«يلتهم نفسه بادئًا بقدميه»... نزهة صعبة

غلاف رواية «يلتهم نفسه بادئًا بقدميه»

 

بعد عملين سرديّين، يقفز عبد الله الزيود بثقة نحو روايته الأولى، أو كتابه الثالث، في مسيرة صعد خلالها السلّم عبر ثلاث خطوات واسعة ومختلفة؛ ففي خطوته الأولى قدّم عملًا غير مؤطّر بشكل أدبيّ موحّد، بعنوان «ولم نلتقِ بعد»، ثمّ صعد من هناك إلى عمل آخر يجعل من الهامش بطلًا عبر سرد حكايات لأناس يكتب عن هوايتهم في الهامش، بما يعطيه براءة اختراعهم، وهو بعنوان «باولا... قصص عن غير الناطقين بها»، وهو عمل يقع في إطار القصّة القصيرة على أقرب تقدير، أمّا الخطوة الثالثة وهي رواية «يلتهم نفسه بادئًا بقدميه»، فتأتي لتقول إنّ تمهّل الزيود كان مدروسًا على ما يبدو، وقد أطعم سرده لشياهه حتّى نضجت فأصبح لديه رواية.

الرواية تتكوّن من 119 صفحة، وهي صادرة عن «دار عصير الكتب» في القاهرة، وقد بوّب فصولها بعناوين غريبة مستمدّة من متلازمات، وهو الخبير بهذه التفاصيل من خلال اختصاصه ومهنته تربويًّا، وفي ذلك تسخير جميل للخبرة لصالح الأدب.

 

تفتيت الحبكة

ينتهج الزيود في روايته أسلوبًا حلوًا؛ إذ يبدأ القصّ من مكان يبدو خارج أحداث الرواية، بما يشبه أفلام السِّيَر؛ فقد ذكّرتني بدايته ببداية فيلم «العاصفة» من بطولة دينزل واشنطن، الّذي يسرد سيرة الملاكم الأفروأمريكيّ روبن هوريكن كارتر. يبدأ العملان – الرواية والفيلم - بحدث غامض وكبير، وقبل الخوض في تداعياته، تنتقل الكاميرا/ القصّ إلى أحداث أخرى بطيئة الإيقاع، تسحبك إلى حكاية تظنّها لا ترتبط بالحدث في البداية، وشيئًا فشيئًا يعيدك الكاتب إلى المكان الّذي بدأ به، عبر إعادة ترتيب الأحداث.

تجري أحداث الرواية في مدينتَي عمّان والزرقاء، ويعتمد الكاتب فيها على معالم المدينتين وعلى الفروقات بينهما؛ ليخلق جسرًا بين ثقافتَي المدينتين المتلاصقتين والمتعاكستين في آنٍ معًا...

تجري أحداث الرواية في مدينتَي عمّان والزرقاء، ويعتمد الكاتب فيها على معالم المدينتين وعلى الفروقات بينهما؛ ليخلق جسرًا بين ثقافتَي المدينتين المتلاصقتين والمتعاكستين في آنٍ معًا، فعمّان عاصمة تركض نحو الاتّساع والتطوّر والامتداد في الأفق، عبر العمارات الشاهقة والمقاهي الّتي لا تكاد تغلق أبوابها ليلًا، والزرقاء مدينة متحفّظة ومحافظة، وتكتظّ بالأحياء الشعبيّة وتدهور الأوضاع الخدميّة.

يعمل الزيود على تفتيت الحبكة وتوزيعها بشكل عشوائيّ؛ ليجمع من خلال خطّ الأحداث هذه الأجزاء الصغيرة، ويُظْهِر للقارئ صورة مفاجِئة، غير الّتي كان يتوقّعها. هذه اللعبة المحكمة تمنح «يلتهم نفسه بادئًا بقدميه» فرصة تكرار القراءة، اعتمادًا على أساسين؛ الأوّل أنّ ترتيب الأحداث المربك يخلق توقّعات متعدّدة لدى القارئ، وما إن يتمكّن القارئ من تجلية الحكاية حتّى تصدمه الصورة المتكاملة، صدمة تدعوه إلى إعادة قراءة الرواية بعد أن تَرَتَّبَتْ أحداثها في رأسه على نحو مختلف، أمّا الأساس الثاني فهو حجم الرواية الصغير من حيث عدد الصفحات، ومن حيث سهولة الانسجام فيها، رغم ألعاب الكاتب المضلّلة؛ لأنّه غذّى هذا الضلال بمتعة الوصف والسرد الحكائيّ المثير.

 

الراوي داخل الرواية

تقوم الحبكة على كتابة رواية داخل الرواية، عبر بطل صحافيّ ينحو منحى السرد، ويرتّب لقاءات مع كاتب كبير حاصل على جوائز وشهرة واسعة، لكنّه محتجب عن الإعلام على نحو مشوّق. يمنح الكاتبُ الكبير الكاتبَ الشابّ فرصة اللقاء، لكنّه يتلاعب به تلاعب وكالات الاستخبارات بوكلائها قبل التعيين لقطف ثمار الثقة، قبل أن يؤمن بجدّيّته وصبره وكتمانه، ويطلعه على عالمه الغامض، الّذي يوقعك في سؤال الرواية الكبير: أيصنع الكاتب الأحداث أم أنّ الأحداث طوّرت شخصيّة الكاتب بطريقة تجعله ربّ منظومة ما، تتيح له التحكّم بمصيرها؟

ولأنّ الشخصيّتين المركزيّتين كاتبان؛ فإنّ الراوي داخل الرواية هو أحد أبطالها، هذه اللعبة الفنّيّة أتاحت للزيود أن يبني روايته بشكل هجين، يمزج بين تكنيك الراوي العليم 3rd Person والراوي المشارك 1st Person...

