«البحث عن عُلا »... الذكوريّة في كوميديا نسائيّة

هند صبري في «البحث عن عُلا»

 

بمنطق تقدّميّ ونسويّ عالٍ، تحدّثت النجمة التونسيّة هند صبري، خلال لقاء في برنامج «ABtalks» الّذي يُعْرَض على «يوتيوب» ويقدّمه أنس بوخش، عن تجربتها ممثّلةً وأمًّا وامرأة وزوجة وابنة، وعن مشوارها المرهق على مدار سنتين مع «نِتْفْلِكْس» منتجةً منفّذة لمسلسل «البحث عن عُلا» وممثّلة فيه، وهو الّذي حقّق مؤخّرًا نجاحًا وانتشارًا كبيرين، وكيف أثّر المسلسل في حياتها الشخصيّة، ولا سيّما مع طفلتيها. ناقشت صراعها الشخصيّ وعلاقتها بالأمومة والزواج وعلاقتها بوالدتها، وكلّما مضيت في المقابلة أكثر ازداد إعجابي بها، وفي الوقت نفسه نفوري من المسلسل.

 

تجميل الذكوريّة

لم أعرف تمامًا لماذا لم أحبّ المسلسل؛ إذ انتابني شعور، لم أستطع أن أضع يدي عليه، بأنّ فيه شيئًا من الذكوريّة والنمطيّة، وغير حقيقيّ. قرأت الكثير من المقالات الّتي تتغنّى فيه، وأخرى تتحدّث عن أنّه يشبه برامج «تمكين المرأة» الّتي تُصَمَّم بمعايير بسيطة.

الكثير ممّا قيل حقيقيّ ومقنع، حتّى المديح كان في بعضه حقيقيًّا أيضًا؛ فالمسلسل في بعض مشاهده قادر على إضحاك المتابع، والتمثيل لمعظم المشاركين جيّد جدًّا، لكنّه لا يتجاوز بحلقاته الستّ أن يُصَنَّفَ خارج إطار الكوميديا الخفيفة غير الذكيّة، تمامًا كما وُصِفَ "مثل المشاريع الحكوميّة الّتي تحاول، عن قصد أو دون قصد، تنميط المرأة تحت غطاء تمكين المرأة".

"مثل المشاريع الحكوميّة الّتي تحاول، عن قصد أو دون قصد، تنميط المرأة تحت غطاء تمكين المرأة".

تقول صبري في مقابلتها: "مجتمعاتنا بحاجة إلى درجة من الوعي للنظر إلى أنفسنا دون تجميل"، وأنّها في مسلسلها كانت "تريد النظر إلى مؤسّسة الزواج من زاوية حقيقيّة ودون تجميل"! لكن حقًّا، أين كانت هذه الزاوية الحقيقيّة؟ من خلال طلاق حضاريّ وأحداث متتالية تكاد تكون ضربًا من الأحلام في مجتمعات محدودة، ولا تحدث في الواقع إلّا لنسبة قليلة من النساء.

المسلسل نفسه يمارس عمليّة تجميل لمجتمعات ذكوريّة، حتّى ضمن قوالب برجوازيّة، أو تلك الّتي يعرضها تقدّميّة ومثقّفة؛ فلم يكن المسلسل انعكاسًا لواقع أيٍّ من الشرائح الّتي يتناولها، وهي دون شكّ، لا تمثّل واقع النساء اللاتي يعشن في مجتمعات فقيرة، أو محافظة، أو منغلقة اجتماعيًّا، فالنساء من مختلف الشرائح والطبقات يعشن ضمن مجتمعات مبنيّة على الذكوريّة. ولكن لعلّه، وبعد الاستمرار في مشاهدة مقابلة صبري، يصوّر لحلمها الشخصيّ لما كانت تريد لطلاق والديها أن يكون عليه.

 

ظلّ الرجل

شخصيًّا، لا أحبّ لطفليّ، ولو كان لديّ ابنة لما أحببت أيضًا، أن يشاهدا هذا المسلسل؛ ففيه معالجات تعزّز تنميط المرأة والأمّ والمطلّقة، وثمّة جزء من الحقيقة في ما جرى تداوله من حوارات؛ أمّا المشكلة فأن تُتَداوَل هذه الأنماط على شكل كوميديا خفيفة لا تعالج الواقع، ولا تحاول السخرية منه بذكاء من أجل تغييره أو انتقاده، بل لأجل إضحاك المشاهد، وفقط.

لا أحبّ كيف اختارت هند أن تجمّل واقع الطلاق والمطلّقة دون أن تعالج الصورة النمطيّة للمرأة، وهو في رأيي أسوأ حقًّا من الذكوريّة. إنّ كتابة المسلسل صفعة في وجه أيّ حراك نسويّ حاولت المرأة أن تخوضه في السنوات الأخيرة، حين أظهرت المرأة تابعةً للرجل، أيّ رجل!

