الحياة قاسيةً ومتشظّية وجميلة: قراءة في فيلم «ريش»

من فيلم «ريش»

 

أثار فيلم «ريش» للمخرج المصريّ عمر الزهيري سجالًا، عقب انسحاب بعض الممثّلين المصريّين من العرض الخاصّ للفيلم في مهرجان «الجونة» السينمائيّ في دورته الخامسة، وقد خلق أسئلة حول الفنّ والخيال والواقع، وماهيّة العلاقة بينهم.

حاز الفيلم، وهو من سيناريو أحمد عامر وعمر الزهيري، على جوائز عدّة، من بينها الجائزة الكبرى في مسابقة «أسبوع النقّاد الدوليّ» في الدورة الرابعة والسبعين لمهرجان «كان»، وجائزة «نجمة الجونة الذهبيّة» لأفضل فيلم روائيّ عربيّ طويل في مهرجان «الجونة»، وأربع جوائز في «مهرجان أيّام قرطاج السينمائيّة» في دورته الـ32، منها جائزة «التانيت الذهبيّ» لأفضل فيلم روائيّ طويل، وجائزة أفضل ممثّلة لبطلته دميانة نصّار.

 

انقلاب السحر على المسحور

يمزج «ريش»، عبر لغة سينمائيّة غير تقليديّة، بين واقع مألوف يمكننا تعرّفه من ناحية، وعالم فانتازيّ وغرائبيّ ومثير من ناحية أخرى، وتمكّننا هذه المراوحة بين الألفة والغرابة من تعطيل الرؤية الاعتياديّة للأشياء، وإعادة النظر إليها بمنطق جديد، ومن منظور مغاير؛ إذ إنّنا نعاين ما يؤول إليه هذا العالم الفانتازيّ، والعبثيّ، والواقعيّ جدًّا أيضًا، من شعور بالغموض، والتوتّر، وعدم الارتياح، والنفور.

 

 

في مُفْتَتَح الفيلم، الّذي لا يسمّي شخوصه، ولا يعيّن مكان أحداثه وزمانها، نرى زوجة مستكينة جدًّا، لا ترفع وجهها في وجه زوجها، وتسمع بصمت وتطيع، أكثر ممّا تردّ أو تبالي. الزوج، الآمر الناهي والمسيطر على شؤون العائلة، يقيم حفلًا لعيد ميلاد ابنه، رغم ضيق الحال والاستدانة، ويشتري تحفة تبدو غالية الثمن، ويجلب ساحرًا يحوّل العصا إلى وردة، والمنديل إلى شريط ملوّن، والزوج نفسه إلى دجاجة، لكنّه لا يستعيد أيًّا من هذه إلى هويّتها الأصليّة. لكن لطالما كانت حرفة الساحر، على أيّ حال، في التحويل، لا في الاستعادة!

تنفتح الزوجة على العالم الخارجيّ المجهول فجأة، يتصاعد التوتّر، وتتوالى الانكشافات. أوراق وأختام، وإنذارات وإيصالات، وقوانين عمل صارمة، وبيروقراطيّة عتيدة، وغيرها ممّا يتعاقب على الزوجة تترى على خلفيّة عالم كئيب، شبه مُقْفِر، ومداخن وجرّافات وآلات وأبخرة وأتربة وعوادم.

تتعلّم البطلة الحيلة، يحاول صديق زوجها الاعتداء عليها جنسيًّا، فتستعين به لتشغيلها بعدما ضاقت بها السبل، ثمّ تستعين بصاحب عملها عليه لعقابه وردعه. نراها الآن في دورة العمل المعتادة، تعمل، وتستلم راتبها، ونرى يديها تتبادلان النقود استلامًا ودفعًا طيلة الوقت، كما بقيّة الأيادي المُجْتَزَأة في الفيلم.

 

شروط الوجود في عالم مادّيّ

في البيت، يغلق الزوج على نقوده القليلة في صندوق قديم صغير، ويفتحه أمام زوجته ليعطيها منه ما يحدّد هو، ويملي عليها ماذا تطبخ ليومين متتاليين. وفي المصنع، يتحدّث رئيس العمّال دائمًا بوثوق العارف، وحكمة الخبير؛ يتلو القوانين، ويضع بعض القواعد الجديدة لإدارة العمل. وفي حفل عيد الميلاد، يرتبك الساحر بوضوح بعدما فقد سطوته على أدوات عمله، وفشل في استعادة الزوج، لكنّه يحاول إصلاح ما فسد، وفي لحظة غضب، يصرخ في السيّدة المتشكّكة المتذمّرة: "يعني إيه باعمل إيه! شغلي وأنا عارفه. إنتِ ملكيش دعوة أنا باعمل إيه!"، ثمّ يصرخ في الحضور في لحظة استعادة ثقة عارضة: "مش دي ساعته دي! ساعته ولّا مش ساعته، ردّوا عليّ قولولي!". يختفي الزوج، وتنتهي الملهاة بمأساة، لكنّ الجار يقول لجاره: "يلّا عشان نلحق الورديّة"، وينصرفان.

