لا يدّعي الأسير القدسيّة لنفسه، ولن يمنحها لـ «أميرة»

مهنّد عمّار الزبن وأمّه دلال، أوّل طفل يُوْلَد من «نطفة محرّرة» عام 2012

 

هندسة المعاني الكبيرة

لولا الصخب، ما كنت أظنّني سأشاهد فيلم «أميرة» من كتابة وإخراج محمّد دياب، وحين حاولت إليه سبيلًا، تعذّر فتحه لأسباب فنّيّة. كما هي الروايات أعظم خيالًا وإبداعًا وقصّةً من الأفلام الّتي تحاكيها، فإنّ صخب الحياة لا يضاهيه سيناريو من حيث حبكته وقوّة نبضه الحيويّ؛ فلا أتوقّع أن يصل سيناريو فيلم عن أسرى الحرّيّة إلى شِعاب الحياة الأسيرة؛ فالحياة الاعتقاليّة تقوم على التفاصيل الصغيرة المكثّفة في زنزانة فارغة، إلّا إذا عبّأها الأسرى بالمعنى، هكذا صمّمتها لنا ذهنيّة القهر، وعلى النقيض من ذهنيّتهم، فقد احترفت الحركة الأسيرة هندسة المعاني الكبيرة في مساحات ضِيق؛ لتصل إلى نفق، وإلى نطفة، وإلى إضراب مئتَي يوم عن الطعام، وغيرها من سباقات الأفق البعيد.

لا أتوقّع أن يصل سيناريو فيلم عن أسرى الحرّيّة إلى شِعاب الحياة الأسيرة؛ فالحياة الاعتقاليّة تقوم على التفاصيل الصغيرة المكثّفة في زنزانة فارغة، إلّا إذا عبّأها الأسرى بالمعنى...

أيّ فيلم سيمثّل نفق الحرّيّة كما أتقنه الستّة؟ وأيّ سيناريو سيكون أفضل من تحرير النطف، وكلّ التفاصيل الجبّارة؟ وأيّ مشاعر وإرادة كما أبدعت في التعبير عنها الأخت سناء سلامة، صاحبة الشأن الأولى المناضلة، وشريكة حياة الأسير الصديق العزيز وليد دقّة، في التطرّق إلى مجيء ميلاد عنوانًا لانتصار الحياة؟ وذلك في مقابلتها الشيّقة مع الإعلاميّة الجديرة سهى عرّاف عبر بودكاست «أَجْرَمِنْ عَنْهِنْ».

ولو انتقلنا إلى منار خلاوي والأسير أسامة الأشقر وقصّة «للسجن مذاق آخر»، فأيّ سيناريو سينقل الحبّ من أوّل نظرة من مسافة ثمانية مؤبّدات؟ فالسجن ومَنْ يسكن من جانبيه في الحالة الفلسطينيّة، وقبل أن يكون وصفًا أو سردًا، فإنّه حالة متراكمة معيشة بكلّ أجوائها، وتملأ الوجدان العامّ والخاصّ، وبالذات تملأ القلوب الظمأى للحبّ. وأيّ عمل سيحاكي قيام الأسير راتب حريبات بالتطوّع سنوات في العناية بالأسرى المرضى في «مشفى سجن الرملة المركزيّ» السيّئ الصيت والعلاج.

 

صوت الهدوء أعلى

أكثر ما أشغلني في مهبّ الصخب حول فيلم «أميرة» كان ما أحاط به؛ فقد تحوّلت مساحات التواصل الاجتماعيّ إلى ساحات الدراما. إنّ مشاعر الغضب والرفض سليمة وتلقائيّة وشرعيّة، خاصّة كما عبّر عنها مَنْ حضروا الفيلم، وهذا ليس بالضرورة أن يقود إلى المطالبة بسحبه.

إجمالًا أدعم الموقف القائل بأنّ حُكْمَ الحياة وحِكْمَة تجاربها أقوى من مقصّ أيّ رقيب، حتّى لو كنّا نحن الفلسطينيّين قد عانينا ونعاني من الحكم المؤبّد من قِبَل دولة رقابة، وأصحاب المقصّات والمقاسات المطلقة، ومنظوماتها التطويعيّة. ورغم هذا التحفّظ، فإنّني لا أرمي إلى القول بعدم شرعيّة المطالبة الشعبيّة بسحب الفيلم، لكنّي أختلف مع ذلك. أشغلني هذا الجانب لما عكسه من أهمّيّة الحفاظ على رباطة جأشنا، والسلوك من باب أنّ صوت الهدوء في ردّة الفعل يكون أحيانًا أعلى من عاصفة الصخب.

