الاجتياز... صورة لأكثر من امرأة

من فيلم «الاجتياز» (2021)

 

غالبًا ما تقدّم الأفلام والمشاريع السرديّة الّتي تمثّل ’المرأة‘ الاختلاف الجنسيّ على أنّه العامل الأساس في هويّتها، وتتجاهل أو تهمّش الفوارق الأخرى مثل العرق والطبقة وغيرها من العوامل الّتي تساهم في تشكيل هويّات فريدة عند تقاطعها؛ ’امرأة بيضاء‘، ’امرأة سوداء‘، فقيرة، غنيّة، متديّنة، أو علمانيّة، فيولّد اجتماع هذه العوامل المختلفة صراعات فريدة لا يمكن اختصارها في عامل واحد كالاختلاف الجنسيّ دون الإحالة إلى غيره.

يتجاهل اختزال المرأة في خطاب ’الاختلاف الجنسيّ‘ تعقيد الهويّة وتعدّد عوامل تشكّلها بصورة غير متكافئة، فحصر تمثيل المرأة في هويّتها الجندريّة يختزلها في صورة معيّنة مصنّفًا بذلك جملة من الصور ’الصحيحة‘ أو ’الإيجابيّة‘ للمرأة، والّتي تعدّ تعبيرًا واقعيًّا عنها، أي أنّه ينزع مفهوم ’المرأة‘ عن بقيّة الإناث اللّواتي لا يتطابقن مع الصور أو السرديّات أوالقراءات المقدّمة. تقول الباحثة السينمائيّة جيليان سوانسن عن هذه التصنيفات: "إنّها لا توحي بأنّ مثل هذه الأحكام النهائيّة يجب أن تطلق فحسب، بل هي تحدّ الأنثى في عقيدة لا يمكن تحديد الصراع فيها[1]"، أي أنّ حصر هويّة المرأة في اختلافها الجنسيّ عن الذكر غير كاف أيضًا لتوضيح طبيعة الصراع الّذي تخوضه المرأة بسبب هويّتها الجندريّة.

 

صورة ’صحيحة‘ لجميع النساء

في الفيلم الإيرانيّ «نساء بدون رجال» (2010) للفنّانة النسويّة شيرين نشأت والفنّان شجاع آزري، "مؤنس" الشخصيّة الّتي يحبسها أخوها في المنزل ويريد تزويجها غصبًا، تحتضن الراديو طوال الوقت توقًا للخروج والمشاركة في الثورة السياسيّة خارج أسوار المنزل، فيكسر أخوها الراديو عند تحدّيها له بأنّها لا تريد الزواج. يموضع الفيلم بوضوح علاقة مؤنس بالراديو في مقابل علاقتها بالنظام الذكوريّ المتجسّد في أخيها الّذي يسلبها ’الذاتيّة‘ ويتيحها في إطار الزواج فقط، أي في الإطار المتّفق عليه ذكوريًّا. إذ يمثّل الراديو حلم مؤنس بالذاتيّة غير الخاضعة للهيمنة الذكوريّة أو المحصورة باختلافها الجنسيّ؛ فعندما تهرب من منزل أخيها تلتصق براديو المقهى، وهو أيضًا فضاء مخصّص للرجال فقط، وفي حين تتمكّن مؤنس من اجتياز هذا الفضاء الذكوريّ في اتّجاه ذاتيّتها [الراديو]، لا تتجرّأ رفيقتها فايزة على الدخول، بل تقف بجانب المدخل فتجذب أنظار الرجال الّذين سيعتدون عليها ويغتصبونها لاحقًا. 

تحصر صورة المرأة في الذاتيّة الّتي تقدّمها ’النظرة الذكوريّة - The Male Gaze‘؛ فمؤنس تستعيد الذاتيّة فقط عندما تجلس في ’مكان الرجل‘ في المقهى ولا تصنع مكانها الخاصّ...