في مقابلتها تقول صبري إنّها تعرف تمامًا ما لا تريده في شريك حياتها: "ما أحبّش شريك حياتي متسلّط، أو بيستمدّ قوّته من ضعفي، وشايفني إنسانة ناقصة أو تابعة له… بحبّ أكون مستقلّة في دماغي وقراراتي…"، لكن ما لا ترضاه هند لنفسها، رضيت به لعُلا، فصوّرتها بالمرأة التابعة، لا لرجل واحد فقط بل لرجال عدّة.

 

 

تركت عُلا عبد الصبور أحلامها وطموحها من أجل رجل، وهذا واقعيّ ومكرّر جدًّا، وفي محاولة للانتصار للمرأة التابعة لزوجها، يرينا المسلسل كيف قرّرت عُلا المضيّ قدمًا في تحقيق أحلامها بعد الطلاق، لكنّ تحقيق الحلم جاء أيضًا من خلال قوّة الذكر، الّذي قرّر أن يؤمن بحلمها ويساعدها على تحقيقه، ومن ثَمّ رغبتها في البحث عن رجل، أيّ رجل؛ لترتبط به لتشعر بأنّها مكتملة ولها حياة. ولا حياة للمرأة، كما نراها مع عُلا، إلّا من خلال ظلّ رجل. كلّها مشاهد تؤكّد نمطيّة صورة المرأة في مجتمعات لا تؤمن بأنّنا قادرات على أن نكون شيئًا دون وجود رجل إلى جانبنا.

تواصل صبري بأنّ شخصيّة عُلا عبد الصبور هي أداة: "عُلا بتضحّك الناس، عشان كده بستقبلوا منها إشارات ممكن ما يستقبلوهاش من شخصيّة ما حبّوهاش... الكوميديا هي اللّي بتمشّي الرسايل أسهل"، وهذا حقيقيّ، الكوميديا هي واحدة من أهمّ الوسائل لإيصال الرسائل، لكن الخطورة أن تأتي الرسائل من كوميديا مستسلمة للواقع الذكوريّ وتحاول أن تجمّله.

 

الشعور بالذنب

أمّا الحوارات بين عُلا وأمّها فكانت في أكثرها واقعيّة، على الرغم من أنّها أقلّ قسوة من الواقع، لكنّها حقيقيّة وذكوريّة ومؤسفة، ومشاعر عُلا الأمّ، كانت الأجمل حقًّا، والأجمل منها بوح صبري الصادق في تلك المقابلة، حين تروي كيف أنّ حلمها في إنتاج المسلسل كان مهمًّا لها عائليًّا، وأنّ المرأة ليس عليها أن تشعر بالذنب لأنّها انشغلت عن عائلتها في مرحلة ما لتحقّق حلمها، وكيف أنّها وظّفت الإحساس بالذنب تجاه بناتها؛ لتعلّمهنّ درسًا في الحياة، بأنّ الانشغال عمّن نحبّ في سبيل تحقيق حلمنا ليس بالأمر الخطأ.

فالشعور بالذنب لدى المرأة/ الأمّ ليس فطريًّا كما تعلّمنا عائلاتنا، وكما يؤطّرنا المجتمع منذ الصغر، بقدر ما هو موروث اجتماعيّ يحصر المرأة ويضع عليها قيودًا إضافيّة، وأنّنا تمامًا مثل الرجال، ننشغل بهموم مستقبلنا وتحقيق ذواتنا وأحلامنا، وأنّ الرجل حين يغيب لأيّام وأحيانًا لأشهر طويلة من أجل العمل، لا يشعر بالذنب بقدر ما يشعر بالاشتياق إلى أطفاله وبيته، لكن نحن الأمّهات، تعلّمنا أنّ علينا الشعور بالذنب تجاه أولادنا قبل الشعور بالحبّ والاشتياق، وهو شعور يحتاج التحرّر من ثقله إلى تدريب للوعي وإنكار للسائد.

فالشعور بالذنب لدى المرأة/ الأمّ ليس فطريًّا كما تعلّمنا عائلاتنا، وكما يؤطّرنا المجتمع منذ الصغر، بقدر ما هو موروث اجتماعيّ يحصر المرأة ويضع عليها قيودًا إضافيّة...

تقول صبري في بداية حديثها عن علاقة الأمّ بأطفالها، إنّها علاقة الحبّ والخوف، "بخاف ما أكونش بعمل اللّي الأمّهات ’العاديّات الطبيعيّات‘ بتعمله، ما أكونش متفرّغة، وخايفة من تأثير دا على بناتي". تناقض صبري نفسها في الحوار، تتقمّص شخصيّة عُلا عبد الصبور لبرهة قصيرة، وتضع نفسها وغيرها من النساء في قالب نمطيّ؛ هي ليست أمًّا ’طبيعيّة‘، وهناك نساء ’عاديّات‘ اخترن العناية بأولادهنّ بدلًا من تحقيق أحلامهنّ مثلًا، لكنّها تعود لاستدراك شخصيّة هند الّتي لا تؤمن بالصورة النمطيّة للمرأة/ الأمّ.