إنّني أستثني في هذا والدات الحياة من النطف المحرّرة اللاتي يحقّ لهنّ ما لا يحقّ لغيرهنّ. بالنسبة إليهنّ ليست المسألة نقاشًا مبدئيًّا فحسب، وبالتأكيد ليست مسألة افتراضيّة، وإنّما قصّة ذات، دفعت كلٌّ منهنّ وشريك حياتها الحبيب رهين الأسر القاهر ثمنًا يقدّر بالقلق على الأمل بالفرج الآتي ببطء، تستطيع السلحفاة أن تقتدي به في تجوالاتها الهادفة، إنّه قلق من جانبَي جدار يكتويان بناره، كلٌّ على حدة في وحدة قاهرة يصبح فيها الأمل موجعًا. وعلى ذكر مفردات «المحرّرة» أو «المهرّبة» في التعاطي مع النطف؛ فإنّ الأمر لا يُقِلّ من عظمة الفعل الواحد في المفهومين على السواء.

 

خطابا القدسيّة والبطولة

إنّ خطاب القدسيّة بعيد عن التصوّر الذاتيّ لأسرى الحرّيّة وأسيراتها، ولو سألنا أيّ أسير محكوم بالمؤبّد، ويحظى بأوسمة القدسيّة والبطولة من «جنرال الصبر» حتّى «عملاق الصمود»، لما عنت له شيئًا حقيقيًّا في حياته الاعتقاليّة، بل يرى في محبّيه مرآة له، ويكون تقديره الحقيقيّ لقائليها. حين تعتزّ والدة أسير أو زوجته أو ابنته بأنّه حظي بوسام من هذا القبيل، وروّج له المذياع والفضائيّة الفلسطينيّة، فإنّه يشعر بالراحة والغبطة، لكن ليس لوجوده في الزنزانة الّتي تحصر حرّيّته في مترين، وإنّما لأنّه يرى الغبطة والبهجة على وجوه محبّيه، وعلى واجهة حنان الأمّ وحبّ الزوجة وشوق الأخت والأخ والأب، أو حين يرى البهجة على وجه ابنته وابنه وهما يحظيان بقيمة إضافيّة في المدرسة غداة بثّ البرنامج. كذا الأمر بالنسبة إلى الأسطورة؛ فليست هي غاية الأسير، بل للأسف تتعزّز كلّما تثاقلت وتيرة الفرج وتراكمت الاستحقاقات وكثرت النياشين، كما يصبح التناسب العكسيّ قاسيًا حين يكبر الكلام وتصغر مساحات الأمل.

كذا الأمر بالنسبة إلى الأسطورة؛ فليست هي غاية الأسير، بل للأسف تتعزّز كلّما تثاقلت وتيرة الفرج وتراكمت الاستحقاقات وكثرت النياشين...

لا أحد يصبر لأنّه يحترف الصبر كما لو كان شيئًا كهذا؛ فالملكة هنا إدراك وإرادة وإيمان بما يقوم به، وبها يصمد، بل لأنّه في واقع قسريّ لا يستطيع فيه إلّا أن يصبر، وإلّا يفقد إنسانيّته المقيمة خارج مساحات الأسطورة. إنّه صبر نتاج واقع قسريّ من صراع البقاء الكريم، لكنّه صبر لا يستطيع معاينته حقًّا مَنْ هو خارج جدران الأسر. ينطبق هذا الأمر على اللاجئين واللاجئات؛ إذ لا يستطيع مَنْ ليس بلاجئ أن يشعر بهول اللجوء ومذلّته وقبله الاقتلاع من ذاته، فبيته وبلدته وأرضه وحاكورته ودكّانه وعلاقاته الاجتماعيّة ورائحة المكان، كلّها من ذاته.

خطاب البطولة هو حاجة الضحايا، وهو في وجدانها، وفيه تكريم لمَنْ يضحّي وتضحّي، فبينما المناضل الفلسطينيّ عتاده هو روحه وإرادته ووفاؤه لشعبه، فإنّ العسكريّ الإسرائيليّ، ومهما ارتكب من جرائم حرب، فإنّه يقوم بذلك مستندًا إلى عتاد دولته وحمايتها لحقّه الاستعماريّ المتخيّل بتأدية الرسالة، والرسالة هي جريمة حرب من طابع نظامه، فحين يدافع الفلسطينيّ عن مناضليه، ويسعى إلى حمايتهم من أيّ خدش معنويّ، ففي ذلك يحمي ذاته الجماعيّة المكشوفة. وحين فقدت ثورة الشعب وهجها تراجع الشعب وحضر الفرد أكثر، وانقلبت الثوابت؛ فقد بات الفرد يفتّش عن خلاصه من سجن إداريّ، وعتاده أمعاؤه الخاوية، ومن سجن مؤبّد بالنفق، ومن ولادة الحياة بالنطف المحرّرة، وجميعها من مسارات الخلاص الذاتيّ.

