"الفتاة من أوسلو": هل من غرابة في أنّ العربيّ لا يحكي القصّة؟

من مسلسل «الفتاة من أوسلو»

 

قد يكون «الاستشراق» مصطلحًا أصبح مستهلكًا بعض الشيء، لكن لا يمكن مشاهدة «الفتاة من أوسلو» (2021) دون رؤية الأساس الاستشراقيّ فيه. مرّ نصف قرن على إصدار كتاب إدوارد سعيد المفصليّ في دراسات ما بعد الاستعمار، وبدأ العديد من النقّاد يتعاملون معه بصفته مستهلكًا يعقّر الحوار النقديّ، لكنّ إصدارات «نتفلكس» الأخيرة الّتي تعالج قضايا الاحتلال الإسرائيليّ، تبرهن بصورة واضحة أنّ الاستشراق الغربيّ للشرق وللعرب عامّةً ما زال حيًّا يرزق.

 

عربيّ إرهابيّ آخَر

بعد مسلسل «فوضى» الكارثيّ، و«شتيسل»، و«طهران»، يأتي الاحتلال بدراما نتفلكسيّة جديدة ومثيرة للجدل، «الفتاة من أوسلو»، فيها يؤدّي العربيّ دور الإرهابيّ الداعشيّ الّذي أصبح مألوفًا ومملًّا بتطرّف. هذه المرّة، المسلسل أُنْتِجَ بشراكة بين منتجين إسرائيليّين ونرويجيّين، لكن هذا لا يكفّر عن شيء.

 

 

يحكي المسلسل قصّة بيا، وهي سائحة نرويجيّة شابّة، يختطفها تنظيم «داعش» في سيناء، بينما تكون برفقة أخ وأخت إسرائيليّين. «داعش» يهدّد بقتلهم ويحاول التفاوض على إطلاق سراح أسراه في إسرائيل والنرويج. والدة بيا، أليكس، تسافر على الفور إلى إسرائيل، في محاولة لاستخدام علاقاتها في إسرائيل وغزّة، الّتي طوّرتها بينما كانت جزءًا من التفاوض على «اتّفاقيّة أوسلو».

 

وزير الأمن الإسرائيليّ، أريك، هو والد بيا البيولوجيّ، الّذي كانت له علاقة حميمة مع والدتها أليكس، بينما كانوا في مفاوضات «أوسلو». بيا نفسها تزور إسرائيل للعثور عليه. الضلع الثالث في مثلّث «أوسلو» هي ليلى، زوجة شهيد من قيادات «حَماس»، الّتي بناءً على حبكة المسلسل، كانت جزءًا من مفاوضات «أوسلو». ابن ليلى، يوسف، قد سمع منها أنّ بيا في طريقها إلى رحلة إلى سيناء، فانضمّ إلى «داعش»، وأخبرهم بذلك ليستغلّوا الفرصة للخطف والتفاوض على تحرير أسراهم.

 

قتل المخطوفة الإسرائيليّة يجعل يوسف يشكّك في طريقة تعامل «داعش» مع المخطوفين، فيساعدهم على الهرب ويأخذهم إلى غزّة؛ ليصبحوا مخطوفين في أيدي «حَماس» للتفاوض مع الإسرائيليّين. في حالة اليأس، توظّف أليكس تكتيكات تفاوض شرسة وعنيفة بمساعدة أريك، متجاهلين تمامًا الآثار المترتّبة على الأضرار ’الجانبيّة‘ على حياة الأشخاص الّذين يتعاملون معهم.

 

إقحام غزّة

إدخال «حَماس» إلى القصّة، واستغلال غزّة بصفتها بؤرة الشياطين الإرهابيّة، هما بلا شكّ خطوة بروباغنديّة لتبييض صورة إسرائيل في المسلسل؛ لأنّها تمثّل كذلك ثغرة سخيفة في الحبكة الدراميّة. عمليًّا، يمكننا فهم هذه الرسائل الأيديولوجيّة فيه لمجرّد متابعة صور تمثيل العربيّ في المسلسل؛ فالفلسطينيّ (يوسف) هو الخائن لوطنه ولجماعته الإرهابيّة (المتمثّلة في دور بشير، قائد «حَماس» المُقْعَد في المسلسل)؛ من أجل جماعة إرهابيّة ثانية تتمثّل في «داعش».

