«صالون هدى»: نسختان لقصّة واحدة

من فيلم «صالون هدى» (2022)

 

كشف المشهد التمثيليّ الّذي استُقْطِعَ من سياقه في فيلم «صالون هدى» (2022) للمخرج الفلسطينيّ هاني أبو أسعد، والّذي جرى تسريبه على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ قبل تسريب الفيلم كاملًا، كشف عن مفارقة غريبة وعن حقيقة يحاول البعض تغييبها أو تأويلها أكثر من اللازم، وهي أنّ النسخة المسرّبة كانت موجّهة للجمهور الغربيّ وتختلف عن تلك الّتي كانت ستعرض في البلاد العربيّة.

 

السياق الثقافيّ للتوزيع السينمائيّ

لكنّ عرض نسختين مختلفتين لا يتعلّق برغبة المخرج في تمييز المتلقّي الأجنبيّ على حساب المتلقّي العربيّ، بل تدلّ على إدراكه بأنّ عرض نسخته العالميّة في دور العرض العربيّة سيؤدّي بالرقابة إلى حذف مشهد العريّ، ولأنّ العرض التجاريّ العربيّ كان على وشك البدء فقد كان إنتاج نسختين يعود لأسباب تتعلّق بالتوزيع الّذي يحدّد شكل الفيلم بناءً على شروط وقواعد الدول المختلفة.

ليس غريبًا أن يكون ثمّة أكثر من نسخة للفيلم الواحد، فذلك ما يحدث أيضًا مع الأفلام الأجنبيّة الّتي تعرض في دور السينما العربيّة؛ فقد تبيّن بعد سنوات من مشاهدة عروض بعض الأفلام الأجنبيّة أنّنا لم نشاهد نسخها الأصليّة بعد انتشارها عبر الإنترنت، وحتّى اليوم ثمّة معايير لعرض الفيلم الأجنبيّ في غالبيّة دور السينما العربيّة تخضع لشروط ومعايير محدّدة.

لا يتعلّق إنتاج نسختين للفيلم الواحد بنظرة المخرج للمتلقّي العربيّ، بل يعكس احترامًا للثقافة العربيّة من خلال إنتاج نسخ تتلاءم معها وتبعد الفيلم عن مقصّ الرقابة...

إذن، لا يتعلّق إنتاج نسختين للفيلم الواحد بنظرة المخرج للمتلقّي العربيّ، بل يعكس احترامًا للثقافة العربيّة من خلال إنتاج نسخ تتلاءم معها وتبعد الفيلم عن مقصّ الرقابة الّذي يخشاه كلّ صانع سينمائيّ، والواقع أنّ من سرّب النسخة العالميّة من الفيلم هو الّذي انتهك مشاعر المتلقّي العربيّ وسلب صانع الفيلم حقّ الردّ أيضًا، وهنا من الضروريّ توضيح هذه التفاصيل في عالم توزيع الأفلام.

وعلى الرغم من أنّ الفيلم فيلم عربيّ، لكنّه من تلك الأفلام الّتي تبدأ عروضها من خلال المهرجانات السينمائيّة، وذلك ما يمكّن الفيلم من التعرّض لمشاهدات عالميّة ويمكّن القصّة الفلسطينيّة من الوصول إلى عديد الثقافات والتفاعل معها، ويدرك صانع العمل أنّ هذا التفاعل يختلف من ثقافة إلى أخرى، وأنّ لفهم الحكاية معايير وأساليب تحكمها الخصوصيّات الثقافيّة المتعدّدة. وذلك لا يتعلّق بتفضيل مشاهد على آخر، بل يتعلّق بإيجاد الطريقة الأفضل لإيصال الهدف من القصّة بطريقة تتلاءم وكمّيّة المعلومات الّتي يعرفها المتلقّي عن الحكاية، وخاصّة الحكاية الفلسطينيّة.

 

بين المتلقّي الفلسطينيّ والغربيّ

يعرف المتلقّي العربيّ، والفلسطينيّ بشكل خاصّ، الحكاية الفلسطينيّة والتحدّيات والمعوّقات الّتي يعيشها الفلسطينيّون بشكل يوميّ تحت الاحتلال، كما يعرف قدرة الاحتلال على ابتكار أساليب جديدة تمكّنه من سيطرة أكبر وأعمق على البلاد، يعرفها ويتوقّعها قبيل تحويلها إلى قصّة سينمائيّة، ويدرك أنّه في مواجهة يوميّة مع تكتيكات لا إنسانيّة يبتكرها الاحتلال ليفقده الأمل في غد أفضل، يعرف هذا كلّه وأكثر لأنّه يعيشه وهو نفسه الحكاية.

أمّا بالنسبة للمتلقّي الغربيّ، فثمّة ضرورة ليعرف فلسطين بعيدًا عمّا اعتاد عليه لسنوات من الدعاية الصهيونيّة الموجّهة عبر وسائل الإعلام الأجنبيّة والسينما الغربيّة، والّتي رسّخت لديه قناعات من الصعب التشكيك فيها، وهنا تؤدي السينما الفلسطينيّة دورًا بالغ الأهمّيّة ليس ثمّة مبالغة في أهمّيّته، وهو الدور الّذي مكّنها من إيجاد مكان دائم لها في كبرى المهرجانات العالميّة والمحافل الدوليّة، ومكّنها من حصد الجوائز وفي أحيان أخرى تحفّز على استحداث جوائز خاصّة كما حدث مع فيلم المخرج الفلسطينيّ رائد أندوني «اصطياد أشباح» (2017)، في «مهرجان برلين السينمائيّ». 

