«مدرسة الروابي للبنات»... كيف يصير الإنسان الهشّ عنيفًا؟

من مسلسل «مدرسة الروابي للبنات»

 

ليس مسلسل «مدرسة الروابي للبنات» محايدًا، ولا يهدف إلى التسلية فقط، بل يحمل رسالة واضحة، ويتوجّه إلى جمهور واضح، مع احتمال ملاءمته لشريحة أوسع، ومن اللافت للانتباه العنصر النسائيّ فيه، المخرجة، الممثّلات طالبات وطاقم تربويّ، المحور نسائيّ، وأحداث الفيلم تدور في مدرسة بنات، ويغلب عليه اللون الزهريّ، الّذي نُمِّطَ ارتباطه بالأنثى عالميًّا.

يتضمّن المسلسل قيمًا ومفاهيم نسويّة يعكسها اختيار الأغاني، وإتاحة المجال لظهور شخصيّات ممّن يطلق عليها المجتمع "المتمرّدة علنًا" و"المتمرّدة سرًّا"، إلى تجرّئه على طرح قضايا ملحّة وجديرة. لفت نظري فيه، أنّ العناوين قبل بداية كلّ حلقة تتحدّث عن ظاهرة التنمّر، وتوجّه المعنيّات إلى عناوين لتلقّي الدعم المهنيّ النفسيّ والاجتماعيّ.

أثار انتباهي حجم النقاش الدائر حول المسلسل، وكثيرٌ منه معارضٌ له ومنتقد؛ ما دفعني إلى محاولة استقراء وفهم مضمون النقاش حوله وأسباب نقده.

 

الزيف والاصطناع

يتناول المسلسل ظواهر مجتمعيّة ذكوريّة وطبقيّة، يحارب بعضها ويناقشها، ويترك الأخرى على حالها، يفضح بعضها ويكشف عنها وعن ازدواجيّة المعايير القيميّة، والحياة الّتي تعيشها هؤلاء الفتيات الجميلات بشكلٍ لافت، من بنات العائلات المقتدرة الّتي تقدر على "أن تخرّب المدرسة وتغلقها"؛ بسطوتها وسلطتها وقدرتها المادّيّة.

 

 

السلوكات «المطلوبة» مصطنعة وزائفة، إلى درجة أنّ «العصابة»، نعم، العصابة، الّتي تسيطر على المدرسة في المظهر جميلة ناعمة زهريّة اللون، وفي الفعل هي عنيفة ذكوريّة قامعة طبقيّة، إلى درجة العنف وارتكاب الجريمة والكذب والنفاق، وإلى درجة استغلال مفاهيم جنسيّة قائمة لمحاربة الفتيات أنفسهنّ بها، «التحرّش الجنسيّ»، مثل ادّعاء ملامسة فتاة لنهدَي فتاة أخرى، وهو خطّ أحمر يؤدّي إلى إبعاد الفتاة عن المدرسة، وفرض ضرورة تلقّيها العلاج.

يعالج المسلسل أيضًا بحساسيّة، الزيف الّذي تحمله بعض الفتيات اللاتي يدّعين «التديّن»؛ رقيّة، ظاهريًّا هي فتاة تلبس على رأسها، وباطنًا هي فتاة عنيفة، لا تحمل الرحمة، ولا تتّبع مفاهيم الدين وتعاليمه، من تسامح وطيبة واحترام للآخر وتقبّل، وما إلى ذلك، ويُظْهِرُها كغيرها من الفتيات في النهاية، تحبّ وترغب في أن تشعر بأنّها مرغوبة ومعشوقة وتتبع الموضة، ولديها رغبات وحاجات لا تختلف عن البنات الأخريات، وتقع فريسة لذلك.

 

التحرّش

لم يكن العنف أو الاعتداء أو الهروب من المدرسة خطًّا أحمر كفايةً، لكنّ التحرّش الجنسيّ، وما يُسَمّى شرف العائلة كانا ذروة المسلسل.

