تقوى من العيار الثقيل... عندما يلتقي الإسلام بالپانك

من فيلم «The Taqwacores – متّقين عيار ثقيل» (2010)

 

اعتدنا في منشئنا أن نسأل أو نتلقّى إجابات سؤال: "ماذا يريد الإسلام منّا؟"، لكنّنا قلّما نسأل: "ماذا نريد نحن من الإسلام؟"، فهذا سؤال واسع تتداخل فيه خلفيّات وثقافات وأجناس وعصور مختلفة، قد تتصادم مع النهج الموحّد للدين كما نعرفه أو كما يقدّم لنا. عليه فإنّ الأجوبة النابعة من من قالب إسلاميّ واحد وتقدّم لقالب واحد من البشر قد لا تكفينا جميعًا في معظم الأحيان، بل إنّنا اعتدنا أنّ مثل تلك الأسئلة يجب أن تُعَامل بحرص وعناية، وإلّا كان الجواب إقصاءنا من الدين كلّيًا وبالتّالي من المجتمع. لهذا السبب أيضًا، تقترح ثقافة «تقوى عيار ثقيل» (Taqwacore) أن تُعَامل هذه الأسئلة بما يسمّى Punk Attitude، أو كما سأسمّيه هنا ’السلوك النشوزيّ‘.

 

«Taqwacore»... أو النشوزيّة الإسلاميّة

 خلال سنواته الجامعيّة، التقى الشابّ الأمريكيّ مايكل ’محمّد‘ نايت – كاثوليكيّ الأصل والّذي كان قد اعتنق الإسلام أثناء مراهقته مع تعمّقه في دراسة تجارب الناشط السياسيّ والداعية الإسلاميّ الأسود مالكوم إكس – التقى بنشوزيّ أو Punks الجامعة. وبحكم نهج النشوز التحرّريّ الّذي يتبنّى سياسات التساؤل والتشكيك والتحدّي لكلّ المبادئ والقيم والمنظومات الّتي نعيش فيها، اصطدم انخراطه في هذا النهج التحرّريّ بنهج الإسلام الّذي اعتنقه مرّة لذات هدف تحرير ذاته والارتقاء بها. قرّر نايت عندها كتابة رواية بعنوان «The Taqwacores»، والّتي يتحدّث فيها عن مجموعة من ’النشوزيّين المسلمين‘ Muslim Punks، كتحيّة يودّع بها الإسلام، منصّبًا بذلك شكل الإسلام الّذي كان يحبّ أن يكون، ووزّعها مطبوعة منزليًّا في مواقف سيّارات المساجد في الولايات المتّحدة على النهج النشوزيّ.

«Taqwacore»، أو تقوى عيار ثقيل كما سأسمّيها في هذا المقال، هي ثقافة فرعيّة تولّف ما بين الهويّة الإسلاميّة والـ Punk أو النشوزيّة، وهو مفهوم تبلور بعد إصدار نايت لتلك الرواية، والّذي يجمع بين ’التقوى‘ أو مخافة الله/ الإيمان، والـ hardcore، أو العيار الثقيل الّذي يعدّ أحد امتدادات أو تطوّرات ثقافة وموسيقى الـPunk، ويمتاز بتطرّفه في مبادئ وجماليّات النشوزيّة. والنشوز أو الـ Punk  فلسفة وجوديّة سياسيّة اجتماعيّة وجماليّة تتحدّى كلّ ما يمكن تحدّيه لتحرير الإنسان من كلّ ما يمكن أن يقيّده، وتضع الإدماج الاجتماعيّ لكلّ الفرديّات أساسًا مقدّسًا للمجتمع الإنسانيّ.

النشوزيّة أو الـ Punk فلسفة وجوديّة سياسيّة اجتماعيّة وجماليّة تتحدّى كلّ ما يمكن تحدّيه لتحرير الإنسان من كلّ ما يمكن أن يقيّده، وتضع الإدماج الاجتماعيّ لكلّ الفرديّات أساسًا مقدّسًا للمجتمع الإنسانيّ...