يمزج «ريش» (...) بين واقع مألوف يمكننا تعرّفه من ناحية، وعالم فانتازيّ وغرائبيّ ومثير من ناحية أخرى، وتمكّننا هذه المراوحة بين الألفة والغرابة من تعطيل الرؤية الاعتياديّة للأشياء...

مَنْ ينفق يتحكّم، ومَنْ يتقن قواعد العمل ينجح، ومَنْ يضع القوانين يَسُدْ، ومَنْ يمتثل يأمن، وهكذا في إعادة إنتاج مستمرّ. هكذا تتعلّم البطلة القسوة، وتمارسها أيضًا بعدما انخرطت في العالم الخارجيّ، وصارت جزءًا من علاقاته. والزوجة في مفتتح الفيلم ليست كتلك الّتي في ختامه.

لكنّ هذا العالم لا يكتفي بتحديد اشتراطات صارمة للعيش فيه، بل يستبيح ما ينتمي إلى الحيّز الخاصّ أيضًا، ويفرض نفسه عليه. في مشهد رمزيّ متكرّر في الفيلم، نرى البطلة تسارع إلى إغلاق النافذة الّتي تدخل منها الأتربة والأدخنة، أحيانًا كعاصفة مدوّية.

 

علاقات قوّة معكوسة

حين يستحيل الزوج كائنًا مؤنّثًا، مدجّنًا، لا يفقد وجوده الإنسانيّ فحسب، إنّما يفقد أيضًا شرط وجوده في عالم مادّيّ ذكوريّ: تحكّم في شؤون العائلة، وإنفاق ولو شحيحًا، وصوت عالٍ يأمر وينهي. هكذا تتبدّل المواقع بنهاية الفيلم، وتنعكس لعبة علاقات القوّة الّتي كانت قائمة بين الزوج وزوجته، ومَنْ أعاد تشكيلها «غلطة» ساحر، وقوانين العالم وشروطه. الزوجة الآن هي مَنْ تعمل وتنفق، وتسدّد الديون، وتستعيد ما اسْتُلِب من أثاث البيت.

الزوج، بعد العثور عليه مصادفة في حالة مزرية، فاقد للحركة وللصوت، ولا مقدرة لديه على العمل أو كسب المال، صار عبئًا على العائلة. تحاول الزوجة مرّة أخيرة لأن تستعيده؛ تستصرخه كي يتكلّم، لكن دون جدوى. يبدو الكلام هنا، على الأقلّ، كأنّه المعادل الأبرز للحياة، وكأنّه أكثر علامات الوجود حيويّة، ويبدو فقدانه معادلًا لفقدان الحياة أو للرغبة فيها.

 

القسوة والتشظّي

من الصعب اختزال «ريش» في كونه عن الفقر كما جرى تأويله. الفقر أحد مكوّنات عالم الفيلم، لكنّه لا يتناوله تحديدًا بقدر ما يتناول القسوة والتشظّي، والعمل وعلاقات الإنتاج، وشروط الوجود في عالم متشيّئ، واستهلاكيّ، ورتيب.

 إنّها القسوة الّتي تتمثّل في قوانين عمل ترفض تشغيل النساء، لكنّها تسمح بتشغيل طفل لا يتجاوز السادسة من عمره...

إنّ الفقر أحد تداعيات العيش في عالم تحكمه هذه الشروط، لكنّ القسوة هي أكثر آثاره فداحة. إنّها القسوة الّتي تتمثّل في قوانين عمل ترفض تشغيل النساء، لكنّها تسمح بتشغيل طفل لا يتجاوز السادسة من عمره. إنّها القسوة الّتي تجعل موظّف شركة الإسكان المسؤول عن الحجز على أجهزة قديمة، بالكاد تنفع أصحابها، ينهر ويزيح من طريقه طفلًا صغيرًا لا تستوعب طفولته ما يحدث. إنّها القسوة ذاتها الّتي تضطرّ البطلة إلى ممارستها بالتخلّص من زوجها حين أصبح عبئًا عليها وعلى أطفالها الثلاثة. ونرى في مشهد حلق شعر الزوج والتخلّص منه تمهيدًا لهذا «الخلاص» الفادح، كما تحيلنا مشاهد الدماء المسفوكة على الأرض، وتلك الّتي تغسلها الزوجة عن يديها إلى معاني التطهّر والفداء؛ كأنّ الزوج قُدِّم قربانًا فداءً للعائلة في عالم لا يرحم.