لكن أين كانت شخصيّة صبري هذه من مسلسلها؟ لماذا ترفض لنفسها امرأةً وزوجة وحبيبة وأمًّا ما رضيت به لعُلا عبد الصبور؟

 

تطبيع الهياكل القمعيّة

يركّز المسلسل على مفهوم العلاقات بين الجنسين؛ على أنّها عدم الرضا بأدوارهما في الحياة؛ ممّا أعطى الانطباع بأنّ ما يفعله الرجال والنساء في الحياة هو المشكلة، بدلًا من أن تكون المشكلة في توازن القوّة بين الرجال والنساء، وأنّ موازين القوّة هذه تتشكّل اجتماعيًّا، وليست مشتقّة من الطبيعة البيولوجيّة لهما، وأنّ السمة المميّزة في الصراع بين الذكر والأنثى، هي صراع الهيمنة الاجتماعيّة على النساء من قِبَل الرجال، على اعتبار أنّهم فئة لها سلطة على النساء من خلال المؤسّسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبدلًا من أن يناقش المسلسل هذا الواقع وينتقده، كلّ ما فعله أنّه حاول تأطيره والتصالح معه من خلال صوت أنثويّ.

والمؤسف حقًّا أنّ صناعة الدراما تُعَدّ مكانًا مناسبًا لإعادة إنتاج أماكن دمج وإقصاء وتقييد للمرأة، وحتّى بعد تزيينها بقوالب الحداثة المادّيّة والبرجوازيّة، تظلّ الصور النمطيّة والتحيّزات المرتبطة بالجندر في الجذور التاريخيّة للنظام الأبويّ قائمة، وينعكس هذا أيضًا في الفنون التجاريّة، الّتي بدورها تُطَبِّع هذه الهياكل القمعيّة، وتعطيها مزيدًا من الظهور في سبيل الانتشار والربح المادّيّ.

ولكن ما الّذي ننتظره من مسلسل قصير وترفيهيّ مثل «البحث عن عُلا» يعلن نفسه قاصرًا من البداية عن معالجة قضايا المرأة وهمومها بعمق؟ لماذا نحمّله أكثر ممّا يحتمل وأكبر من حجمه؟ أظلّ أسأل نفسي هذا السؤال كلّما طالعني مقال أو رأي عن المسلسل، وبعد أسابيع وجدت إجابتي: كنت أنتظر منه ألّا يستخفّ بمعاناة المرأة وصعوبة تجربتها، على اختلافها، وألّا يحوّلها إلى مجرّد مشروع غير ناضج، يصفه القائمون عليه بـ «الانتصار للمرأة»، وكنت أنتظر من المتلقّيات أن يقمن بإعادة تقييم لخطورة التطبيع مع الأدوار الإشكاليّة بمبادئ المساواة وحقوق المرأة.

أرفض أن يؤطّرني هذا المسلسل بصور كثيرة لا تمثّلني، ولا تمثّل كثيرات غيري بالتأكيد، وأرفض التعاطف أو الضحك مع مشاهد مؤذية للمرأة...

 بصفتي امرأة خاضت تجربة الطلاق سابقًا، وعاشت لفترة طويلة أمًّا عزباء، أرفض أن يؤطّرني هذا المسلسل بصور كثيرة لا تمثّلني، ولا تمثّل كثيرات غيري بالتأكيد، وأرفض التعاطف أو الضحك مع مشاهد مؤذية للمرأة، يكون فيها استسهال واقعها واختصاره بصور مبتذلة، ونقل المعارك الّتي يخضنها يوميًّا ضدّ مجتمعات رجالها ونساؤها وأطفالها يمارسون الذكوريّة باعتياديّة تامّة، إلى الشاشة الصغيرة؛ ليجري التطبيع معها دون وعي، من خلال دراما ’كوميديّة خفيفة‘ كما تصفها صبري، ويصبح المسلسل، ’النسويّ’ الإنتاج، مدعاة إلى الاحتفال، بدلًا من الشعور بالغبن من اختزال معاركنا نحن النساء بتلك الصورة المهينة.

 


 

سارة القضاة

 

 

كاتبة من الأردنّ تقيم في تونس. عملت في الصحافة المكتوبة وفي التنظيم الثقافيّ، ونشرت في عدد من المجلّات والصحف العربيّة. شاركت في عديد المؤتمرات والمهرجانات العربيّة والدوليّة. تعمل حاليًّا في مجال الاتّصال للتغيير الاجتماعيّ من خلال إدارة المشاريع الثقافيّة والإعلاميّة.