«أميرة»... هل يستطيع الفلسطينيّ أن يتكلّم؟

من فيلم «أميرة»

 

كُتِبَت هذه المادّة على هامش ما حدث ويحدث بشأن فيلم «أميرة»، للمخرج المصريّ محمّد دياب، وإنتاج المخرج الفلسطينيّ هاني أبو أسعد، وفي البطولة الممثّلة الأردنيّة صبا مبارك. والفيلم من إنتاج مصريّ، فلسطينيّ، أردنيّ مشترك. لا تتناول المادّة مضمون الفيلم نفسه، فالنظر هنا لن يتناول العمل من ناحية سرد أو صورة، أو حبكة، أو صناعة، أو مقولة سياسيّة أو غيرها، بل إنّ كاتب هذه السطور وإلى حين كتابة هذه السطور، لم يكن قد شاهد الفيلم بعد. تعالج هذه المادّة، ببساطة، مسألة الحرّيّة والمسؤوليّة في التعاطي مع أيّ منتج ثقافيّ عن فلسطين، وكذلك الحرّيّة والمسؤوليّة الّتي تأتي مع القضايا العادلة والمحقّة كالقضيّة الفلسطينيّة. والأهمّ هو محاولة الحفر في سؤال الفاعليّة الفلسطينيّة: هل يمكن للفلسطينيّ أن يتكلّم؟ 

نستحضر في الخلفيّة مشهدًا أليمًا من مشاهد «الأوديسا» لهوميروس؛ إذ تمرّ سفينة أوديسيوس ورجاله في طريق عودتها إلى الوطن ببحر الحوريّات، اللائي يدفع غنائهنّ الرجال إلى الجنون. فما كان من أوديسيوس إلّا أن صَبَّ في آذان رجاله شمعًا منصهرًا، كي لا يتسلّل غناء الحوريّات إلى قلوبهم وعقولهم، فيصيبهم مسّ من جنون، وكذلك طلب من رجاله أن يربطوه بصاري السفينة بقوّة كي يقاوم غناء الحوريّات.  

"أوديسيوس "أكبر مصاب بالحنين" في المخيال السرديّ الإنسانيّ، بحسب وصف سفيتلانا بويم، ومن هنا يمكن مقاربته بالفلسطينيّ المصاب بالحنين، والمهموم بالعودة إلى وطنه، والمشغول بملحمته وعدالتها"...

لنتأمّل أمرًا أساسيًّا هنا: «الأوديسا» هي ملحمة «العودة» إلى الوطن؛ فأوديسيوس "أكبر مصاب بالحنين" في المخيال السرديّ الإنسانيّ، بحسب وصف سفيتلانا بويم، ومن هنا يمكن مقاربته بالفلسطينيّ المصاب بالحنين، والمهموم بالعودة إلى وطنه، والمشغول بملحمته وعدالتها. لكنّ الملحمة لم تُخبِر ما كان مضمون غناء الحوريّات، ولماذا ربط أوديسيوس نفسه فقط، ولم يربط رجاله أيضًا بدلًا من ملء آذانهم بالشمع المنصهر؟ 

والآن، وبعد بناء مقايسة استعاريّة تخيّليّة، نعود إلى فيلم «أميرة» والموقف منه، وهنا لنا أن نتأمّل هذا الموقف وتراكبيّته من عدّة مواقع. 

 

السلطة/ الرقابة 

لعلّ العاملين والعاملات في حقل الثقافة في عالمنا العربيّ، يعلمون ما للرقابة بما هي تجسيد للسلطة من أثر مركزيّ على الثقافة بما هي فعل إبداع وحرّيّة. فما أن يُطْبَع كتاب أو يُعلن عن فيلم ما، حتّى يتنادى إليه مقصّ الرقيب. وغالبًا ما تجد هؤلاء العاملين والعاملات يصفون الرقيب والرقابة بالتخلّف والتأخّر في عصر الإنترنت والفضاء المفتوح، لكنّ أحدًا منهم لا يسأل نفسه ما موقعه من عصا ذاك الرقيب، إن صحّ له يومًا امتلاكها. 