يمكن للراديو أن يقدّم صورة ’صحيحة‘ لواقع المرأة في حالة مؤنس في منزل أخيها، لكنّه لا يكفي لتوضيحها في ’المقهى‘ عندما تجتمع مؤنس وفايزة امرأتين في علاقات متناقضة مع المقهى والراديو. مثل هذه الصورة لا تتطرّق إلى العوامل الّتي مكّنت مؤنس من اجتياز المقهى و’العبور‘ إلى الذاتيّة، وكذلك منعت فايزة الّتي سُلِبَت ذاتيّتها حتّى الاغتصاب. لا يتطرّق الفيلم إلى الخلفيّات الطبقيّة أو السياسيّة الّتي تشكّلت فيها مؤنس وفايزة أو عائلتيهما، والّتي تحدّد لهما أدوراهما المتباينة كنساء. إذ تختلف طبيعة الهيمنة الذكوريّة باختلاف الطبقات الاجتماعيّة، ما ينعكس على علاقة النساء بالرجال مثل إمكانيّة اختلاطهنّ بهم أو وجودهنّ معهم في المكان ذاته، والّتي تكون متاحة أكثر للنساء في الطبقات الاجتماعيّة العليا. كذلك من السهل ’استباحة‘ المرأة الفقيرة لضعف موقعها الطبقيّ الّذي يجعل استغلالها بأيّ شكل قليل العواقب أو خالٍ منها تمامًا. من جهة أخرى، تحصر صورة المرأة في الذاتيّة الّتي تقدّمها ’النظرة الذكوريّة - The Male Gaze‘؛ فمؤنس تستعيد الذاتيّة فقط عندما تجلس في ’مكان الرجل‘ في المقهى ولا تصنع مكانها الخاصّ الّذي كان من شأنه استيعاب فايزة أيضًا.   

مثل هذه المشاريع السرديّة القائمة على تفضيل الاختلاف الجنسيّ، والّتي تعامل الفروق الأخرى كإضافات يمكن تجاهلها في السعي إلى الحديث عن هويّة جندريّة بحتة، تساهم في ترسيخ النظرة الذكوريّة الّتي ترى المرأة من منظور اختلافها الجنسيّ عن الذكر ورغباته تجاهها فقط. في حين توضّح الباحثة السينمائيّة النسويّة ماري آن دوان أنّه في الواقع "تتركّب الهويّات والتمثيلات والقراءات الجنسيّة المختلفة من خيوط متباينة وغير متكافئة"، تتعلّق بعوامل أخرى اقتصاديّة ونفسيّة وأيديولوجيّة…فيصبح تشييء المرأة - أي معاملتها كشيء - خطابًا واحدًا فقط من "مجموعة من الخطابات المتقاطعة الّتي تجزّئ أيّ محاولة لخلق ’الذاتيّة‘ أو الصورة الشموليّة للمرأة"[2].  

تبرز هذه التجزئة خاصّة عند محاولات تمثيل ’النساء غير البيض‘، اللّواتي تتقاطع فيهنّ هويّات متعدّدة؛ فنلاحظ بوضوح الانفصال بين ’المرأة‘ وكلّ ما يمثّل استقلالها أو ذاتيّتها، مثل انفصال مؤنس وفايزة عن المقهى والراديو، وقصور خطاب الاختلاف الجنسيّ في التعبير عن هذا الانفصال، أو انفصال ’المرأة العربيّة‘ عن الشارع في ساعات الليل في ما عدا ليل شهر رمضان؛ رغم أنّ المرأة ما زالت هي نفسها والشارع هو الشارع؛ فما الّذي يتغيّر؟

 

أكثر من ’نساء‘ 

في المقابل، يقدّم فيلم  فيلم «الاجتياز»  [Passing] (2021) للمخرجة ريبيكا هول، المأخوذ عن رواية تحمل الاسم ذاته، صورًا عن نساء ’مجتمع هارلم الأسود‘ العابرات للهويّات العرقيّة والطبقيّة، وربّما أيضًا للهويّة الجنسيّة الغيريّة heterosexual، مشكّلًا صورة لـ ’المرأة‘ تتجاوز الاختلاف الجنسيّ من خلال تسليط الضوء على إبهام المناطق الّتي تتقاطع فيها الهويّات وتتقارب الفوارق المختلفة، والّتي لا يمكن البحث فيها في فارق معيّن دون الإشارة إلى غيره بالضرورة[3].

