أنوف غير جميلة!

المربّيّة ماكفي

 

قد يلاحظ مُشاهد فيلم الكرتون «قلعة هاول المتحرّكة  - Howl's Moving Castle» للمخرج هاياو ميازاكي، الفرق بين حجم أنف بطل القصّة، هاول، وحجم أنف كلٍّ من السيّدة بندراغين والساحرة وايست. أنف هاول يكاد يُرى، في ما يبرز الأنف من بين أعضاء وجهَي المرأتين. وكذلك الأمر عند مقارنة أنوف اليابانيّين مقابل غير اليابانيّين في فيلم «مهبّ الريح - The wind Rises» لذات المخرج، وعلى وجه الخصوص شخصيّة التحرّي شارلوك، في ما يتكرّر الأمر في فيلمه «لوبين الثالث - Lupin the 3rd» أيضًا.

لم يكن اختيار الأنف البارز حصرًا على أعمال ميازاكي، فإذا استذكرنا عددًا من مسلسلات كرتونيّة، تابعها ملايين الأطفال العرب قبل قنوات التلفزة العربيّة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وكذلك سنوات الألفين، فلا بدّ لنا من استعادة شخصيّات لا تُنْسى، تميّزت عن البطل والشخصيّات المقرّبة منه، المُحِبَّة له، ببروز أنفها، مثل السيّدة مِنْشِنْ في مسلسل «سالي» - مقارنة بأنف أختها إيميليا والطالبات، والمعلّم دوبينز من مسلسل «توم سوير»، مقارنة بعائلة توم ورجال البلدة، وحتّى أنوف الساحرات سواء من مسلسل «بوباي البحّار» أو فيلم «الجميلة النائمة». يُضاف إلى هذه المسلسلات الكرتونيّة، على سبيل الذكر، أنف المربّية غير المحبوبة من فيلم دراما بريطانيّ يحمل اسمها «المربّيّة ماكفي - Nanny McPhee».

 

أنوف الأعداء

إنّ الأفلام والمسلسلات الكرتونيّة رواية ككلّ رواية أخرى، لها تسلسل أحداث وشخصيّات ذات مزايا، وثمّة علاقات بين الشخصيّات الّتي تتنوّع ما بين السطحيّة والمركّبة. تعيش هذه الشخصيّات ضمن مكان وزمان محدّدين نتعرّف عليهما من خلال وصف المواقع والأزمنة. ضمن هذا العالم المولود من خيال الكاتب، لا بدّ من صفات لكلّ شخصيّة تحدّدها شكلًا ومضمونًا، وربّما يجد الكاتب منفذًا في إبراز سمات شكليّة للشخصيّات تسهم في منح انطباع أوّليّ عند رؤيتها – سلبًا وإيجابًا.

بالنظر إلى العلاقة بين الشخصيّات ذات السمات الشكليّة غير الجميلة والبطل، نجدها تقف دائمًا في صفّ العداء، سواء ظهر ذلك في بنية السرد من بدايتها أو جرّاء تحوّل يطرأ خلال تطوّر الأحداث.

وقد يكون هذا الانطباع متأثّرًا من معرفتنا – قرّاءً - مع كلّ ما تخزّنه عقولنا من قوالب وأنماط، ولاوعينا في إتمام الناقص بما يحمله من تراكم معرفيّ بصريّ. هذا التراكم جعل من صفات الجمال والبشاعة مفاهيم حُفِرَتْ في أذهان الناس، وبات الجهد في القرن الحاليّ كبيرًا لتغييرها، واستبدال مفاهيم أخرى بها تعتمد التنوّع والتقبّل والتعدّديّة.

بالنظر إلى العلاقة بين الشخصيّات ذات السمات الشكليّة غير الجميلة والبطل، نجدها تقف دائمًا في صفّ العداء، سواء ظهر ذلك في بنية السرد من بدايتها أو جرّاء تحوّل يطرأ خلال تطوّر الأحداث. في كلتا الحالتين قد نجد عددًا كبيرًا من الشخصيّات الّتي تُصَنَّف ’عدوًّا للبطل‘، تحمل أنفًا كبيرًا بارزًا يفتقد الجمال. فلِمَ تجتمع هذه الشخصيّات على أنف؟ وما مكانة الأنف ومعناه في ثقافات صنّاع هذه الشخصيّات؟ فكما في كلّ صناعة فنّ لا يمكن الفنّان وأعماله أن يلوذا بعيدًا عن الحاضر والواقع والثقافة السائدة، وحتّى الآراء المسبقة اجتماعيًّا وعرقيًّا وإثنيًّا.

