أفلام العودة إلى البيت

مبنًى فلسطينيّ مهجّر عام 1948، النبعة | يحيى يونس

 

كي لا يعودوا

منذ بدء عمليّة احتلال فلسطين، انتهجت العصابات الصهيونيّة عددًا من الأساليب لإفراغ البلاد من أهلها وهويّتها وحضارتها وتاريخها، وكانت البيوت أحد أبرز الأهداف ضمن مساعي طمس معالم الوجود الفلسطينيّ. فهدمت العصابات الصهيونيّة بيوتًا وفجّرتها، واستولت على أخرى تحمل الكثير من سمات الرقيّ والحضريّة، ومنحتها لعائلات يهوديّة.

كتب المؤرّخ إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقيّ في فلسطين» (2007) ما يلي: "كانت ردّة فعل بن غوريون الأساسيّة تكثيف توطين المهاجرين اليهود في الأراضي المصادرة والبيوت المُفْرَغَة من أصحابها [...]، عيّن بن غوريون مرّة أخرى هيئة أشبه بعصبة سرّيّة، سرعان ما عمدت إلى تشجيع مئات الآلاف من اليهود المهاجرين من أوروبّا والعالم العربيّ، على الاستيلاء على البيوت الفلسطينيّة المتروكة في البلدات والمدن" (ص 204).

عيّن بن غوريون مرّة أخرى هيئة أشبه بعصبة سرّيّة، سرعان ما عمدت إلى تشجيع مئات الآلاف من اليهود المهاجرين من أوروبّا والعالم العربيّ، على الاستيلاء على البيوت الفلسطينيّة المتروكة في البلدات والمدن...

أمّا آدم راز فوصف في كتابه «نهب الممتلكات العربيّة خلال حرب الاستقلال» (2021) سلب البيوت العربيّة بما يلي: "هذا ما حصل ليوسف خليل مهيشم، تاجر عربيّ من سكّان حيفا، الّذي زاره في بيته شخص يُدْعى ناحوم جوطمان من الشرطة العسكريّة، وبيده ورقة مكتوبة باللغة العبريّة الّتي لا يفهمها، مدّعيًا أنّ ما كُتِبَ في الورقة يتيح له أخذ غرفة في البيت [...] لم تمضِ بضعة أيّام، فيما كان مهيشم وزوجته خارج البيت المحتلّ، عاد جوطمان برفقة أشخاص إضافيّين، واقتحم أبواب غرف البيت" (ص 51). وفي ذات السياق، ذكر مراسلات حول مصير البيوت العربيّة في صفد المهجّرة: "إذا لم تأتِ أعداد كبيرة من القادمين إلى صفد، وبسرعة، فإنّ يهود صفد يقترحون تفجير البيوت؛ كي لا يكون للعرب مكان يرجعون إليه" (ص 129).

 

يفتحون الباب، لكن...

لم تغب قصّة البيوت عن عين سينما القضيّة الفلسطينيّة، تُعَدّ هذه الأفلام ضروريّة للإبقاء على الصلة المادّيّة والروحيّة بين الفلسطينيّ وقضيّته، والبيت حيًّا كأحد أهمّ مركّبات العودة. يمكن بطل الفيلم أن يمضي في رحلة بحث ترافقه عين الكاميرا والمخرج، فيوظّف الفيلم للتوثيق والتحفيز، والحفاظ على نبض القضيّة الفلسطينيّة المتمثّل بحقّ العودة إلى البيوت الّتي هُجِّرَت ومشروعيّة النضال.

عالج عدد من صنّاع السينما العرب والفلسطينيّين قضيّة البيت، وتحويله إلى ثيمة سينمائيّة، وإعادته إلى ذهن المشاهد الفلسطينيّ والعربيّ، كأحد أهمّ رموز النكبة؛ فالبيت المسلوب حالة فرديّة تُجَسِّد الوطن الجامع المحتلّ.

