فيلم «تقي»: أسئلة عاملٍ يسافر في وطنه كلّ يوم

الفنّان تقي الدين سبيتاني

 

رجل وامرأة وطفلاهما، يتأمّلون عصفورًا يرفرف داخل قفص. صورة تخطف بصر المشاهد وبصيرته، وتشدّه للتوغّل أكثر في أحداث الفيلم. بهذه الصورة افتتحت المخرجة الفلسطينيّة الواعدة، ألين شوفاني، فيلمها الوثائقيّ الأوّل «تقي»، الّذي يوثّق على مدار أربع وثلاثين دقيقة، لحظات الخطر والموت الّتي يتعرّض لها بطل الفيلم تقيّ الدين سباتين، وهو رسّام فلسطينيّ يقيم في قرية حوسان في مدينة بيت لحم، ويعمل في أراضي 48 (داخل الخطّ الأخضر)، حيث يسعى الفيلم إلى إيصال رسالة حول سائر أشكال القهر والمعاناة اليوميّة، الّتي يعيشها العمّال في تلك المناطق، مؤكّدًا على أهمّيّة الرسم فنًّا قادرًا على إيصال أيّ رسالة إنسانيّة مهما كان مضمونها أو محتواها.

يسهب الفيلم على لسان بطله في وصف الواقع المرّ، وتصوير الظروف القاسية، الّتي يعيشها العمّال الفلسطينيّون الّذين يعملون ضمن ‘الخطّ الأخضر‘، وذلك عبر سرده لأدقّ التفاصيل الّتي تتخلّل رحلة ذهابه إلى العمل مع صديقه، بدءًا من تزاحم الأفكار في رأسه لاختيار اللحظة المناسبة لعبور الشارع على خطّ السير السريع، وانتهاءً بوصوله إلى محطّة الحافلات، ثمّ قطع المعبر.

 

تمتزج تلك الأحداث المتلاحقة بموسيقى سرديّة، جاء إيقاعها متناغمًا في تسارعه ومنسجمًا في صخبه، وبارعًا في وصف لحظات الخطر الراكدة في أعماق البطل وتوصيفها، وكأنّها تحكي ما يجول في عوالمه الداخليّة؛ من تصارع لمشاعر الهلع والقلق والتردّد وشغف المغامرة؛ تلك المشاعر الّتي سرعان ما حوّلت مسارها وزجّت نفسها في أعماق المتلقّي.

 

حياة تنبثق من الكفاح

يزدحم الفيلم بقضايا إنسانيّة جدليّة ومفاهيميّة عدّة، حيث يتناول مفهوم الوطن متجاوزًا الرقعة الجغرافيّة الّتي تحتوي جسد الإنسان؛ ليحوي وجدانه وهويّته وهدفه ومختلف مكنوناته؛ فالوطن لا يمكن حصره أو اختزاله في كلمة واحدة. "الْوَطَنْ، وَلايْ هايْ كِلْمِة بِتْقَشْعِرِ الْبَدَنْ، فَلازِمِ الْواحَدْ يِصْفُنِ اِشْوَيّ، فِشّ كَلام بْيِوْصِفْ، هو كُلّ شي".

عمدت المخرجة إلى إبراز جدار الفصل العنصريّ في الكثير من مشاهد الفيلم؛ جدار أسمنتيّ مرعب يعيش خلفه شعب مغمور ومقهور ومحظورٌ عليه تجاوزه إلّا بتصريح، ولتجميل هذا الجدار الصنميّ ووأد حالة الهلع الّتي تصيب مَنْ ينظر إليه؛ فقد زُيِّنَ بلوحات وجداريّات كان قد رسمها بطل الفيلم، لمجموعة من الرموز الفلسطينيّين والناشطين العالميّين وضحايا القهر، ومنهم جورج فلويد الأميركيّ من أصول أفريقيّة، الّذي قُتِلَ بطريقة همجيّة دعسًا على رقبته، إضافة إلى ابتسامات الشهداء ونظراتهم الحيّة الّتي تضيء عتمة الجدار، ومنهم الشهيد إياد الحلّاق، مريض التوحّد، الّذي أنهى الاحتلال حياته بطريقة همجيّة هو الآخر، وبقي صدى استشهاده نافذًا وخالدًا في وجدان تقيّ وسائر الفلسطينيّين، وقد كان استشهاده محورًا أساسيًّا في الفيلم.