 

الأجمل الأبيض

منذ سنوات بعيدة، لوحظ اتّسام الشخصيّات الشرّيرة، أو غير الودودة، في عدد كبير من المسلسلات والأفلام الكرتونيّة بأنف غير متّسق، أو كبير الحجم، أو مدبّب بشكل لافت. للوهلة الأولى يبدو ذلك عاديًّا، أو ربّما يبدو جزءًا من تنوّع أشكال البشر الّذين جرى تجسيدهم في هذه الأعمال، لكن إذا ما عدنا إلى الوراء، نحو السنوات الماضية الّتي نشط فيها استخدام الرسوم، نجد أنّ للأمر جذورًا سياسيّة تعود لأكثر من 80 سنة!

في القصّة الكرتونيّة، كما في القصّة أو الرواية، لا بدّ من الحرص على أن تترك الشخصيّة أثرًا في المتلقّي، ولضمان نجاح تقديم شخصيّة يتكامل شكلها مع دورها في الحكاية؛ يجب الانتباه إلى التفاصيل. إنّ عامل التشابه بين الشخصيّات الكرتونيّة والبشر يفرض بعض الأسئلة: هل الشخصيّات الكرتونيّة الّتي تتجسّد بشرًا يجب أن تكون متماثلة مع البشر وأشكالهم ومقاساتهم؟ أهي مجرّد شخصيّات على هيئة بشر، وبالتالي لا يجب على المصمّم أو الرسّام الحرص على التفاصيل الدقيقة، الّتي قد تصل حدّ تشويه الشكل؟

في بحث كتبه جولدمان وهاجين[1] – بعد معاينة 100 شخصيّة كرتونيّة – يشير إلى أنّ الرسّام الغربيّ يبالغ في رسم الأنف والذقن، في ما أكّد بحث كتبه بيليتي ووايد[2]، بعد معاينة 40 شخصيّة كرتونيّة، أنّ سمات وجه الجيّد والسيّئ، أو الشرّير والبطل، تختلف. وعندما نتحدّث عن مزايا، فإنّ الحديث يدور عن نسبة الأنف في الوجه، وطوله، وعرضه، وشكله، ومدى التناسب مع باقي أعضاء الوجه.

خلص البحثان إلى أنّ التصميم في نهاية الأمر متعلّق بمفاهيم الجمال المرتبطة بالعرق؛ ليكون العرق الأبيض هو الأكثر جاذبيّة، يخلفه الأفريقيّ ثمّ الآسيويّ.

وقد أظهرت هذه الأبحاث أنّ الشخصيّات الكرتونيّة اليابانيّة مبالغ فيها بمقدار تسع درجات – وفق مقياس حساب دقيق للتقاسيم - مقارنة بالوجه البشريّ، وخاصّة في الزاوية من مركز الحاجب إلى الجزء الأيسر من الأنف إلى قاعدة الأنف، أمّا الشخصيّات الكرتونيّة الأميركيّة فلديها أنوف أكثر طولًا.

 

«وولت ديزني» والأنف اليهوديّ

منذ عام 1890، بدأ الطبيب الجرّاح اليهوديّ جاكوس جوزيف بعمليّات تجميليّة للأنف في برلين، ومع تعاظم قوّة النازيّين بدأ اليهود في ألمانيا يتوافدون عليه؛ طلبًا لتغيير أشكال أنوفهم الّتي دلّت على عرقهم، وتحوّلت أنوفهم إلى مصدر رعب لهم.

أظهرت هذه الأبحاث أنّ الشخصيّات الكرتونيّة اليابانيّة مبالغ فيها بمقدار تسع درجات – وفق مقياس حساب دقيق للتقاسيم - مقارنة بالوجه البشريّ...

بالتزامن، شهدت الفترة النازيّة نشاطًا لافتًا للرسوم المتحرّكة وفنون الجرافيك، وانتشرت في شوارع برلين، وفيينا كذلك، منشورات وصحف احتوت رسومًا كاريكاتيريّة بطلها ’السيّد كوهين‘، وهو رجل يهوديّ بالطبع ذو أنف كبير بارز ومدبّب. وفي عام 1893، صدر بحث في فيينا، كتبه الأنثروبولوجيّ أوسكار هوفوركا، ذكر فيه أنّ الأنف الكبير من السمات العرقيّة السلبيّة، فصاحبه شرّير أو غبيّ.