تمارس ’نساء المولاتو‘، اللّواتي يختلط عرقهنّ بين الأبيض والأسود، في الفيلم ما يسمّى بـ ’الاجتياز العرقيّ Racial Passing‘، ما يعني التظاهر بأنّهنّ من العرق الأبيض لأنّ مظهرهنّ الخارجيّ لا يكشف سوادهنّ، فيتيح لهنّ العبور إلى أماكن ومواقع غير متاحة للسود. يسرد الفيلم قصّة التقاء آيرين الّتي تمارس الاجتياز العرقيّ أحيانًا بصديقتها القديمة كلير شقراء الشعر، الّتي هجرت مجتمعها الأسود الكادح في هارلم وتعيش حياة من حالة اجتياز مستمرّة؛ فحتّى زوجها الأبيض – والعنصريّ – لا يعلم باختلاطها العرقيّ. فتعيش كلير حياة ’أرقى‘ من حياة آيرين الّتي تكافح لاجتياز طبقتها الوسطى والتماهي مع طبقة برجوازيّة مثل طبقة كلير.

 

من فيلم «نساء بدون رجال» (2010)

 

تتناول القصّة اضطراب حياة آيرين إثر لقائها بكلير الّتي تتوق إلى العودة لتكون جزءًا من مجتمع السود مرّة أخرى، لكن دون التخلّي عن الامتيازات والحرّيّة الّتي يتيحها الاجتياز العرقيّ الّذي تمارسه في نظام يفضّل العرق الأبيض؛ فالاجتياز يتيح لكلير حياة الطبقة البرجوازيّة البيضاء العابرة للقارّات بين أوروبّا وأمريكا. أمّا آيرين الّتي تزوّجت رجلًا أسودًا لا يمكنه الاجتياز بسبب سواده غير القابل للإخفاء، فتعيش معه ومع ابنيها اللّذين وَرِثا سواد بشرة أبيهما؛ حياة متوسّطة في هارلم تمارس فيها الاجتياز العرقيّ فقط دون قصد منها. تمتعض آيرين من تصرّفات كلير الأنانيّة وتخلّيها التامّ عن عرقها، فتصفها آيرين بأنّها "تمارس الاجتياز أكثر ممّا ينبغي"؛ فعندما تتعرّف آيرين على زوج كلير الّذي لا يعرف عرقيهما يطلق العنان لعنصريّة مؤكّدًا رغبته في الابتعاد عن ’السود‘ بقدر ما يمكن، ما جعل آيرين تتوجّس من اقتحام كلير المستمرّ لبيتها وحياتها في هارلم.

’الاجتياز العرقيّ Racial Passing‘، يعني التظاهر بأنّهنّ من العرق الأبيض لأنّ مظهرهنّ الخارجيّ لا يكشف سوادهنّ، فيتيح لهنّ العبور إلى أماكن ومواقع غير متاحة للسود...