عاد التحرّش الجنسيّ ليظهر بقوّة أيضًا، حين يسمح غريب لنفسه بملامسة فتاة في أثناء وجودها في البركة، فجأة تتغيّر تصرّفات الفتاة العنيفة، ابنة الذوات، الّتي ظهرت كأنّها بلا قلب وبلا رحمة، ليظهر أنّها فتاة متعاطفة إنسانيّة، تُبْدي ما نعتبره مفهومًا وتصرّفًا نسويًّا؛ أي مساندة فتاة لفتاة (المرأة للمرأة)، تفهمها وتحسّ بما تشعر به، وبدون أن يقول المسلسل ذلك يضعنا أمام السؤال: ما الّذي جعلها تتغيّر فجأة وتتعاطف؟ هل كانت هي أيضًا عرضة لاعتداء، ولربّما داخل عائلتها من إخوة ذكوريّين يسمحون لأنفسهم بالدخول إلى غرفتها وتفتيش أغراضها وملاحقتها؟ ومجدّدًا ثمّة ردّ الفعل المجتمعيّ النمطيّ، الّذي يرسّخ المفاهيم الذكوريّة القائمة، المتجسّد بشخصيّة المعلّمة عبير، الّتي تسارع إلى لوم الفتاة الضحيّة وليس المعتدي؛ فالفتاة الضحيّة- حسب المعلّمة - هي مَنْ تسبّبت في تعرّضها للتحرّش بسبب تصرّفاتها ووجودها وحدها في لباس غير محتشم. وهو كما يبدو الوضع وردّ الفعل المتوقّع، الّذي أخرس الفتاة الضحيّة، وجعلها تصمت على حقّها، ولا تخبر المربّية بكلّ التفاصيل.

بات السرّ الّذي جمع بين المتمرّدة وزعيمة العصابة الّتي تحوّلت إلى فتاة لطيفة، تتماثل مع الضحيّة، رغم أنّها هي نفسها استعملت مفاهيم عنيفة، واستعملت طابو اللمس الجسديّ بين فتاتين؛ لتحوّل بطلة المسلسل إلى ضحيّتها. فهل في هذا تناقض؟

يبيّن المسلسل كيف أنّ الفتاة الّتي تظهر على أنّها «متمرّدة» تصبح فجأة هشّة، حين تتحوّل إلى ضحيّة تحرّش جنسيّ. يعتقد البعض أنّ الأمر غير واقعيّ أو مبالغ فيه، لكنّه الأقرب إلى الواقعيّة؛ فالقيود المجتمعيّة والنقد والتذنيب تجعل أقوى الفتيات والنساء تصمت على التحرّش؛ ليتحوّل إلى السرّ الّذي تحفظه في قلبها، وفي المسلسل بات السرّ الّذي جمع بين المتمرّدة وزعيمة العصابة الّتي تحوّلت إلى فتاة لطيفة، تتماثل مع الضحيّة، رغم أنّها هي نفسها استعملت مفاهيم عنيفة، واستعملت طابو اللمس الجسديّ بين فتاتين؛ لتحوّل بطلة المسلسل إلى ضحيّتها. فهل في هذا تناقض؟ وهل وقع المسلسل في خطأ؟

 

من تجربتي معالجةً لسنوات سابقة، أقول: لا، لم يكن خطأ، بل كثيرًا ما يكون المعتدون ضحايا لمعتدين آخرين، يتقمّصون شخصيّاتهم، ويتقمّصون الدور العنيف والمستقوي بفظاظة ليحموا أنفسهم. ليس كلّهم طبعًا؛ فثمّة من يُسائِل نفسه ويفحص الذات، ومنهم مَنْ يطلب العلاج، ليس علاجًا نمطيًّا فقط، بل علاج حقيقيّ يدعم ويساعد.

 

فساد المؤسّسة التربويّة

من السجالات الّتي سمعتها، أنّ المسلسل لم يعكس حقيقة واقع الأردنّ، مع أنّه مسلسل أردنيّ، وكان عليه أن يفعل ذلك. لكنّي لا أتّفق مع هذا الطرح، بل أعتقد أنّ قوّة المسلسل تكمن في أنّه استعار الأدوات المحلّيّة المكانيّة: اللهجة، واللباس، ولربّما اسم المدرسة؛ ليخرج منها إلى العامّ ويقول إنّ هذه القصّة والأحداث لا تخصّ مدرسة بعينها في الأردنّ أو شريحةً ما هناك، بل هي ظاهرة وواقع عربيّ أوسع، ونعرف أيضًا أنّها ظاهرة عالميّة تخصّ مجتمعات أخرى كثيرة، حيث يتشابه المسلسل بطرحه مع الكثير من القضايا، مع مسلسلات وأفلام غير عربيّة طرحت مشاكل الشباب وقضاياهم: التنمّر والغيرة والحبّ والعنف والجنس والطبقيّة والذكوريّة، وهمّشت التعليم؛ فالتعليم ليس المحور، بل ما يمرّ به جيل الشباب أثناء وجودهم في المدارس في الإطار التعليميّ، ويضع علامة سؤال كبيرة على قضيّة التعليم، دون أن يناقشها مباشرة أو يخوض في تفاصيلها. 