يسهب الفيلم في (...) تصوير الظروف القاسية الّتي يعيشها العمّال الفلسطينيّون الّذين يعملون ضمن ‘الخطّ الأخضر‘، وذلك عبر سرده لأدقّ التفاصيل الّتي تتخلّل رحلة ذهابه إلى العمل مع صديقه...

كما تضمّنت مشاهد الفيلم العديد من الصور والمناظر الخلّابة للمدن الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، وبعض الإحصائيّات حول المستوطنات المنتشرة كالورم الخبيث في أراضي الضفّة الغربيّة، وهي رسالة أخرى يحملها الفيلم في قلب أحداثه؛ لتذكير مَنْ نسي أو تناسى أراضي فلسطين المسلوبة في كلّ مكان من فلسطين.

ينشأ حوار حميميّ بين تقيّ وطفله ذي السنوات المعدودة، إذ يعبّر الطفل عن حبّه الشديد للسلاح وكرهه الأشدّ لوردة عبّاد الشمس، في حين أنّ الأب يحرّضه على حبّ وردة عبّاد الشمس، وذلك رغم انغماسه في رسم بندقيّة سوداء على جدران بيته البيضاء، تنطلق من فوّهتها وردة، غصنها أخضر وزهرها أحمر، وكأنّه يرسم علم فلسطين على جدران بيته، في رمزيّة تشير إلى الحياة منبثقةً من الكفاح.

 

المسافر في وطنه

إنّ قصّة تقيّ تُعَدّ واحدة من قصص مئات العمّال الفلسطينيّين، الّذين يعيشون المعاناة ذاتها أثناء توجّههم إلى أراضي 1948، بصرف النظر عن غايتهم، والّذين يفتقرون إلى أبسط الحقوق الإنسانيّة المادّيّة والمعنويّة؛ ممّا يرغمهم على التكيّف مع الظروف القهريّة المفروضة عليهم أثناء قطعهم المعابر، شريطة امتلاكهم تصريح العبور، الّذي لا يُعَدّ بالضرورة، درع أمان لهم، ولا يذود عنهم خطر الموت، بل على العكس فإنّه يغرس في نفوسهم شعور المسافر في وطنهم.

كما يسلّط الفيلم الضوء على قضيّة جوهريّة تتمثّل بسياسات التفرقة العنصريّة الممنهجة الّتي يمارسها الاستعمار الإسرائيليّ، ويسعى إلى تكريسها بين فلسطينيّي أراضي 48 أنفسهم، وبينهم وبين إخوتهم الفلسطينيّين المقيمين في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.

إنّ الخوف شعور طبيعيّ يراود كلّ إنسان بصرف النظر عن انتمائه الجماعيّ، سواء كان فلسطينيًّا أو إسرائيليًّا، لكنّ الفيلم يتناول هذا الشعور من زاوية مختلفة، على هيئة سؤال جدليّ، سؤال مفتوح يطرحه البطل على نفسه وعلى المتلقّي أيضًا، وهو سؤال يتبادر إلى قلب كلّ فلسطينيّ وإسرائيليّ؛ مَن يخاف مَن؟ آلفلسطينيّ يخاف الإسرائيليّ أم الإسرائيليّ يخاف الفلسطينيّ؟ وتبقى الإجابة عالقة في رحم العقل.