إنّ عالمًا تحكمه مثل هذه الشروط لا بدّ من أن يسوده التشظّي الّذي نعاينه عبر الكادرات المبتورة، واللقطات البعيدة والمُجْتَزَأَة، والأصوات الإنسانيّة الشحيحة أو الغائبة كلّيًّا، حتّى إنّ بطلة الفيلم لا تقول بضع جمل إجمالًا طيلة ما يقرب من ساعتين. إنّه عالم يبدو الاجتماع البشريّ الطبيعيّ والصحّيّ فيه معطّلًا، بالقدر الّذي يتألّف فيه معظم ‘الحوار‘ في الفيلم من الحديث من طرف واحد.

 

جمال رغم العبث

تتواتر مشاهد استهلاك الطعام في الفيلم، كما تتواتر مشاهد تبادل النقود، وثمّة حضور لافت وقويّ للحيوانات في الفيلم أيضًا. يبدو هذا العالم الغرائبيّ، الكئيب، عالمًا لا تتحقّق فيه سوى الغايات المادّيّة، والغرائز الأساسيّة الّتي تكفي فقط للإبقاء على الحياة، ويبدو تجاور الإنسان والحيوان فيه دليلًا على وجود إنسانيّ غير متحقّق أو متفرّد، كأنّ الناس والحيوانات صنوان لا يختلفان في الاحتياجات، وسبل العيش، وفي ما هو أبعد من ذلك. في لقطة للبطلة وهي في عملها تمسح البلاط ويسبقها كلب يجري، يُخَيَّل إلينا في بادئ الأمر من حركتها البعيدة أنّها حيوان آخر يزحف على الأرض، إلى أن تقترب الكاميرا، فندرك حينذاك أنّها ليست حيوانًا زاحفًا.

لكنّ هذا العالم العبثيّ، الموحش الّذي نتابعه على الشاشة، يتخلّله بعض مظاهر الجمال، وفي عزّ الكآبة، تتسرّب البهجة. أغنية جميلة تقطع التوتّر والصمت تارة، أو صور لزهور وفراشات ملوّنة، وحيوانات كرتونيّة جميلة، وأصوات مريحة في مشهد تلفزيونيّ في كادر يملأ الشاشة تارة أخرى. رغم ذلك، تأتي التسلية والمتعة، والصوت الجميل، والصورة المبهجة دائمًا من وسيط ما بعيد، من جهاز تليفزيون ولو متهالك، أو من جهاز راديو في مكان ما. لا معاينة حقيقيّة للتسلية وللمتعة بصورة مباشرة في عالم كهذا، في ما يبدو. حتّى عندما يحضر الساحر لغرض التسلية وإضفاء البهجة على الحضور، يفضي الأمر إلى كارثة.

«ريش» فيلم متفرّد في تجربته، ولغته، وجماليّاته البصريّة رغم خشونتها وقسوتها، وهو فيلم مهمّ عن الوجود، والانمساخ والتحوّل، والبدايات الجديدة، والانبعاث...

رغم ذلك، ثمّة بحث عن الجمال، وسعي إلى امتلاكه. يتفاخر الزوج في بداية الفيلم بتحفته الجديدة رغم تأخّره في سداد إيجار مسكنه. "بتدّي شكل حلو للمكان، وفي نفس الوقت شيك برضه"، جملة يقولها الزوج مرّتين، وفي المرّتين يحرص على أن يُري محدّثيه زرّ تشغيلها وإطفائها. لكن هل ما يمنح الجمال قد يكون مفتقده، وقد لا يكون ‘شيك‘ وجميلًا في ذاته بالضرورة؟ وهل امتلاك الجمال، أو امتلاك ما يمنحه، يعني إمكانيّة التنعّم به فعلًا، ضمن ظروف واشتراطات مجحفة للعيش؟ لعلّنا نسأل أنفسنا ها هنا غير سؤال عن كنه الجمال، وقيمته، ومغزى وجوده.

«ريش» فيلم متفرّد في تجربته، ولغته، وجماليّاته البصريّة رغم خشونتها وقسوتها، وهو فيلم مهمّ عن الوجود، والانمساخ والتحوّل، والبدايات الجديدة، والانبعاث. الوجود الّذي نعاينه في الفيلم هشّ وثقيل في آن، لكن ربّما ما نظنّه مؤبّدًا ولا يتغيّر هو مجرّد ريش.

 


 

أميرة عكارة

 

 

 

باحثة، مهتمّة بسؤال اللغة وعلومها، وبدراسات التحليل النقديّ للخطاب، وبقضايا ودراسات الجندر والجنسانيّة. تكتب في عدّة مجلّات ومواقع عربيّة.