على الرغم من أنّ المسلسل لا يتمحور في العمليّة التربويّة، إنّما في العلاقات بين الطالبات، إلّا أنّه يعرض لنا بشكل نقديّ أدوار الطاقم التدريسيّ - المديرة ومربّية الصف، ويُظْهِر تغلغل الرجعيّة والذكوريّة والطبقيّة والمصلحة، فبينما تقوم المربّية بدور المربّية التقليديّ، الّتي تحمل العصا بيدها، وتتربّص البنات لتعاقبهنّ، بدل أن تكون أذنًا صاغية لهنّ، يظهر الزيف الكبير الّذي تعيش به مديرة المدرسة، الّتي لا تهمّها البنات وما يشعرن به، بل كلّ ما يهمّها هو القشور، وأن يبقى اسم المدرسة، واسمها المرتبط به، جميلين يحصدان الجوائز ونياشين التقدير، وهي تعلم ما يحدث داخل الأروقة؛ فلا تعالج القضايا الشائكة حقّ معالجة، بل تلجأ إلى التغطية والتستّر، تمامًا كما يحدث خارج المجتمع. ويعرض لنا دور المعلّمة الأقرب إلى الفتيات؛ معلّمة الرياضة الّتي هي أقرب جيلًا وشخصيّة، وتحاول دعم الطالبات، لكنّها أيضًا تخضع لنفس المنظومة ولا تحاربها، كالتوجّه مع المعلّمة عبير؛ لتفقّد الفتيات في غرفهنّ أثناء الرحلة المدرسيّة، وتأدية دور الرقيب، والتعامل بمفاهيم الخطأ والعقاب لا الحبّ والاحتضان والدعم.

 

النقمة

ينتقد المسلسل الأهل والمعالجين النمطيّين الّذين لا يصغون إلى الوجع، ولا إلى ما يقول البنات والأبناء، بل يحرّكهم ما يقول المجتمع والعيب والعار والفضيحة. الأمّ الّتي لا تصغي إلى ابنتها ووجعها وبكائها، وما يقلقها هو «الفضيحة» وكيف بهدلتها ابنتها بتصرّفاتها المشينة. الأب الآخر الّذي لا يصغي إلى ابنته، بل ينشغل بمتابعة التلفزيون، ويعطي شرعيّة لتدخّل الإخوة الذكور بأختهم.

لربّما أحسّ المشاهدون بقوّة النقمة لدى بطلة المسلسل، لكن خلف هذه النقمة كانت فتاة وحيدة، شعورها بالوحدة القاتلة كان المحرّك الأساس خلف نقمتها.

 

للوهلة الأولى نتماثل مع بطلة المسلسل الّتي تتعرّض للتنمّر، ثمّ نتماثل مع الفتاة المتنمّرة وصديقاتها، حين نفهم أنّهنّ أيضًا ضحايا العائلة والمجتمع والقيم والمفاهيم. لكن، وأقولها هنا أيضًا بصفتي معالجة، وعملت مع أطفال وشباب وفتيات في ضائقة، إنّني أتفهّم كلّيًّا ما تمرّ به الفتاة الّتي تعرّضت للتنمّر، وإصرارها على المضيّ بخططها بشكل متطرّف، ففي الغالب مَنْ يتعرّض للعنف والتنمّر والاعتداء الجنسيّ، يمكن أن يتحوّل بنفسه إلى معتدٍ ومتنمّر، وتحرّكه رغبة الانتقام القويّة عندما يشعر بأنّه وحيد، وبأنّ المجتمع لا يفهمه ولا يسمعه، لا أهلَ ولا معالجين، ولا حتّى أصدقاء.