 

يظنّ القارئ العاديّ أنّ هذه الرواية قد تقوده فعلًا إلى تعلّم كتابة الرواية، وفق ما تعرض حبكة العمل، والغريب أنّ مراجعات للرواية ذكرت ذلك ميزة من ميزات العمل، ونصحت به الكتّاب المبتدئين لتعلّم الرواية، لكنّ الحقّ أنّ رواية الزيود تنطلق من هذا الأساس؛ لتقول إنّ كتابة الرواية تحتاج من الكاتب إلى الثورة على المعلّم، وعلى المنهج، وعلى الأحداث نفسها، في الطريق إلى عمل مختلف وناجح؛ بما يعني أنّ «يلتهم نفسه بادئًا بقدميه» اختصار حقيقيّ لهذا التصوّر، الّذي فرّقه الزيود في حكايته داخل هذا العمل.

وتكتسب شخصيّة الكاتب داخل الرواية، والرواية الّتي بداخلها أيضًا، غموضًا تسبّبه أسطرة شخصيّته، الّتي ترتبط بأسرار نفسيّة تطوّرت بسبب ضغوط، فخلقت شخصًا مشوّهًا، غريبًا وقريبًا، يجعل من المرآة نافذة على شخص آخر. هذا الغموض الجميل كان عاملًا مساعدًا في تغذية التشويق، ورفده بأسئلة تدعو إلى مواصلة القراءة باهتمام وانتباه شديدين.

ولأنّ الشخصيّتين المركزيّتين كاتبان؛ فإنّ الراوي داخل الرواية هو أحد أبطالها، هذه اللعبة الفنّيّة أتاحت للزيود أن يبني روايته بشكل هجين، يمزج بين تكنيك الراوي العليم 3rd Person والراوي المشارك 1st Person، بما يثير استغرابًا من إمكانيّة تسمية ذلك بالراوي المتعدّد العليم، أو إن أمكن القول إنّه 4th Person!

 

العالَم الخانق

يبدو أنّ الزيود لم يولِ اللغة اهتمامًا كبيرًا، ولا يبدو بوضوح إن كان ذلك خطأ أو ضعفًا، أو إن كان هدفًا مقصودًا كيلا تصبح الرواية صعبة الهضم، فإن كان السرد مربكًا وترتيب الأحداث غامضًا، فسينبغي أن تكون اللغة سهلة حتّى تمنح القارئ فرصة لالتقاط الأنفاس خلال عمله الشاقّ في ترتيب المشاهد، وفهم الرسائل الموزّعة في الفصول توزيعًا غير عادل؛ فمرّة يجعلك الزيود متعاطفًا مع الجلّاد المتعالي، وأخرى مع الوسيط المستسلم، وثالثة مع ضحايا الروائيّ المشهور الكثر. لكنّه أفلت الرسن للتخييل، الّذي سمح له أن يضع أشخاصًا في أقفاص، ويحرق ألسنتهم ليتيح ’للكاتب‘ العملاق حقّ سرد شهادته دون طعون، والّذي سمح له أن يحوّل بيتًا في الزرقاء إلى كتاب يعجّ بالأحداث بدلًا من الأثاث.

المقولة الّتي يمكن أن تلتفّ حولها أحداث الرواية وحبكتها وطريقة السرد، هي ربّما العالم الخانق الّذي يحيط بالكاتب، أو الظروف الصعبة لولادة عمل أدبيّ...

ماذا أراد الزيود أن يقول من خلال هذه الرواية؟ المقولة الّتي يمكن أن تلتفّ حولها أحداث الرواية وحبكتها وطريقة السرد، هي ربّما العالم الخانق الّذي يحيط بالكاتب، أو الظروف الصعبة لولادة عمل أدبيّ، أو يمكن أن تكون الرواية كلّها توطئة للقول إنّ الكتابة مهرب من بشاعة العالم، ونزهة صعبة بين الجثث والمآسي والخذلان. يقول الزيود عبر هذا العمل إنّ على الكاتب أن يأكل نفسه قبل أن يسقط فريسة، عليه أن يبدأ بالقدمين؛ ليضمن عدم السير مجدّدًا بين الأجداث في طريقه إلى الموت؛ الموت المتجلّي بالبوح بأسراره على شكل حكايات، ما إن تنزل إلى الورق حتّى تتداعى وتتفتّت في ذاكرة الكاتب ومخياله؛ ليعود ببياض في الرأس يدفعه دفعًا نحو ملئه بكتابات جديدة، وآلام أشدّ فتكًا.

 


 

سلطان القيسي

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا،  يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ "بائع النبيّ" عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.