وقبل أن ينفض المتثاقفون هذا الاتّهام المستَبْطَنُ عن أنفسهم، والادّعاء بإيمانهم بالحرّيّة والتحرّر بشكل مطلق، تظهر العبارة البائسة: "الحرّيّة بدون حدود هي فوضى وعبثيّة". حسنًا، يمكن تفهّم هذا الادّعاء، لكن، ما دور المثقّف في سؤال الحرّيّة حينها؟ ألا يجب أن تكون الحرّيّة مسؤوليّة قبل أن تكون قيمة مطلقة تثير هذه المخاوف كلّها، وتدفع بالمثقّف إلى تقمّص دور الشرطيّ حدّ التماهي مع الرقيب الّذي كان موضع سباب ورفض حين مَنَع كتابه أو فيلمه؟ 

الأمر نفسه ينطبق على فيلم «أميرة»، بحجّه طعنه في ثابت من ثوابت النضال الفلسطينيّ، أي «الحركة الأسيرة» ونضالاتها (وذلك سنفصّل له في قسم لاحق). لكن، ما معنى أن ننتزع لأنفسنا دور الرقيب، ونطالب بمنع عرض فيلم بناءً على موقفنا من مضمونه ونحن لم نشاهده بعد؟ 

تدّعي تلك الدعوة بكلّ ما فيها من شيطنة للفيلم دون مواجهة حقيقيّة مع مضمونه وبناء طرحه، تدّعي لنفسها الحقّ في حماية الجماعة الفلسطينيّة من مخيال ما قد يهدم مخيالها. وهي دعوة، على أحقّيّة مسبّباتها، تحمل في باطنها بنية سلطويّة قمعيّة تتماهى مع فكرة الدولة، والرقيب، بل والأجهزة الأمنيّة، وتنزع عن الفرد الفلسطينيّ أيّ فاعليّة ذاتيّة. والأمر هنا لا علاقة له فعليًّا بالمخيال والمخيال المقابل، بل بالسلطة فقط، على مستوى اللاوعي والخطاب. 

"يُنْتِجُ السلوك المتماهي مع الرقابة عدّة ذوات فلسطينيّة مِنها تلك القطيعيّة (من القطيع) الأبويّة الّتي تُنتِجُ وتضادُّ مع ذات فلسطينيّة أُخْرَوِيّة، وتضادّ مع الغريب، والخارج عن المألوف"...

 

يُنْتِجُ هذا السلوك المتماهي مع الرقابة عدّة ذوات فلسطينيّة مِنها تلك القطيعيّة (من القطيع) الأبويّة الّتي تُنتِجُ وتَتضادُّ مع ذات فلسطينيّة أُخْرَوِيّة، وتَتَضادُّ مع الغريب، والخارج عن المألوف، وتُعيِّنُ ما هو مصدر التهديد لثوابتنا الوطنيّة. فالدعوة إلى مقاطعة الفيلم هي شكل من أشكال الهيمنة الاجتماعيّة الأبويّة، الّتي تدّعي أنّها المدافع الوحيد عن حمى  «الوطن»، و«الأسرى»، و«النضال»؛ وهنا يتماهى المجتمع مع الدولة، لكن في البطش، والهيمنة، والدور الأبويّ. فكما تحمي الدولة «الأخلاق»، يحمي هؤلاء «الوطن»، لكنّهم لا يقبلون عموميّة، وديمقراطيّة، وتشاركيّة فكرة الوطن، والنضال، والحرّيّة. 

لا يقبل ذاك الاتّجاه الداعي لمنع عرض الفيلم مجرّد الحقّ في مشاهدة الفيلم قبل إصدار موقف ضدّه، فالمشاهدة شكل تشاركيّ يبني زمنيّة أفقيّة جامِعَةً للجميع في مواجهة مخيال الفيلم، وهو ما ينزع سلطتهم الأبويّة العالمة والعارفة. فالأمر إذن منوط بالسلطة، وليس كما يدّعون بمواجهة الهجوم على الثوابت النضاليّة. 