لربّما أحسّ المشاهدون بقوّة النقمة لدى بطلة المسلسل، لكن خلف هذه النقمة كانت فتاة وحيدة، شعورها بالوحدة القاتلة كان المحرّك الأساس خلف نقمتها. وفي هذا السياق أعجبني أداء الفتيات الممثّلات، وبشكل خاصّ الطالبات اللاتي عشن الأدوار وأدّينها بنجاح.

 

نقد النقد

ما لفت نظري في السجال الدائر حول المسلسل، هو تشابهه مع سجالات أخرى سمعتها وتابعتها سابقًا حول أفلام نسائيّة إخراجًا وتمثيلًا. على سبيل المثال، أثار فيلم «برّ وبحر» الفلسطينيّ الكثير من النقد، ودار سجال بين مؤيّد ومعارض، حول المواضيع الّتي عالجها، والشريحة المجتمعيّة الّتي يعرضها، والّتي تسكن في تل أبيب «المدينة»؛ فثارت ثائرة الكثيرين بأنّ مجتمعنا يخلو من هذه «الظواهر»، والقصد المثليّون والمتحوّلون، والكحول والمخدّرات. وأثار فيلم «فيلا توما» بعضًا من النقد حول تزمّت الشخصيّات الأخوات «العوانس»، إلى درجة المبالغة في عرض شخصيّاتهنّ، وأثارت نهاية الفيلم سجالًا حول مدى واقعيّتها.

لكن، يتناسى الكثيرون أنّ دور المسلسل والفيلم ليس طرح الحلول ولا علاج الإشكاليّات؛ فهذا دور المجتمع والمؤسّسات والأطر العلاجيّة؛ فيكفي أن يسلّط الضوء على قضيّة ما بشكل جميل، وبأداء صادق لا يُشْعِرُكَ بالمبالغة.

كلّنا يعلم أنّ «نتفلكس» مؤسّسة ربحيّة يهمّها جني الأرباح. نقدي ليس لها هنا، وبالإمكان انتقادها في كثير من الأمور، لكنّها واضحة، وبإمكاننا عدم متابعتها وعدم دعمها اقتصاديًّا. نقدي هو حول أدائنا المجتمعيّ؛ فقد لفت نظري غير مرّة في انحصار بعض النقد في الممثّلين والممثّلات وأدوارهم التمثيليّة، وأحيانًا كان الشعور بأنّنا نحكم عليهم من منظار شخصيّ، سواء تجاه الممثّلين أو المخرجين...

نحن أيضًا؛ المجتمع، النقّاد، متذوّقي الفنّ، المشاهدين، نحن أيضًا لسنا موضوعيّين، نحكم على الأعمال ليس بموضوعيّة، وبمفاهيم الفنّ والأداء والمعايير السينمائيّة فحسب، بل نُدْخِل إلى نقدنا الكثير من المفاهيم والمناحي الشخصيّة...

ثمّة ممثّلات شاركن في أدوار أساءت إلى قضيّتنا ومجتمعنا، وعرضن دورًا نمطيًّا، ورسّخن  الأفكار النمطيّة الرجعيّة عن المرأة، أو عن الفلسطينيّ، لكنّ هذه الأدوار لم تتعرّض للنقد. ثمّة ممثّلون وممثّلات شاركوا في مسلسلات اعتُبِرَت خطًّا أحمر، وشاركوا لاحقًا في أعمال وطنيّة دون أيّ مراجعة نقديّة، بينما في المقابل تعرّض آخرون «للتنمّر» المجتمعيّ وللنقد الحادّ على أعمال مشابهة، أو حتّى في نفس العمل.

نحن أيضًا؛ المجتمع، النقّاد، متذوّقي الفنّ، المشاهدين، نحن أيضًا لسنا موضوعيّين، نحكم على الأعمال ليس بموضوعيّة، وبمفاهيم الفنّ والأداء والمعايير السينمائيّة فحسب، بل نُدْخِل إلى نقدنا الكثير من المفاهيم والمناحي الشخصيّة.

فإن كان هذا هو إسهام مسلسل «مدرسة الروابي للبنات» فهذا دليل على وصول الرسالة.

 

 


جنان عبده

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب "الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48" عن "مدى الكرمل". تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.