قد لا تمارس آيرين الاجتياز العرقيّ بصورة دائمة مثلما تفعل كلير، لكنّها تمارس اجتيازًا طبقيًّا؛ فعلى الرغم من حالتها المستورة تسعى بكدّ لعيش حياة برجوازيّة، فتشغّل خادمة ’سوداء‘ وتتطوّع في الجمعيّة المحلّيّة للمجتمع الأسود في هارلم وتنظّم فيها الحفلات الخيريّة الّتي تدعو إليها بعض المثقّفين البيض. تراعي آيرين باجتيازها الطبقيّ هذه المعايير والأخلاقيّات الّتي سنّتها «الحركة الزنجيّة الجديدة»، أو «نهضة هارلم» في العشرينيّات والّتي سعت إلى التماهي مع قيم المجتمع البرجوازيّ الأبيض السامية. فرأت الحركة في قيم وأخلاقيّات النساء السود من الطبقة الوسطى ’الطموحة‘، التي اتّسمت بالكدّ والإخلاص و’المحافظة‘ في ما يتعلّق بالجنسانيّة، تمثيلًا أفضل للنساء السوداوات من قيم نساء الطبقة الكادحة الّتي تحسبها "قيم جنسيّة هابطة"، والّتي لا "تمثّل النساء السوداوات عامّة"[4]

 

هويّة معقّدة - صراعات معقّدة

يلتقي اجتياز آيرين الطبقيّ بالاجتياز العرقيّ في إحدى المناطق المبهمة الّتي نتحدّث عنها؛ إذ تبرز الهويّة الطبقيّة الّتي تحاول آيرين تقمّصها في الحفل الراقص الّذي تنظّمه للجمعيّة، والّذي تقحم كلير نفسها برفقة آيرين وزوجها. حين تجلس آيرين مع صديقها المثقّف ’الأبيض‘ ويتبادلان ملاحظات أنثروبولوجيّة عن مشهد الرقص الكرنفاليّ أمامهما، والّذي تنسحب فيه زوجته الأوروبيّة مع الرجال السود الّذين يرقصون من حولها، بينما تخطف كلير براين، زوج آيرين، للرقص معها.

في هذا المشهد تتقارب الفوارق الجنسيّة والعرقيّة والطبقيّة الّتي تنظّم الهويّات المختلفة وفق نظام يكرّس المغايرة الجنسيّة لضمان نقاء العرق الأبيض وسيطرته. عندما ينسجم الراقصون والراقصات البيض والسود في الرقص على موسيقى السود بنمط أسود، أي بطريقة قد تعدّ همجيّة من منظار برجوازيّ أبيض وتمثّل قيمًا ’متدنّيّة‘، يذوب الفارق العرقيّ في الفارق الطبقيّ، ممّا يؤكّد تماهي آيرين في طبقة برجوازيّة؛ فهي تنظّم هذه الحفلات تطوّعًا ثمّ تشارك المثقّف الأبيض منظوره، فاجتيازها إذن مقرون بهذا التذويب.

في الوقت ذاته، تبرز إيحاءات المثقّف الأبيض حول زوجته المستثارة من الرجال السود الراقصين حولها، إبهام الهويّة الجنسانيّة الّتي تنظّمها الهويّة العرقيّة؛ فـ ’النظرة البيضاء – White Gaze‘ المهيمنة على الخطاب الجنسانيّ تحرّم العلاقات الجنسانيّة العابرة للعرق، والّتي تُسْتَمدّ في الوقت نفسه من غيرة الرجل الأبيض من جنسانيّة الرجل الأسود ورغبته في امتلاكها.

تصف آيرين هذا الالتباس في الهويّة الجنسيّة بأنّه "حماس عاطفيّ لما هو مختلف... حتّى إن كان بغيضًا قليلًا بالنسبة لنا". هي تقرّ بأنّ الرغبة الجنسيّة – وعليه الهويّة الجنسانيّة أيضًا – مضمّنة في الرغبة في تجاوز العرق داخل النظام المهيمن، ما يجعل كلير، الّتي تحافظ على هويّة طبقة برجوازيّة متجسّدة في رزانتها في الرقص وعلى هويّة بيضاء مجسّدة في اجتيازها العرقيّ، مرغوبة لدى آيرين الّتي تتفحّصها بعينيها وتمسك يدها بانجذاب. فبحسب وصف المنظّرة النسويّة جوديت بتلر Judith Butler، يشكّل "الاجتياز في حدّ ذاته إغراءً؛ إنّه القابليّة للتغيير، حلم التحوّل، حيث تشير هذه القابليّة إلى نوع من الحرّيّة، إلى تنقّل طبقيّ يتيحه ’البياض‘ الّذي يشكّل قوّة هذا الإغراء"[5]. تصف آيرين إحساسها هذا بشيء لا يمكن تعريفه لأنّه يتعدّى حدود وممنوعات الهويّة البيضاء البرجوازيّة الغيريّة الّتي ترغب في تقمّصها.