 

وضوح الطريق

في الواقع الفلسطينيّ المتواصل النكبة، فإنّنا بصدد معادلة تتراوح ما بين القساوة والقساوة، فحين لا تلوح الحلول في الأفق البعيد تبتعد الحرّيّة، ونحن جماعيًّا نمارس الركض الموضعيّ نحوها. نجتهد ونجتهد بينما الحرّيّة لا تقترب، وأحيانًا نجتهد ونجهد أنفسنا ونحن نسير باتّجاهات مشتّتة فنصطدم بذواتنا بدلًا من التقدّم؛ لتبدو المشكلة كأنّها نتيجة تخبّطاتنا في واقع قهريّ.

أحيانًا نعتبر أنّ الحرّيّة هي ذاتها الطريق الطويل إلى الحرّيّة، كما تعامل نيلسون مانديلا الّذي سار مع شعبه ورفاقه كلّ الطريق؛ لنجد أنّه حتّى الطريق الّذي شققناه فيه عثرات تفاجئنا، نركض بكلّ قوّة نحوها ونحن نشقّ الطريق، كما في أيّار (مايو) الأخير حيث الكرامة؛ لنجد أنفسنا متعثّرين في طريق جانبيّ قسريّ، ننشغل في الجريمة ونؤجّل الحلم. وكما يبدو، لا يحبّ الحلم الإرجاءَ كي لا يتحوّل إلى منام وينقطع عند أوّل صحوة منه. نحتاج إلى وضوح الطريق كي نصل إلى ضالّتنا، فلا تكفي الطاقات والاجتهادات، بل يبقى الفنار هو دليل المكان مهما كان البحر هائجًا.

الثورات تشبه الشخوص، فحينما تشهد حالة نهضة وانطلاقة فإنّها لا تكترث لتجنّيات الخيال، وحين يبدأ التآكل فيها يصبح التعامل مع كلّ خدش كما لو كان قتلًا. لو أخذنا النطف المحرّرة من جهة، ونفق الحرّيّة من جهة، والإضراب اللانهائيّ عن الطعام، فإنّ ما يجمع بينها هو الحالة الفلسطينيّة المحبطة، الّتي باتت تحتاج إلى الأسطورة كي تسعفها بينما الأخيرة لا تسعف.

الثورات تشبه الشخوص، فحينما تشهد حالة نهضة وانطلاقة فإنّها لا تكترث لتجنّيات الخيال، وحين يبدأ التآكل فيها يصبح التعامل مع كلّ خدش كما لو كان قتلًا...

أقول هذا لأنّ هذه المظاهر العظيمة والأكثر إنسانيّة والأكثر استنزافًا، كان من الممكن ألّا يحتاج إليها الأسير الفلسطينيّ لو كان للحرّيّة باب يفتح بعد أن يُدَقّ. هذا واقع حديث العهد نسبيًّا، يدفع فيه الأسرى اليوم ثمن تعثّر الثورة في الأمس. قد يكون الانكسار الكبير في «أوسلو» هو سببه، وفي اعتقادي أنّ «أوسلو» هو نتاج انكسار أكبر في الثورة الفلسطينيّة، وفي زمن الانكسارات والتجزئة المتسارعة لكلّ شيء، فإنّ التفتيش عن الخلاص الفرديّ يحلّ محلّ النضال الشعبيّ للخلاص الجماعيّ. في واقع لا يولّد الأمل، يصبح الأمل مسألة فرديّة.

وعودة إلى جنرالات الصبر وعمالقته؛ فالصبر في وجه السجّان ودولة احتلاله يقوّي العزائم، وعلى هذا بُنِيَت شخوص الكفاح، بينما الصبر الناتج عن روح هزيمة ما بعد الثورة هو محبط للعزائم. وفي الحالتين الصبر ضروريّ، حتّى لو كان اضطراريًّا، حتّى الفرج.

 


 

أمير مخّول

 

 

أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ "اتّجاه- اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.