قضيّة إشكاليّة أخرى تظهر بوضوح في المسلسل، تكمن في تعامُل إسرائيل مع غزّة، حيث في بداية الحلقة الرابعة، عند يأس القادة الإسرائيليّين، يلقي أريك، وزير الأمن الإسرائيليّ، قوله إنّ الحلّ سيكون في قصف غزّة، دون أن يكون (حتّى هذا المشهد) أيّ علاقة لغزّة بالخطف. يكشف المشهد شيطانيّة الإسرائيليّ الّذي يختار إلقاء اللوم على غزّة و«حَماس» في كلّ أمر.

إدخال «حَماس» إلى القصّة، واستغلال غزّة بصفتها بؤرة الشياطين الإرهابيّة، هما بلا شكّ خطوة بروباغنديّة لتبييض صورة إسرائيل في المسلسل؛ لأنّها تمثّل كذلك ثغرة سخيفة في الحبكة الدراميّة.

فاجأتني جدًّا هذه الصورة الغريبة عن روح المسلسل، لكنّ أحداثه سرعان ما كفّرت عنها في المشهد القادم الّذي كشف أنّ يوسف، أحد أعضاء فرقة الخطف الداعشيّة حتّى ذلك المشهد، هو ابن غزّة أصلًا، وأكثر من ذلك أنّه ابن ليلى! عُرِضَ هذا المشهد مباشرة بعد مشهد الشيطانيّة الإسرائيليّة ليوضّح المقولة بأنّ غزّة دائمًا جزء من العدوان على إسرائيل، ودائمًا مشاركة في أيّ سوء يحصل لها.

 

إحالة إلى «فوضى»

حتّى الخيارات الدراميّة في المسلسل تجعل المشاهد يرفع حاجبه بتعجّب، فمثلًا منذ الحلقات الأولى، يُصاب المخطوف الإسرائيليّ، نَداف، برصاصة في رجله؛ ممّا يضعفه من بداية المسلسل، كأنّه من غير المعقول أن يكون جنديّ إسرائيليّ مسرّحًا ضعيفًا ومخطوفًا، إلّا إذا كان تفسير منطقيّ لذلك؛ رصاصة في رجله، أو مثلًا قتل يوسف في الحلقة الأخيرة، فقط عندما يحاول مساعدة المخطوفين وتهريبهم، وكأنّ نتيجة ’الإحسان‘ للإسرائيليّ عند «حَماس» تكون دائمًا برصاصة قاتلة.

في مشاهد أخرى، فيها يختار أريك توظيف كتيبة خاصّة للدخول إلى سيناء وإنقاذ المخطوفين من أيدي «داعش»، نقابل قائد الكتيبة غرانت، الّذي يقوم بدوره بوعاز كونفورتي، أحد أبطال مسلسل «فوضى».

في هذا العرض يربط المسلسل مباشرة بين «فوضى» و«الفتاة من أوسلو»، وكأنّه يقول إنّ كتيبة الإنقاذ الّتي تتحدّث العربيّة، هي ذاتها كتيبة المستعربين المجرمة الّتي يقودها ليئور راز، منتج وبطل مسلسل «فوضى». لا يكتفي المسلسل بهذه الرمزيّة، بل يضيف إليها شخصيّة غائبة يكلّمها أريك في الهاتف، اسمها ليئور، كاسم ذلك القائد. هل هذا الخيار مقصود؟ لا أعرف. قد يكون، فقد أخذني مباشرة إلى هذا المكان عندما سمعت أريك يهاتف ليئور في الحلقة الأخيرة، قبل الدخول إلى نفق «حَماس» لإنقاذ المخطوفين.

 

مَنْ يحكي القصّة؟

عودة إلى الاستشراق، يمكننا متابعة البنود المركزيّة الّتي تكشف هذه النظرة في المسلسل، ورؤيتها واحدة تلو الأخرى؛ فالنقص المتأصّل مثلًا، يظهر في أنّ مَنْ يحكي القصّة هو الإسرائيليّ والأوروبّيّ، دون أيّ صوت عربيّ أو فلسطينيّ يشارك بدوره أو بخاصّيّة شخصيّته، فالشخصيّات العربيّة بالمسلسل سطحيّة بشكل متطرّف، فحتّى الإرهابيّون المركزيّون في المسلسل: بشير – قائد «حَماس»، وعليّ – قائد «داعش»، وأبو سليم - أسير «داعش»، كلّهم شخصيّات لا نعرف عنها شيئًا سوى أنّها إرهابيّة؛ وهو ما يمثّل كذلك الميزة الاستشراقيّة المتمثّلة في الإسكات والسكوت المتأصّل؛ فالعربيّ لا يمكنه الكلام، بل هو في حاجة إلى شخصيّة أخرى لتتكلّم باسمه؛ بشير يحتاج إلى ليلى لتمثّله، وإلى جنوده ليقوموا بنشاطاته، عليّ في حاجة إلى جنوده لينفّذوا ما يأمرهم وليقتلوا بأيديهم، وأبو سليم في حاجة إلى المحامي النرويجيّ لينقذه من السجن ويحرّره. كذلك الخطر المتأصّل في الشرقيّ، في كونه إرهابيًّا في كلّ الأحوال، هو شرط استشراقيّ واضح لعرض صورة الشخصيّات العربيّة في المسلسل.