ويمكن رؤية الأمر بشكل أشدّ سوءًا لدى من يُسمّون أنفسهم بالمثقّفين والنخبة، ممّن تقمّصوا الرقيب والمؤسّسة ودعوا إلى منع وسحب الفيلم. فهؤلاء يتمترسون خلف مؤسّسة أبويّة أخرى، سهّلت عليهم التماهي مع مؤسّسة الدولة، وهي مؤسّسة الثقافة والمعرفة الحداثيّة. وتكون أرضيّة دعوتهم هي ادّعاء المثقّفين قدرتهم وامتلاكهم لأدوات الوصول إلى المعرفة، وادّعائهم العلم بخبايا الأمور، وحراسة المعرفة المتعلّقة بالوطن، والدراية بما هو ضارّ أو صالح للشعب. 

بكلمات أخرى، تؤدّي ادّعاءاتهم هذه إلى ضرورة امتلاكهم لسلطة التقرير  بشأن ما يصحّ «سياسيًّا» وما لا يصحّ. وهنا يُنْتِجُ المثقّف معاييره ويطبّقها على الناس، لا لشيء سوى تأكيد موقعه من "النخبة العالمة، والمتعلّمة، والعارفة ببواطن الأمور وتداعياتها السياسيّة". 

تلك الأبويّة في جذرها هي ممارسة عنيفة، تتحرّك بين الثنائيّات، وتفسّر الظواهر بثنائيّة حداثيّة عنيفة؛ إمّا مع أو ضدّ، وهي ثنائيّة تجلّت في كلّ أدبيّات الحداثة عن الآخر، والمتخلّف الجاهل الأسود الفلسطينيّ، وغيره. تلك الثنائيّة هي الّتي جعلت أوديسيوس يصبّ في آذان رجاله شمعًا منصهرًا، لا أن يربطهم بقوّة بصاري السفينة؛ الأمر هنا يتعلّق بقوّته هو، وضعفهم هم. فهو قادر على الاستماع لغناء الحوريّات، وإن أثّر فيه فهو قادر على صدّه. لكنّ رجاله أضعف من أن يستمعوا، وهم قطعًا أضعف منه، فاكتفى بصبّ الشمع في آذانهم. وهنا يؤكّد أوديسيوس أنّه «الذكر الألفا» السيّد في قطيعه، وبذلك يُحدِّدُ رجاله بوصفهِم قَطيعًا، قطيعه هو؛ وذاك هو موقف المثقّف المنادي بمنع الفيلم لأنّه الأدرى بسمومه، السموم الّتي هو أقدَرُ على هضمها وصدّها، بينما لا يستطيع غيره.

"الأبويّة في جذرها هي ممارسة عنيفة، تتحرّك بين الثنائيّات، وتفسّر الظواهر بثنائيّة حداثيّة عنيفة؛ إمّا مع أو ضدّ، وهي ثنائيّة تجلّت في أدبيّات الحداثة عن الآخر، والمتخلّف الجاهل الأسود الفلسطينيّ"...

لا يختلف الأمر كثيرًا من ناحية المنطق مع أبويّة عمر سليمان، رئيس جهاز الاستخبارات المصريّ السابق في عصر مبارك، حين سُئِلَ عن الديمقراطيّة في مصر بعد ثورة 2011، وأجاب أنّنا شعوب غير جاهزة للديمقراطيّة. ما فعله سليمان ببساطة أنّه قدّم نفسه باعتباره الأعلم بالديمقراطيّة وأثمانها، وأنّ غيره من الشعب لا ولن يتحمّل الديمقراطيّة.  