يجعل هذا الإغراء من كلير موضع رغبة لدى آيرين الّتي تُفقِدُها أوهام خيانة زوجها لها مع كلير، فتكتب جوديث بتلر في قراءة كويريّة لفيلم «الاجتياز» أنّ "آيرين تُسقِطُ رغبتها في كلير على زوجها براين؛ فعندما تنزل آيرين الدرج لملاقاة براين وكلير، يتراءى لها في المرآة انعكاس ظهر زوجها الّذي يقترب مسافة حميميّة من كلير، ويتّضح غير ذلك عندما تقابلهما. فكأنّ المرآة تجسّد ما سمّاه فرويد بـ Doubling، الّذي يمثّل تجسّد الرغبات المكبوتة لآيرين في انعكاس المرآة الّتي تكشف صورتها الحقيقيّة"[6]. فإذن، يعود جنون آيرين إلى اضطرابها الّذي تَبِعَ لقاءها بكلير الّتي تمثّل رغبتها وحلم تحقيق ذاتيّتها؛ الاضطّراب الّذي دفعها إلى الشكّ  في مدى رضاها عن حياتها كما هي والشكّ في رغبتها في هويّتها ’السوداء‘.

 

أحكام قاتلة

يحضر الالتباس/ الإبهام في الفاجعة الّتي تحدث في نهاية الفيلم؛ فعندما يدخل زوج كلير الّذي يحترق غضبًا لاكتشافه حقيقتها العرقيّة نصف السوداء، تقع كلير من نافذة الطابق السادس في لحظة لا نعرف فيها إن دفعها زوجها الأبيض الغاضب، أو إن كانت آيرين الّتي كانت تقف بجانبها ’مصادفة‘ هي الّتي دفعتها، أم أنّها ألقت بنفسها.

كأنّ هذه النهاية تتساءل عن الفارق الّذي ألقى بها إلى حتفها؛ أيّ هويّة انهارت عندما سقط قناع العرق الّذي وضعته كلير لوقت طويل؟ هل سقطت لأنّها امرأة ’سوداء‘ بالنسبة لزوجها وللعالم الأبيض الّذي عليه المحافظة على نقاء عرقه؟ أم أنّ تلك هي آيرين، الّتي تصارع بداخلها رغبتها في كلير ووهم خيانة رفيقتها وزوجها، هي من ألقت بكلير من النافذة لتلقي معها رغباتها الكويريّة – العرقيّة والجنسيّة – حرصًا على تماسك هويّتها وحفظ حياتها الحاليّة؟ فـ «حركة نهضة هارلم» الأخلاقيّة رأت في هذه الكويريّة وفي الكويريّات السود تهديدًا للارتقاء الّذي يطمح إليه العرق الأسود والّتي كانت قد جعلت من ’النساء السود‘ مندوبه الأساسيّ[7]. أم أنّ كلير ألقت بنفسها لأنّها خسرت الرغبة في الحياة بعدما خسرت هويّتها المصطنعة، ومن ثمّ خسرت قدرتها على الانتماء لهويّة مرغوبة بكافّة مكوّناتها. أو ربّما هي هذه كلّها مجتمعة كما تقول بتلر؛ لعلّ هذا الانقطاع في السرد أو غموض الحدث هو المنطقة المبهمة الّتي تصنع ذاتيّة أو هويّة كلير، أيّ أنّها المنظومات الاجتماعيّة والعرقيّة مجتمعةً هي الّتي تطلق ’أحكامًا قاتلة‘[8].