بدأت النشوزيّة كثورة فنّيّة في موسيقى الروك في الولايات المتّحدة في السبعينيّات، عندما سَئِمَ الجيل الشابّ من معايير موسيقى الروك المتكلّفة الّتي تتطلّب مهارة عالية في العزف والغناء، وأرادوه مساحةً للتجريب والتعبير عن النفس، لذا قرّروا تجريد أنفسهم من أيّ معيار أو قالب فنّيّ سوى معيار الأصالة والإبداع، فتمرّدوا على الموسيقى الدارجة بشعار "ألديك ما تقوله… هذا كورد وهذا كورد آخر.. إبدأ فرقة الآن". ثمّ تطوّر النشوز مع انتقاله عبر الدول والقارّات ليأخذ، لطبيعته الفكريّة التمرّديّة والعصاميّة، مناح اقتصاديّة وسياسيّة أوسع؛ فالنشوزيّة في صلبها تدفع الناس ليتساءلوا ’لماذا‘ توجد الأشياء بالشكل الّذي هي عليه، وتدعوهم إلى صناعة عالمهم بأنفسهم بشكل ’ذاتيّ‘ (DIY – Do it Yourself) إذا ما كانت القوالب والأنظمة القائمة غير مناسبة وعادلة.

شكّل هذا الفكر النشوزيّ فارقًا أساسيًّا حوّل عمل نايت من فانتازيا هروب من ’سجن الإسلام‘ كما هو، إلى حركة فكريّة وثقافيّة وسياسيّة بديلة في الولايات المتّحدة، وسّعت مفهوم الإسلام ليستوعب نايت وغيره ممّن يتوقون لهويّة إسلاميّة لا تقصي فرديّتهم وهويّاتهم الأخرى. بل أنتجت ’تقوى العيار الثقيل‘، فنًّا وفكرًا حارب أيضًا إقصاء المجتمع والسياسة، في الولايات المتّحدة آنذاك، للمسلمين بسبب هويّتهم الدينيّة، خاصّة في الفترة ما بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الّتي شهدت توحّشًا وعنصريّة تجاه المسلمين ومن يبدون كذلك من ذوي ’البشرة البنّيّة‘. فكانت «متّقين عيار ثقيل» رواية خياليّة افتتحت حركة فنّيّة سياسيّة واقعيّة، وأعطتها اسمًا فظهرت العديد من فرق النشوز الإسلاميّة في أثرها، وأبرزها فرقة «ذا كوميناز»، الّتي نادت بـ ’حكم الشريعة‘ (Sharia Law) شعارًا لإزعاج النظام السياسيّ في الولايات المتّحدة القائم على الإسلاموفوبيا في أغنية «الشريعة الإسلاميّة في الولايات المتّحدة»، أي نشيدًا محاكيًا لـ «فوضى في المملكة المتّحدة»  (Anarchy In the UK» لفرقة «ذا سكس بيستولز»، نشيد النشوز في مطلعه في السبعينات. 

 

 

«The Taqwacores – متّقين عيار ثقيل»

يتناول فيلم «متّقين عيار ثقيل The Taqwacores» (2010) للمخرج إياد زهرة (Eyah Zahra)، قصّة بيت ’استيطان عشوائيّ‘ (Squatting) في الولايات المتّحدة، أي سكن غير قانونيّ في مساحات مهجورة، وذلك أمر كثيرًا ما يمارسه النشوزيّون بشكل عامّ نظرًا لكونهم معادين للأنظمة الاقتصاديّة والسياسيّة المادّيّة والمجحفة بحقّ العامّة.

