتها المحكمة إمعانًا في العقاب الشخصيّ لمحمّد بكري، وفي إثبات براءة جيش الاحتلال، وإلغاء المجزرة. وبالنسبة إلينا، نحن الشعب الفلسطينيّ، ومعنا أنصار الحرّيّة في البلاد والعالم ونصيراتها، فإنّ تحمّل مسؤوليّة الغرامات ليس مسألة ماليّة أيضًا، بل هي رسالتنا جميعًا، بأنّ «جنين جنين» رواية شعب وقضيّته العادلة، وبأنّ المحكمة قد حكمت ضدّ شعب ضحيّة احتلالها، ضدّنا جميعًا، وبأنّ تقاسم المسؤوليّة دور الشعب.

إنّها مناسبة كي نتعامل معها بأنّها فرصة للانطلاق نحو إنشاء صندوق شعبيّ وطنيّ، لحماية ثقافتنا ولحماية روايتنا في مواجهة قضائهم، واللحظة مؤاتية، ثمّ إنّ تسمية مثل هذا الصندوق «جنين جنين» فيها رسالة ومظاهرة شعب.

 

 

أمير مخّول

 

 

أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ "اتّجاه - اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.