عند السؤال عن هويّة المرأة الّتي تمشي ليلًا في شهر رمضان، لا نسأل فقط عن هويّتها بصفتها امرأة تمشي في مساحة متاحة حصرًا للذكور، بل أيضًا عن هويّتها كمستهلك تحتاجه الدورة الاقتصاديّة الّتي تبدّلت ساعات عملها...

بهذا الغموض يوضّح فيلم «الاجتياز» تقاطع القوى والعوامل الهويّاتيّة المختلفة الّتي تشكّل المرأة أو الأنثى – وتفكّكها أيضًا أو تنهيها – والّتي لا تأتي حصرًا في الاختلاف الجنسيّ، فيمكننا تشكيل صورة لنساء هارلم المولاتو من خلال آيرين وكلير لا تنحصر في سرديّة أو صور أيّ منهما؛ بل في تشابك وتماهي التراكيب الّتي تكوّنهما وتجمعهما.

اجتياز آيرين وكلير في «الاجتياز» مثل راديو مؤنس في «نساء بدون رجال»؛ هو حلم الذاتيّة الّتي تكون متاحة أو غير متاحة بحسب القوى الّتي تهيمن على فضاءات الهويّة؛ فعند السؤال عن هويّة المرأة الّتي تمشي في الشارع ليلًا في شهر رمضان، لا نسأل فقط عن هويّتها بصفتها امرأة تمشي في مساحة متاحة حصرًا للذكور، بل أيضًا عن هويّتها كمستهلك تحتاجه الدورة الاقتصاديّة الّتي تبدّلت ساعات عملها ومن ثمّ أتاحت للمرأة اجتياز فضاءات كانت ممنوعة عليها في السابق.

يكشف هذا الالتباس هشاشة التصنيف العامّ المسمّى ’امرأة‘، وقصوره في التعبير عن ذاتيّة تشترك فيها النساء أو الإناث اللّواتي تتباين معالمهنّ بالضرورة ويتبدّل هو وفق مصالح الفئة الّتي تجلس أعلى هرم الذاتيّات المطروحة في كلّ حالة؛ فكما تقول بتلر: "إنّ الجندر هو نسخة لا أصل لها"[9]، بل تكرار تتلاعب فيه رغباتنا وتحدّه السياسات الاجتماعيّة. 

 


إحالات

[1] Gillian Swanson, Building the feminine: Feminist film theory and female spectatorship, Continuum, 4:2, (1991), pp 206-217.

[2] Gillian Swanson, Building the feminine: Feminist film theory and female spectatorship, Continuum, 4:2, (1991), pp 206-217.

[3] Butler, Judith, Bodies that Matter: On the Discursive Limits of "sex", p 122.

[4] Elizabeth Dean, The Gaze, The Glance, The Mirror: Queer Desire and Panoptic Discipline in Nella Larsen’s Passing, Women's Studies, 48:2, p 98.

[5] Butler, Judith, Bodies that Matter: On the Discursive Limits of "sex". p. 125.

[6] Ibid, p. 124.

[7] Elizabeth Dean, The Gaze, The Glance, The Mirror: Queer Desire and Panoptic Discipline in Nella Larsen’s Passing, Women's Studies, 48:2, p 99.

[8] Butler, Judith, Bodies that Matter: On the Discursive Limits of "sex".

[9] Ibid. 

 


 

حنين عودة الله

 

 

 

مخرجة وكاتبة فلسطينيّة مهتمّة في التحليل الثقافيّ والفلسفة والسينما والثقافة الشعبيّة والبديلة. حاصلة على شهادة الماجستير في «التحليل الثقافيّ المقارن» من «جامعة أمستردام».