يقطن البيت نشوزيّون إسلاميّون تتعدّد هويّاتهم الإسلاميّة بتعدّد هويّاتهم النشوزيّة؛ فثمّة ’فاسق‘ الشابّ الأندونيسيّ المتزلّج متعاطي الماريجوانا ومحبّ القرآن، وثمّة عمر، النشوزيّ السنيّ التعفّفي (Straight Edge) الّذي لا يمكث في غرفة واحدة مع رابعة، النشوزيّة الّتي ترتدي برقعًا مرقّعا برموز وشعارات الحركات النشوزيّة النسويّة، و’أيّوب الرائع‘ النشوزيّ الشيعيّ حليق الرأس (Skinhead)، و’جيهانغير‘ النشوزيّ الصوفيّ و’نبيّ‘ تقوى العيار الثقيل في القصّة، الّذي يتولّى مهمّة تعريف ’يوسف‘ الشابّ المسلم اللطيف الّذي انتقل حديثًا إلى البيت باحثًا عن رفقة مسلمة تساعده على الالتزام بدينه في بلاد ’الكفّار‘، بمذهب التقوى كور التحرّريّ.

يدعو بطل تقوى العيار الثقيل جيهانغير مسلمي البيت النشوزيّ وأصدقائهم لإقامة صلاة الجمعة في البيت، والّتي يتناوبون فيها على الإمامة ببعضهم وإلقاء الخطبة. في أوّل صلاة جمعة، تأمّ رابعة بالمجموعة ملقية عليهم خطبتها الّتي تؤوّل فيها وحي الملاك لمريم العذراء بحملها بالمسيح نبوءة يشكّل المسيح كتابها المقدّس. بهذه القراءة، تخلق رابعة مكانة غير معهودة للمرأة في الإسلام، مستمَدّة من دورها في نقل الدين بذاته، وهو دور هُمِّش في التاريخ الإسلاميّ كما نعرفه، والّذي يلغي هويّة المرأة بصفتها حاملًا للدين من الإله ويصنّفها هويّة للذكور فقط. توظّف رابعة نهج الحركات النشوزيّة النسويّة مثل ’فتاة الشغب Riot Girl‘، والّتي وُلِدَتْ أيضًا من رحم احتكار الذكور للنشوزيّة في مطلعها، وأنجبت بذاتها الموجة الثالثة في الفكر النسويّ أو كما تسمّى الموجة النسويّة الثالثة Third-wave feminism. ركّزت حركة «فتاة الشغب» و الحركات المنبثقة عنها على تحرير المرأة من أيّ قوالب تسحق فرديّتها، وعلى تعدّديّة وتقاطعيّة هويّاتها، وسعت إلى إنشاء فكر نسويّ واسع يشمل النساء بكلّ خلفيّاتهنّ وأشكالهنّ، بل يشمل كلّ الأنواع الاجتماعيّة (الجندريّة) ويقضي على أيّ فكر أبويّ وذكوريّ يحتكر فرديّات وهويّات معيّنة على الذكور.

أعطت النشوزيّة النسويّة للمرأة الحرّيّة الكاملة في اختيار فرديّتها والتصرّف بجسدها وجنسانيّتها، والّتي كانت تشكّل نقطة خلاف عند نسويّات الجيل الثاني، اللّواتي اعترض جزء منهنّ على بعض الفرديّات الّتي تبرز فيها جنسانيّة المرأة...