لم تحِد الخيارات العنصريّة في الرسوم عن المنشورات المخصّصة للأطفال والشبيبة؛ فقد احتوت مجلّة الرسوم «الفطر المسموم - Der Giftpilz» من عام 1935 على رسومات يظهر فيها اليهوديّ، بشكل واضح، صاحب وجه يتوسّطه أنف كبير الحجم ومعقوف.

تبنّت شركة «وولت ديزني» هذا التمييز؛ فأصبح صاحب الأنف اليهوديّ الشخصيّة المكروهة في إنتاجاتها الكرتونيّة؛ ففي عام 1933 حاز الفيلم الكرتونيّ «الخنازير الثلاثة الصغيرة - The Three Little Pigs» على «الأوسكار»، وفيه يعرّف الذئب المخادع نفسه أمام الخنازير الصغيرة بأنّه يهوديّ، ويتنكّر في زيّ على شكل عباءة طويلة، ولكنة ييديشيّة وأنف كبير معقوف بشكل لافت نحو الفم.

حتّى الكاتب تشارلز ديكينز، اختار في روايته «أنشودة الميلاد - A Christmas Carol»، أن تكون الشخصيّة المركزيّة الشرّيرة الّتي تكره عيد الميلاد واحتفالاته، مصرفيًّا بخيلًا ذا أنف بارز معقوف، واسمه إبنيزر سكروج، وحُلِّل اسمه الأوّل على أنّه دمج لشقّيّ المصطلح العبريّ «إيفين عيزر - אבן עזר».

 

الأنف في الرسوم الفلسطينيّة

الفنّان الفلسطينيّ عبد الله قواريق، يرسم شخصيّات لقصص أدب الأطفال، يقول عن العلاقة بين شكل الأنف ومكان الشخصيّة على محور الشرّ في النصّ: "أصبح من المتعارف عليه أنّ الأنف الكبير ليس من علامات الرقّة والجمال مثل العينين الكبيرتين أو الواسعتين؛ فلا يمكن الإشارة إلى الشرّير بعينين واسعتين وجميلتين. عندما أرسم شخصيّات غير ودودة، أو شرّيرة، لأدب الأطفال، فإنّني أفرّق مثلًا بين الشامة والبثرة؛ فالشامة من علامات الجمال".

قد يكون موقع الأنف وسط الوجه هو ما يجعله يحظى بهذا الاهتمام، وربّما هو ما يجعله أيضًا قابلًا لحمل وزر انتماء أصحابه إثنيًّا وعرقيًّا...

 

يستقي قواريق بعض التفاصيل في وجوه الشخصيّات وأشكالها من نصّ الكاتب إن وُجِدَتْ، وإن غابت اعتمد على المصطلحات الّتي يستخدمها الأطفال (المشاكسون) للتنمّر على زملائهم، أو ما يرسمه الأطفال من شخصيّات تتميّز بالأنف الكبير أو فتحة الأنف الواسعة، إلى جانب الأسنان الكبيرة والشعر المنكوش، أو العيون الجاحظة، عندما يحاولون تجسيد الشخصيّات الأقلّ لطفًا وظرافة!

قد يكون موقع الأنف وسط الوجه هو ما يجعله يحظى بهذا الاهتمام، وربّما هو ما يجعله أيضًا قابلًا لحمل وزر انتماء أصحابه إثنيًّا وعرقيًّا، وربّما في تصوّر أكثر عدلًا، هو علامة انتماء وجمال وتميّز.

لكن رغم اختلاف أشكال الأنوف في أعمال رسّامي الكرتون، وتفاوت خلفيّاتهم الثقافيّة، وأفكارهم نمطيّة كانت أو متحرّرة، لديهم علاقات تاريخيّة بأوروبّا أو لم تكن، فإنّهم لا يزالون مجمعين على أنّ أنف الشرّير لا يمكن أن يكون بحجم حبّة فستق!

 


إحالات

[1] Goldman, M.; Hagen, M. The forms of caricature: Physiognomy and political bias. Stud. Vis. Commun. 1978, 5, 30–36.

[2] Belletti, N.E.; Wade, T.J. Racial characteristics and female facial attractiveness perception among United States university students. In Racism in the 21st Century; Springer: Berlin, Germany, 2008; pp. 93–124.

 


 

سماح بصول

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب المقارن  والماجستير في ثقافة السينما.