وفي ذلك بعض الصحّة، لأنّ الديمقراطيّة مسؤوليّة، كما هي الحرّيّة مسؤوليّة، وإذا أردنا تحمّل مسؤوليّة فكرة ما، فعلينا إذن طرحها في الفضاء العام، لا أن نغلق أعيننا عنها لئلّا نواجهها وننتقدها. يجب التخلّص من الأوصياء على خيالاتنا، وأفكارنا، وأوطاننا، ولو كانوا يقدّمون أنفسهم باعتبارهم مثقّفين وعارفين، وبالذّات بعد عام 2011 الّذي أثبت تأخّر المثقّف عن الشارع، والشعب، وإعادة إنتاجه للسلطة. 

 

 عن المقاطعة والمنع

يؤسّس منع الفيلم لفاعليّة المؤسّسة على حساب فاعليّة المجتمع والأفراد؛ فمنع الفيلم يتمّ عبر المؤسّسة، أي أنّنا حين نطالب بمنع الفيلم، نُعيد موضعة المؤسّسة، كـ «الهيئة الملكيّة للأفلام» في الأردنّ مثلًا، لتصبح هي صاحبة الفاعليّة وليس أولئك الّذين أهانهم وأساء إليهم مضمون الفيلم ورسالته.  

أمّا الأزمة الّتي تنشأ عن منح المؤسّسة، أيّ مؤسّسة، فاعليّة المقاطعة، فمن يتأمّل السياق الحضاريّ الحاليّ ويتتبّع مؤسّسات الحداثة ومنها الدولة، لا يملك إلّا أن يلاحظ أنّ المؤسّسة، أيّ مؤسّسة، هي كيان مأزوم تنبع أزمته من سياق إنتاجه ذاته، وهو سياق الحداثة. وبكلمات أبسط: إنّ التنادي إلى منع الفيلم من خلال المؤسّسات (وزارة الثقافة، الهيئة الملكيّة للأفلام وغيرهما)، هو توسّل إلى مؤسّسة لم تعد تستوعب شَرْطِيَّة الثقافة والحرّيّة الفلسطينيّة كحالة استعماريّة، سواءً على مستوى الخطاب، أو الفعل، أو المعنى.

أليست تلك المؤسّسات هي نفسها الّتي تمرّ عبرها كلّ الأفلام الأجنبيّة الّتي ساهمت في مراكمة الصور الاستشراقيّة عنّا وعن أوطاننا؟ المطالبة بالمنع إذن تعيد موضعه المؤسّسة (الدولة) المشكوك أصلًا في مواقفها من القضيّة الفلسطينيّة إلى موضع الفاعل، وانتزاع هذا الدور من المجتمع. 

كذلك فإنّ الدعوة إلى المنع لا إلى المقاطعة تُعيد مرّة أخرى عمليّة إعادة إنتاج كلّ فيلم، أو كتاب، أو فنّان، أو كاتب، أو مؤلّف، باعتباره بطلًا وشهيد الحرّيّة، والكلمة الحرّة، وحرّيّة الإبداع، حين تُستختَدُم عصا الرقيب وسياسات المنع. وإن كنّا جميعًا قد لاحظنا أنّ الفيلم قد صُنِعَ بهذه الركاكة الفنّيّة، والسرديّة، والسياسيّة، والمعرفيّة، وأنّه لم يُبْنَى على بحث أو معرفة، ألا يمنحه منعه معنىً جديدًا يمكّنه من الوصول إلى مبتغاه، وهو العالميّة، على أكتافنا للمرّة الثانية؟

"إنّ الفاعليّة الحقّة هي أن نقاطع كمجتمع، لأنّها تجعل المؤسّسة (الدولة، وهيئاتها، ومؤسّساتها)، تتبع قوى المجتمع وقراراته، ولا تُقدّم نفسها بديلًا عنه"... 

إنّ الفاعليّة الحقّة هي أن نقاطع كمجتمع، لأنّها تجعل المؤسّسة (الدولة، وهيئاتها، ومؤسّساتها)، تتبع قوى المجتمع وقراراته، ولا تُقدّم نفسها بديلًا عنه. إنّ المقاطعة هي المقولة السياسيّة، والاجتماعيّة، والنقديّة، والفكريّة الأقوى من المنع. فكيف يمكن الوصول إلى مقاطعة الفيلم ومَنْ وراءه دون أن يكون الفيلم متاحًا للناس؟ تلك هي الفاعليّة، فاعليّة الأنا، والأنت، والأنتِ، وليس أن يُقَرِّرَ عنّا، ولَنا، أحد المثقّفين ما هو الضارّ بمفهومنا عن الوطن، أو يطالب برؤية الفيلم له وأشباهه من المثقّفين دوننا، ليقرّر هو وهم عنّا، ولنا.
 