أعطت النشوزيّة النسويّة للمرأة الحرّيّة الكاملة في اختيار فرديّتها والتصرّف بجسدها وجنسانيّتها، والّتي كانت تشكّل نقطة خلاف عند نسويّات الجيل الثاني، اللّواتي اعترض جزء منهنّ على بعض الفرديّات الّتي تبرز فيها جنسانيّة المرأة بصورة تجعلها أداة للمتعة؛ فقدّمت الحركات النشوزيّة صورة ’الفتاة المتمرّدة‘ الفخورة بـ "الثورة في أردافها"[1] كصورة تحرّر المرأة من أيّ التزام أو توقّع، فغنّت الفرق النشوزيّة النسويّة عن شتّى المواضيع المحرّمة مثل الاغتصاب، العنف المنزليّ، الأبويّة، العنصريّة، الجنسانيّة الحرّة، الفوضويّة، وتمكين النساء. كما قدّمت النشوزيّات النسويّات أنفسهنّ والنساء بصورة صادمة، إذ تقدّم رابعة صورة صادمة للمرأة في الإسلام بتأطيرها نبيّة أيضًا. بل إنّ رابعة تشدّد على وصاية المرأة على ذاتها وحرّيّة التصرّف بجسدها، وتجعله شرطًا للإسلام في حياتها، فتتجرّأ على حذف الآيات القرآنيّة الّتي تبيح تعنيف النساء أو الوصاية عليهنّ، وبلمسة التحرير النسويّة للنصّ المقدّس تجعله أكثر ملاءمة للنساء، فهي تنّوه أنّها "لا تحتاج تلك الآيات" وأنّ إزالتها جعلتها تحبّ القرآن أكثر. ذلك الأمر الّذي يستهجنه يوسف لأوّل وهلة، وهو الأقرب في المجموعة إلى الإسلام التقليديّ، لكنّ نهج ’الصدم الثقافيّ‘ النشوزيّ، يدفعه لإعادة التفكير بدينه وبنفسه وبعلاقته بالنساء بشكل عام.

 

إسلام لدن Plastic Islam

تمنح النشوزيّة الإسلام القدرة على استيعاب أشكال جديدة، ليصبح حاضنًا للأفراد بتعدّد هويّاتهم بدلًا من إقصائهم أو انتقاص فرديّتهم، وهذا يستعرض ’لدونة‘ النشوز، أي قابليّته للتشكّل بحسب العوامل الّتي تحيط به وتؤثّر فيه. تكتب كاثرين مالابو عن مفهوم اللدونة، وتصنّف ثلاث سمات للشيء اللّدن، وأوّلها القدرة على اكتساب الأشكال الجديدة[2]؛ فنشوز رابعة يأخذ شكل البرقع الإسلاميّ المرقّع بالشعارات والرموز كما موضة النشوز، والّذي يتساءل يوسف لماذا ترتديه، قائلًا: "من المؤكّد أنّها لا ترتديه لأجل العفّة"، فيجيبه فاسق بأنّها ترتديه لذات السبب الّذي يرتدي هو لأجله تسريحة الموهك (Mohawk) الّتي تبنّاها النشوزيّون لصدم المجتمع، وتحدّي أنماطه الشكليّة وجعله أكثر تقبّلًا لفردانيّة الأفراد المختلفين.

 

جيهانغير من فيلم «The Taqwacores – متّقين عيار ثقيل» (2010)

 

تتّضح قدرة النشوزيّة على استيعاب الجميع حتّى المعادين منهم لاستيعاب المختلف، في شخصيّة عمر، وهو أقلّ نشوزيّ في البيت انفتاحًا وتقبّلًا للآخرين؛ فعلى الرغم من توبيخه لفاسق عندما يدخّن الحشيش، أو طرده لأيّوب الرائع ناعتًا إيّاه بـ ’الشيعيّ القذر‘، أو رفضه المكوث في غرفة تجتمع فيها رابعة معهم، إلّا أنّ النشوزيّة تستوعب حتّى عداء عمر، فبدلًا من إقصائه من النشوزيّة، تضعه القصّة في القالب النشوزيّ الـ Straight edge أي النشوز التعفّفي، الّذي يطمح لتهذيب عدائه.