"الشرقيّ لاعقلانيّ، لئيم، طفوليّ، مختلف، [أحسب سعيد]؛ بالتالي، يكون الأوروبّيّ عقلانيًّا، كريمًا، ناضجًا، وطبيعيًّا"، وعمليًّا كلّ المسلسل يعرض «داعش» و«حَماس» وغزّة في ذات الخانة، ويبلورها كذلك الشرقيّ، الآخر، المعاكس للرجل الأبيض المتنوّر الّذي لا يريد سوى السلام والعيش بأمان.

لم تخض أيّ شخصيّة عربيّة أيّ تطوّر في المسلسل، سوى شخصيّة يوسف، الّتي أصبحت متعاونة مع المخطوفين؛ وبذلك مثّلت النمط الأوّل. والنتيجة، أنّ قيادة «حَماس» قتلتها وتخلّصت منها...

 

يقترح سعيد في «الاستشراق» نمطين متناقضين يعتمدهما الأوروبّيّ نحو الشرقيّ؛ الأوّل هو السيرورة التطوّريّة لتعليم الشرقيّ لكي يصبح مثل الأوروبّيّ؛ والثاني هو السيرورة المؤكّدة لنفسها بتعليمهم ليصبحوا ما تصوّره الأوروبّيّون دائمًا عنهم؛ تمثيلًا نموذجيًّا ’للعقل الشرقيّ‘ الثابت، المحافظ الّذي لا يتطوّر. وعمليًّا لم تخض أيّ شخصيّة عربيّة أيّ تطوّر في المسلسل، سوى شخصيّة يوسف، الّتي أصبحت متعاونة مع المخطوفين؛ وبذلك مثّلت النمط الأوّل. والنتيجة، أنّ قيادة «حَماس» قتلتها وتخلّصت منها، على الرغم من أنّ الشخصيّة كانت تحت تبادل نيران إسرائيليّ - حماسيّ، إلّا أنّ شخصيّة يوسف ماتت برصاص «حَماس»!

 

"أنا أنقذ حياتك"!

في الحقيقة، إن كان ثمّة شيء ما يمكن اعتباره إيجابيًّا في الحبكة الدراميّة، وفي عرض الشخصيّات في المسلسل، فهو يتمثّل فقط بدور والد بيا النرويجيّ، كارل، الّذي يقرّر الدفاع عن أسير «داعش» (أبو سليم) في المحكمة؛ لكي يحرّره ويساعد على تحرير ابنته من أيدي خاطفيها؛ بسبب أنّ موقف الحكومة النرويجيّة هو عدم التفاوض مع ’الإرهابيّين‘. لكنّ هذه الحبكة وهذا المأزق الأخلاقيّ، رغم كونه شرارة ضوء في المسلسل، ينهار بسرعة ويتلخّص في تراجع كارل بسرعة ودون عرض المأزق بوضوح. جرى تلخيص الحدث في مقولة يقولها لأبي سليم بعدما قرّر أن يعيده للشرطة، وألّا يسلّمه لقوى «حَماس» الّتي ترغب في قتله: "أنا أنقذ حياتك. قلت لك، أنا لست مثلك".

المسلسل في نظرة عامّة يمثّل المقولة "الآباء يأكلون الحصرم"؛ إذ إنّ المأساة تحصل بالأساس لأبناء الشخصيّات الّتي شاركت في مفاوضات «أوسلو»، وكأنّه مسلسل جاء للتكفير عن أخطاء الأخيرة وعرضها كارثةً لكلّ الأطراف، فما زال الجميع يدفع ثمنها. لكنّه في النهاية، لا يختلف بتاتًا عن مسلسل «فوضى»، وليس فيه أيّ إضافة عن استشراقيّة «فوضى» الّذي أصبح اسم علم للبروباغاندا الإسرائيليّة؛ بهدف تبييض صورة الاحتلال.

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في "جامعة تل أبيب"، في مجال "أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ"، محرّر موقع "حكايا".