والقيم أيضًا كان لها نصيب وفير في الفيلم، فاتّخذت العدالة ركنًا جوهريًّا فيه، بصفتها مطلبًا لجميع البشر بشكل عامّ، وللفلسطينيّين بشكل خاصّ، ولا يمكن تحقيقها لهم إلّا بتقديم الإسرائيليّين مبادرات ملموسة ودلائل مادّيّة تبرهن على نيّتهم ورغبتهم الفعليّة لتحقيقها، ويأتي هدم جدار الفصل العنصريّ بمطرقة المحكمة الخشبيّة، في مقدّمة تلك النوايا والمبادرات؛ ليتسنّى لنثار العدالة أن ينتشر، وليبقى أثرها خالدًا لا يزول.

 

موتٌ لا يوجِع الأحياء

إنّ المتلقّي للفيلم يستشعر مدى التسلسل المنطقيّ والمشوّق لأحداثه، بطريقة تقذف به ليجد نفسه في الضفّة الأخرى من الأحداث، حيث يبرز الحدث الرئيسيّ، وهو قصّة استشهاد إياد الحلّاق، بأنّها قصّة اقتناص الحياة من روح بيضاء ترفرف في جسد أعزل ذي احتياج إنسانيّ خاصّ، عبر الضغط على خاصرة بندقيّة سوداء؛ لترتوي الأرض بالأحمر ويفترشها الأخضر الّذي ’يَتَعَرْبَش‘ فوّهة البندقيّة.

الخوف شعور طبيعيّ يراود كلّ إنسان بصرف النظر عن انتمائه الجماعيّ، سواء كان فلسطينيًّا أو إسرائيليًّا، لكنّ الفيلم يتناول هذا الشعور من زاوية مختلفة، على هيئة سؤال جدليّ...

فالموت هنا كابوس تُنووِل بطريقة مغايرة للمألوف، إنّه لا يوجع الأحياء كما قال درويش، بل يوجع الموتى، إنّه شبح يلقي بظلال الخوف على الموتى، ويصيبهم بالقلق على أحبّائهم الّذين سيتركونهم أحياء، لكنّهم مجهولو المصير ومهشّمو القلوب، ومكسورو الأرواح، أمّا الحياة فتبقى حقًّا لكلّ إنسان، ولا يحقّ لأحد أن يسلبه هذا الحقّ، وأن ينهي حياته بسبب أو دونه.

تستوقفنا في الفيلم أربع كلمات خافتات باهتات تنساب بهدوء على شفتَي تقيّ، جملة لا تكاد تسمعها الأذن، حتّى تُسْتَفَزّ باقي الحواسّ "اللّي اِنْقَتَلْ اِبْنُه بْتِنْدَفَعْ دِيّْتُه"، جملة تلد زمرة  من الأسئلة والتساؤلات تترك المتلقّي في حيرة لا يُحْسَد عليها، فمَنْ يدفع دية مَنْ؟ وهل للشهداء دية؟ وهل لدمائهم ثمن؟ وهل ثمّة ثمن لروح الإنسان الّتي نُزِعَتْ منه بسبب أو دونه؟ وما هذا الثمن؟ ألا يُعَدّ هذا الثمن مبرّرًا للقتل؟ ألا يناقض البطل نفسه؟ فكيف نرتضي ثمنًا لحياة إنسان، وفي ذات الوقت، نُجَرِّم قتله ونُحَرِّم دمه لأيّ سبب كان؟

ينتهي الفيلم بقيام الطفل الّذي يكره وردة عبّاد الشمس ويحبّ البندقيّة، بإطلاق سراح العصفور من القفص.

 


 

إسراء عمر

 

 

 

من مدينة طولكرم، تقيم في رام الله. تحمل البكالوريوس في إدارة الأعمال من جامعة النجاح الوطنيّة، والماجستير في النوع الاجتماعيّ والتنمية من جامعة بيرزيت. تعمل في ديوان الموظّفين العامّ.