لقد اجتمع عدد من الأفلام على مشهد اللقاء بين أصحاب البيت الأصليّين ومحتلّيه، وبرز في جميعها فتح الباب واستقبال الإسرائيليّين للفلسطينيّين، ورغبتهم في الاستماع إلى القصص الشخصيّة، إلّا أنّهم جميعًا لم يُبْدوا تفهّمًا أو تعاطفًا أو اعترافًا بالحقّ، وهذا في بعض الأفلام يبدو محيّرًا لمشاهد «محايد»، يرى فيه إسرائيليًّا منفتحًا متقبّلًا لرواية الآخر!

 

بيوت في الأفلام

أخرج العراقيّ كاظم العطريّ فيلمه الروائيّ القصير «البيت» (1976)، المأخوذ عن قصّة للأديب زكريّا تامر. تناول العطريّ في هذا الفيلم رمزيّة البيت، فالكائنات الحيّة جمعاء تأوي إلى بيوتها إلّا الإنسان الفلسطينيّ.

أمّا المخرج غالب شعث فقدّم في فيلمه التسجيليّ القصير «المفتاح» (1976)، الّذي أنتجته مؤسّسة «صامد»، وحاز على جائزة أفضل فيلم في 5 مهرجانات عالميّة آنذاك، قدّم حكاية مفتاح البيت الّذي لا يزال الفلسطينيّون يحتفظون به رمزَ أمل العودة، وحكاية التضييقات في مجال البناء والإسكان الّتي تنتهجها السلطات الإسرائيليّة تجاه الفلسطينيّين، وكذلك السلطات اللبنانيّة ضدّ اللاجئين سكّان مخيّم برج البراجنة.

قدّم المخرج العراقيّ قاسم حَوَل فيلمه الروائيّ الطويل «عائد إلى حيفا» (1981)، المأخوذ عن رواية غسّان كنفاني. هناك تقرّر اللاجئة صفيّة المهجّرة من حيفا زيارة بيتها، فتجد أنّ عائلة يهوديّة سكنت البيت، وربّت ابنها خلدون الّذي نُسِيَ في البيت...

المخرج والممثّل سليم ضَوّ قدّم هو الآخر حكاية مفتاح البيت الّذي ينتظر العودة، من خلال فيلمه الوثائقيّ «مفاتيح» (2003).

أخرج الإسرائيليّ الرافض للسياسات الإسرائيليّة عاموس جيتاي، فيلمه التسجيليّ «بيت» (1980)، الّذي يروي قصّة أحد البيوت المقدسيّة التاريخيّة لصاحبه الطبيب محمّد الدجاني، والّذي انتقل بفعل «قانون أملاك الغائبين» إلى أيدي مهاجرين يهود، ومن ثَمّ إلى يدَي محاضر جامعيّ يرمّمه، ويمحو طبقات التاريخ الّتي تحملها جدرانه وتصميمه. بعد نحو عشرين عامًا، يعود جيتاي إلى البيت ذاته؛ ليواكب التغييرات الطارئة عليه، من خلال فيلم تسجيليّ جديد، يحمل اسم «بيت في القدس» (1998).

قدّم المخرج العراقيّ قاسم حَوَل فيلمه الروائيّ الطويل «عائد إلى حيفا» (1981)، المأخوذ عن رواية غسّان كنفاني. هناك تقرّر اللاجئة صفيّة المهجّرة من حيفا زيارة بيتها، فتجد أنّ عائلة يهوديّة سكنت البيت، وربّت ابنها خلدون الّذي نُسِيَ في البيت من هول ما حلّ بأهله خلال النكبة.

وعن نفس الرواية، قدّم المخرج الإيرانيّ سيف الله داد فيلمه الروائيّ الطويل «المتبقّي» (1995)، حيث تحصل عائلة يهوديّة على بيت فلسطينيّ في حيفا، وتعثر فيه على طفل رضيع، لكنّ العائدة إلى البيت في هذه النسخة من رواية كنفاني هي جدّة الطفل، الّتي تأتي للعمل مربّية له، وتقدّم روحها فداءً لفلسطين، في عمليّة استشهاديّة.