الحرّيّة والمسؤوليّة

بالعودة إلى عمر سليمان (سيّء الذكر)، وحديثه عن الديمقراطيّة، لعلّنا هنا نستخدمه كنموذج عن مفهوم الحرّيّة والمسؤوليّة. قد يكون سليمان محقًّا في أنّنا غير جاهزين للديمقراطيّة كشعوب عربيّة، لا لعلّة فينا أو في ثقافتنا، بل لعلّة في سياسيِّينا وأنظمتنا الّتي لم تتحمّل مسؤوليّة الديمقراطيّة والفضاء العامّ السياسيّ، إلّا من خلال مسرحيّات هزليّة انتخابيّة يصعد فيها الموتى للانتخاب وينجح الرؤساء فيها بنسب تتجاوز الـ 99.99 %.

الأمر ذاته ينطبق على فيلم «أميرة»، فالحجّة القائلة بأنّ الفيلم يفتح بابًا تتسلّل منه نطفة صهيونيّة إلى جسدنا العربيّ والفلسطينيّ، ومنها جاء خطاب منع الفيلم، هي حجّة تهابُ مفهوم الحرّيّة وتستحوذه بقدر ما تهاب التشويه لقضيّة الأسرى. فإذا كانت قضيّة الأسرى عادلة ومحقّة، فما الضير عليها من مواجهة مقولة الفيلم الّتي لم تُبْنَ على معرفة، ولا بحث، ولا مقابلة، ولا شيء آخر؟ 

إنّ مَنْ يُطالبون بمقاطعة الفيلم بحجّة أنّ عرضه هو حرّيّة عبثيّة ومضرّة، يخافون مسؤوليّة التحرّر، وهو الأمر الّذي لطالما لازم الخطاب الأيديولجيّ. فالأيديولوجيا تتطلّب الاتِّباع، لا النقد أو التفكير؛ إذ تقدّم نفسها سرديّة تفسيريّة للعالم، تحذّر من الحرّيّة الّتي قد تتحوّل إلى فوضى وعبثيّة إذا لم نتحمّل مسؤوليّاتنا تجاهها. 

ثمّة ضرورة في كلّ قضايا التحرّر لإنتاج معرفة نقديّة، تحرّريّة، ومقاومة، وذلك ما لا يمكن حدوثه دون مواجهة وانكشاف على وجهات النظر الأخرى، وامتِحَانِ مسؤوليّة التحرّر. والأمر ذاته ينطبق على قضايا حقوق المرأة، والأقلّيّات، والمثليّين، والمهمّشين؛ فلا معنى لأيّ نضال تحرّريّ وطنيّ يلقي بكلّ هؤلاء في الخلفيّة، ولا يقبل مواجهة الحرّيّة إلّا باعتبارها فعلًا أيديولوجيًّا، أقرب ما يكون إلى التعبئة. 

يفتقر منع الفيلم إلى المسؤوليّة، بل هو فعل جبان لا يقوى على المواجهة والتفكير، فعل يدفع إلى خلق الأتباع، لا إنتاج الفاعلين النقديّين. وهو فعل لا يقدّم فكرة، أو يطرح بديلًا، بل يُعيد إنتاج المؤسّسة بكلّ قمعيّتها، ويخلق لنا «ذكر ألفا» بالمنطق القطيعيّ، الذكر - المهيمن الّذي يبيح لنفسه ما لا يبيح لغيره.