يعرف المتلقّي العربيّ، والفلسطينيّ بشكل خاصّ، الحكاية الفلسطينيّة والتحدّيات والمعوّقات الّتي يعيشها الفلسطينيّون بشكل يوميّ تحت الاحتلال... لأنّه هو نفسه الحكاية...

يمكن للسينما الفلسطينيّة إحداث هذا الفارق، ومنح الفرصة لفرق العمل السينمائيّة أن تقف على كبرى المسارح وأن تجيب عن كلّ الأسئلة الّتي تخلقها الحكاية الفلسطينيّة في عقول المتفرّجين؛ أن يقفوا على تلك المسارح بثقة أصحاب الحقّ وأن يدافعوا عن قصّتهم وقضيّتهم ويضيفوا على سرد الحكاية، وفي ذلك شكل آخر من أشكال المقاومة؛ فصناعة فيلم فلسطينيّ يجوب العالم هو أيضًا شكل من أشكال المقاومة الّتي تسعى لكشف الوجه الحقيقيّ للاحتلال الصهيونيّ.

لهذه الأسباب يحتاج المتلقّي الغربيّ تفاصيل أكثر بحسب الحكاية الّتي يبنى عليها الفيلم، وحكاية «صالون هدى» تروي انتهاك الاحتلال الإسرائيليّ للجسد واستغلاله إدراكًا منه لحساسيّة هذا الجسد في الثقافة العربيّة، ولذلك فإنّ ثمّة بعض الصحّة في القول إنّ الفيلم بإمكانه إيصال رسالته دون مشهد العريّ، ولكن فقط في حالة إن كان المتلقّي يعرف ما وراء الحكاية وملمّ بسياقاتها الثقافيّة والاجتماعيّة. لكن ثمّة ضرورة لتضمين المشهد في النسخة الأجنبيّة لخدمة السياق الدراميّ لقصّة ليس ملمّا بتفاصيلها المتلقّي الأجنبيّ، وثمّة ضرورة لسرد الحكاية بطريقة تضعه في مواجهة مع كلّ موروثات السرديّة الصهيونيّة الّتي تربّى عليها لكشف الوجه الحقيقيّ للاحتلال.

والواقع أنّ ذلك ما حصل فعلًا في عديد الحالات، فقد شاهدت الفيلم مؤخّرًا بعد عرضه في دور سينما أمريكيّة، وكان ذلك المشهد تحديدًا ما جعل بعض المتفرّجين يبكون، وقد تحدّثت بعد العرض مع امرأة أمريكيّة يقترب عمرها من الستّين وقد لفت انتباهي ردّ فعلها وسألتها عن سبب تأثّرها فقالت:"لأنّني أدركت الواقع الفلسطينيّ بشكل متأخّر"، وأن يغيّر فيلم ما رأي امرأة ستّينيّة تعيش في أكثر الدول دعمًا لإسرائيل فذلك يعني أنّ الرسالة قد وصلت.

 

سؤال المجتمع الفلسطينيّ

ثمّة أيضًا مسألة أخلاقيّة تتعلّق بتسريب رابط الفيلم وهو الفعل الّذي يعتبر تعدّيًا على حقوق المشاركين في الفيلم صناعةً وتمثيلًا. فقد كان يفترض بالفيلم أن يأخذ مساره الطبيعيّ من خلال العروض تجاريًّا وقصّةً، على الرغم من عدم أهمّيّة هذا التفصيل في هذه اللحظة بالمقارنة مع حملة الترهيب الّتي تتعرّض لها حصرًا الممثّلتان المشاركتان في الفيلم ميساء عبد الهادي ومنال عوض.

ما يميّر مراجعة ومناقشة الفيلم الفلسطينيّ عن أيّ مراجعة سينمائيّة أخرى هو ارتباط السينما الفلسطينيّة في سؤال الوطن والقضيّ

إنّ ما يميّر مراجعة ومناقشة الفيلم الفلسطينيّ عن أيّ مراجعة سينمائيّة أخرى هو ارتباط السينما الفلسطينيّة بسؤال الوطن والقضيّة، فتكون مرجعيّة النقاش في بعض الأحيان بحسب التبعيّة الحزبيّة، وفي أحيان أخرى، بحسب المرجعيّة الثقافيّة، وهنا لا بدّ من التساؤل عند الحديث عن المسألة المجتمعيّة، عن شكل المجتمع الفلسطينيّ، وعن ماهيّة القصّة الفلسطينيّة؛ فتعريف الفلسطينيّ تعريف واسع متعدّد وفي بعض الأحيان يكون هلاميًّا – فثمّة المجتمع الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة، وفي قطاع غزّة، وفي الأراضي المحتلّة عام 1948، وفي أوروبّا، وفي أمريكا، وفي أمريكا اللاتينيّة – وهذا التعدّد ليس جغرافيًّا فحسب، بل هو تعدّد ثقافيّ مجتمعيّ فيه تعدّديّة في السرديّة والحكاية الفلسطينيّة، ولا يمكن في ظلّ هذا التعدّد الحديث عن شكل واحد للفلسطينيّ، أو عن مجتمع فلسطينيّ واحد.

إنّ الاختلاف في الرأي حالة فلسطينيّة صحّيّة، لكنّ غير الصحّيّ هو أن يؤدّي الاختلاف في الرأي إلى منع ممثّلات هنّ بنات البلاد وجزء من حكايتها، منعهنّ من الخروج من منازلهنّ خوفًا من أبناء شعبهنّ لا من الاحتلال.

 


 

علا الشيخ

 

 

 

صحافيّة وناقدة سينمائيّة فلسطينيّة أردنيّة، ومبرمجة أفلام لعدد من المهرجانات السينمائيّة، ومديرة «جائزة النقّاد العرب للفيلم الأوروبيّ».