قدّمت الفلسطينيّة عزّة الحسن الفيلم التسجيليّ القصير «كوشان موسى» (1995)، وتتبّعت فيه مصير وثائق ملكيّة بيوت الفلسطينيّين، سواء مَنْ هُجِّروا أو مَنْ بَقَوْا تحت الاحتلال. وعادت الحسن لتُخْرِجَ فيلم «المكان» (2000)، وفيه تعرض صورة عن «بيت الجدّة» العابق بروح أهله الّذين هُجِّروا.

 

الحقّ

بعد عام 2000، بدأت الأفلام تشهد تغييرًا لافتًا في التوجّه، انطلق مسار العودة الفعليّ إلى البيت والمطالبة بالحقّ، فقد أعادت المخرجة آن ماري جاسر بطلتها «ثريّا» إلى بيت عائلتها السليب في يافا، من خلال فيلمها الروائيّ الطويل «ملح هذا البحر» (2008)، وثريّا لا تكتفي بالزيارة ودخول البيت والمبيت فيه، بل تطالب باسترجاعه من ساكنته الإسرائيليّة الّتي تحتمي بالشرطة من إصرار ثريّا.

حاول الطبيب الإسرائيليّ ميخائيل كمينر معالجة شعوره بالذنب نتيجة قيام قريته التعاونيّة «تْسورْعا» على أنقاض قرية فلسطينيّة. في فيلمه الوثائقيّ «صرعة» (2015)، يستضيف سارة أبو لطيفة ابنة مختار القرية المهجّرة، ويرافقها إلى بيت والدها الّذي لا يزال قائمًا على تلّة، حيث تواجه إنكار سكّان القرية الإسرائيليّين، وتنكّرهم لأملاك والدها وأهل قريته.

نشأت الصحافيّة نضال رافع على حرص والدتها سارة جودة على إعادة منزل العائلة في حيفا إلى أصحابه الأصليّين. تنتقل نضال من بلد إلى آخر حتّى تنجح في استضافة عائلة أبو غيدا المهجَّرين...

رافقت المخرجة ساهرة درباس اللاجئة الفلسطينيّة فاليري بشارات، خلال زيارتها بيت جدّها «فيلا هارون الرشيد» في القدس؛ لتكون محور فيلمها التسجيليّ الطويل «على عتبة الدار» (2018). تلتقي فاليري بساكنة البيت المسنّة الإسرائيليّة، وتصرّ على أنّ عائلتها تملك البيت، ولم تَبِعْه أو تتخّلى عنه. هذا الإصرار يدفع ساكنة البيت إلى الامتناع عن استقبال فاليري مرّة أخرى.

رغم حسن اختيار القصّة، إلّا أنّ تصوير الفيلم وتحرّك الكاميرا، لم يكن على قدر كافٍ من الجودة. أمّا مأخذي الأكثر جدّيّة فهو انتهاؤه بكتابة رسالة من فاليري إلى المحتلّة الإسرائيليّة، تتضمّن دعوة إلى السلام. خلال حواراتهما القصيرة لم تُبْدِ الساكنة تعاطفًا مع حقّ فاليري أو رغبتها، وألقت باللوم على العائلة الّتي آثرت هجران البيت، كما صدّت بابها بوجه الزائرة الّتي لم تتوقّف عن البكاء، تأثّرًا وارتباطًا بقصّة عائلتها، فهل بقي للتنازل والسلام مكان؟

في «عبّاس 36» (2019)، قدّمت المخرجة مروة جبارة توثيقًا لواحدة من أسمى قصص البيوت على الإطلاق. نشأت الصحافيّة نضال رافع على حرص والدتها سارة جودة على إعادة منزل العائلة في حيفا إلى أصحابه الأصليّين. تنتقل نضال من بلد إلى آخر حتّى تنجح في استضافة عائلة أبو غيدا المهجَّرين، وتسليمهم مفتاح بيتهم الّذي هُجِّروا منه.

 

 

سماح بصول

 

 

صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، والماجستير في ثقافة السينما، وتدرس حاليًّا الماجستير في الأدب العربيّ.