 

العصا، والقضيب، والذكورة، وغناء الحوريّات

بقي أن نتساءل مع أوديسيوس ورجاله عن مضمون غناء الحوريّات الّذي كان سيسوقهم إلى الجنون. إنّ عصا الرقيب هنا ليست مجازًا للسلطة فقط، بل هي مجاز للقضيب الذكوريّ بالمعنى الفرويديّ له. وهنا تغدو الحاجة أوضح لهذه الاستعارة لفهم موقفنا الجمعيّ من الجسد الأنثويّ. فحتّى حين ندافع عنه وعن حقوقه، ندافع عنها بمنطق الذكور والقطعان. 

"ما فعله فريق الفيلم، على المستوى المعرفيّ، هو إخراس صوت زوجات الأسرى الأمّهات، باسم الحديث بأسمائهنّ، فصدّروا صورة مغلوطة ومشبوهة"...

 

هل تساءلنا عن مضمون الفيلم، بمعنى الاستماع إليه بوصف السماع حاسّة اجتماعيّة، في حين أنّ الفيلم هو مادّة بصريّة، والمسافة بين السمع والبصر، بوصفها تاريخًا ثقافيًّا، هي المسافة بين سلطة ذكوريّة تمثّلها الصورة وبناؤها، وبين مجتمع أنثويّ يستحضر الصوت بما هو ديمقراطيّة؟ 

وبتفصيل أقلّ تراكبيّة؛ يؤخذ على الفيلم عدم القيام بأيّ مجهود بحثيّ في مرحلة الإعداد، وهنا يُلام المنتج والمخرج معًا، فلم يقم فريق الإعداد بمقابلة واحدة مع الأسرى أو زوجاتهم، ولم يستند إلى بحث واحد كما يتّضح من المُنْتَجِ النهائيّ. 

ما فعله فريق الفيلم، على المستوى المعرفيّ، هو إخراس صوت زوجات الأسرى الأمّهات، باسم الحديث بأسمائهنّ، فصدّروا صورة مغلوطة ومشبوهة. وباختصار، فهم لم يستمعوا إليهنّ، وحتّى البيان الأخير الصادر عن فريق الفيلم والّذي طالبوا فيه بتعيين لجنة من أهالي الأسرى هي خطوة متأخّرة لحفظ ماء الوجه لا أكثر ولا أقلّ، وهي خطوة متأخّرة جدًّا. 

وهذا يُعيدُنا إلى ما حدث مع ابنة محمود درويش المجهولة منذ سنوات، والّتي قصّ علينا حكايتها سليم بركات، وتبعتها عاصفة ضدّ درويش وصورته في أذهاننا وتنادينا جموعًا للدفاع عن شاعرنا ومخيالنا عنه. وفي خضمّ كلّ تلك الكتابة عن هذا الجمع من الذكور، وأنسابهم، وشرفهم، سكتنا عن صوت الأمّ وابنتها. 

هنا الأمر ذاته؛ فالفيلم وطاقمه طعنوا في شرفنا ذكورًا، واضطُّروا اضطّرارًا في بيانهم إلى المطالبة بتشكيل لجنة من الأسرى وعوائلهم، ولو لم تكن عاصفة الانتقادات هذه لمرّت الإساءة دون انتباه. ومن ناحية أخرى، تهافت ذكورنا المثقّفون إلى الذود عن حمى الشرف الذكوريّ للأسرى، بمنطق حماية الشرف الذكوريّ كمؤسّسة - ذكوريّة - وكان الخوف خوفًا على الجسد العربيّ والفلسطينيّ المؤنّث من نطفة آبراهام الإسرائيليّ. ومرّة أخرى، حضر آبراهام كعدوّ أكثر ممّا حضرت الأمّ كضحيّة، وانشغلنا به دون الحديث عن نضالات السيّدات والأمّهات كلّ يوم. تمامًا مثلما حضر بركات ودرويش ذكورًا، ولم نكترث كثيرًا بابنة درويش المزعومة أو أمّها، وهنّ يسمعن صوت درويش الّذي بات جزءًا من الذاكرة السمعيّة الفلسطينيّة. 

وفي هذا الموضع يجب الإشارة بإكبار وإجلال إلى سناء سلامة، زوجة الأسير وليد دقّة، ووالدة الطفلة الجميلة ميلاد وليد دقّة، الّتي أنجبتها من خلال تهريب نطفة والدها. بكلّ ما أوضحته في بداية هذه الأزمة، هي وكلّ نساء الأسرى، وزوجاتهم، والأسيرات ممّن لا نسمع عن نضالاتهنّ اليوميّة أو عن حراك أمعائهنّ الخاوية، لانشغالنا بالأسرى الذكور ونضالاتهم، والمخرج الذكر، والمؤلّف الذكر، والمنتج الذكر، والمثقّف الذكر، والمتظاهر الذكر، والقضيّة الذكر، والوطن الذكر.  

وحدها سناء، ومن معها من السيّدات، لهنّ الحق في الحديث عن الفيلم، ومضمونه، ومقولاته، ونضالات زوجات الأسرى وأطفالهنّ. وحدها هي، وأبناء وبنات الأسرى من لهنّ/ م الحقّ، وليس بالمعنى السلطويّ الذكوريّ الّذي وَرَدَ في بيان «لجنة شؤون الأسرى»، أو بيان «وزارة الثقافة الفلسطينيّة» الركيك، ولا بلجوء طاقم الفيلم إليها كخطوة تكتيكيّة ليدّعو النزاهة والشجاعة، ويمنعوا الفيلم في خطوة رجعيّة لا تختلف عن رجعيّة المثقّف الذكر وجموعه، ولا أن نخرسها نحن في خضمّ الضجيج لمنع الفيلم.   

أمّا سؤال الهويّة فهو مشروع أيًّا يكن سياقه، وسؤال هويّة ابنة درويش لا ينتقص من درويش الشاعر، كذلك سؤال الطفلة أميرة في الفيلم لا ينتقص من الأسرى، مثلما ينطبق الأمر على خلدون لغسّان كنفاني. 

 

ما سكتت عنه الملحمة

نستطيع أن نجيب فلسطينيًّا الآن عمّا سكتت عنه ملحمة «الأوديسا» في «أميرة»: غناء الحوريّات هو غناء زوجات الأسرى الفلسطينيّين من أمّهات، هو معاناتهنّ من ثقافة ذكوريّة، ودولة ذكوريّة، ومثقّف ذكوريّ، ومخرج ذكوريّ، وفيلم ليس معنيًّا بحكاياتهنّ بل معنيّ بحكاية الدولة والثقافة المحتلّة عنهنّ. وكذلك الحال مع أنصار قضيّة ذكوريّين يدفعهم هوسهم الجنسيّ الكتابيّ للمواجهة، ولبناء دولة قطيعيّة، ومثقّف ذكر مفصوم يطالب لنفسه بالفيلم الّذي يمنعه عن غيره لأنّه في نظر نفسه الأكثر قدرة على الفهم.  

أوديسيوس المثقّف الفلسطينيّ الأبويّ صبّ في آذان رجاله شمعًا منصهرًا لا خوفًا عليهم فقط من الفيلم، ومضمونه، وجنون الحمّى الذكوريّة للشرف، وامتلاك الجسد الأنثويّ، وسَجْنهِ في قيم النضال الذكوريّ والحنين الذكوريّ، لكن أيضًا لأنّهم، أي رجاله، أغبى، وأجهل، وأقلّ فاعليّة في نظره منه أن يتّخذوا موقفًا نقديًّا من الفيلم وغناء الحوريّات معًا. 

أمّا وقد ربط نفسه، فذلك لكي يكمل تصوير نفسه القويّ العالم، والعارف ببواطن الأمور، والأقدر على مواجهتها بنفسه وقوّته كـ «ذكر ألفا»، في نظر قطيع ينظر إليه بوصفه المخلّص وحامي الحمى، الوحيد الّذي استمع لغناء الحوريّات؛ لكن، هل استمع له فعلًا؟ 

 


 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة، مدير «مكتبة الأرشيف» في عمّان.