هذه هي السمة الثانيّة للأشياء اللدنة كما تصنّفها مالابو والّتي تتمثّل في قدرتها على إعطاء الشكل لغيرها[3]؛ فالنشوز التعفّفي الذي يُشَكَّل به عمر ثقافة تتفرّع عن النشوزيّة وتقوم على مبدأ الثورة والتحدّي أيضًا، حتّى على النشوزيّة نفسها من خلال ’ضبط النفس‘؛ أي الامتناع عن انتهاك الجسد بالمخدّرات أو المسكّرات أو الأدوية مثلًا، أو انتهاك أجساد الآخرين بتناول اللحوم الّتي تأتي عن طريق القتل والعنف لأجل اللذّة… إلخ. فعلى الرغم من تزمّت عمر الّذي يحذّر يوسف من شرب الشايّ لأنّه يحتوي على الكافيين، واصفًا إيّاه أنّه "على الأقلّ مكروه في الإسلام"، يتساءل يوسف "كيف يسمح عمر بإقامة صلاة الجمعة بهذا الشكل في البيت"، فيجيبه جيهانغير بأنّ عمر يفضّل إقامة الصلاة على إقامة حفلة ماجنة أخرى، فهو أيضًا بوشومه الكبيرة، مقصى من نهج الإسلام التقليديّ، وهي إشارة إلى أنّ كلّ مسلم حتّى وإن كان ملتزمًا متزمّتًا، سيجد من يقصيه من الإسلام إن كان قالبًا واحدًا لنوع واحد من البشر.

 

النشوزيّة الإسلاميّة بديلًا للهيمنة 

هذا الشكل ’التعفّفيّ‘ الّذي يكتسبه الإسلام في عمر، أيّ تأطير التزام عمر الدينيّ في التعفّف الـ Straight edge، يقرّ بقصور شكل الإسلام المهيمن عن استيعاب الإنسان برغباته المختلفة والّتي لا تمسّ بإيمان الآخرين، ولا بحرّيّاتهم الدينيّة وغيرها؛ فتؤطّر النشوزيّة المسلم الرافض لتلك الرغبات والممارسات بإطار المترفّع عنها بقرار ذاتيّ لا يفرضه على غيره. يؤدّي هذا إلى انهيار شكل الإسلام المتزمّت كما نعرفه؛ فعندما يخطب جيهانغير فيهم بدوره يقول بأنّ "الله أكبر من أن يكون إسلامي أنا ضيّق الأفق"، وهي السمة الثالثة للّدونة الّتي تصنّفها مالابو؛ أي قدرة الشيء اللدن على إنهاء الأشكال الحاليّة لإنتاج أشكال جديدة تتفاعل مع المؤثّرات المختلفة.

تولّد لدونة الشيء انفجارًا في النظام المهيمن يعطي مجالًا لإيجاد "مخرج ممّا قد يبدو طريقًا مسدودًا"[4]؛ فصلاة الجمعة النشوزيّة مفتوحة الشكل لتأويلات المصلّين المختلفة للإسلام، تجعل شكل الإسلام قادرًا على استيعاب أشخاص مثل صديقتهم لين، وهي كاثوليكيّة الأصل اعتنقت الإسلام ثمّ ارتدّت عنه لأنّه لم يحتويها بكلّ حالاتها، وأصبحت تصلّي أينما وكيفما يحلو لها، في مسجد أو كنيسة أو معبد، لأنّها أدركت أنّ الإيمان علاقة بينها وبين الإله، ولا يقتصر على شكل بناية وطقوس معيّنة، فتعود لين بسرور إلى أداء صلاة الجمعة الإسلاميّة. وهذا ما يحبّه جيهانغير في الإسلام؛ فهو يحبّ المساجد لأنّها لا تحتوي الصور والتماثيل، أي "لا تفرض أيّ شيء عليك" على حدّ تعبيره، فتترك للفرد مجالًا للصلاة والتعبّد بعلاقة مباشرة مع الإله لا يشوّهها إقحام من البشر.

 

من فيلم «The Taqwacores – متّقين عيار ثقيل» (2010)

 

يبحث جيهانغير طوال القصّة عن النموّ والاستيعاب، والّذي يجده في الإسلام وفي أماكن أخرى مثل جوني كاش الّذي يصفه، كما يصف الإسلام، بأنّه ’كبير‘. لهذا السبب يقرّر جيهانغير تجسيد ’تقوى من العيار الثقيل‘ في مجتمع إسلاميّ جديد يُنشأ على هذا المذهب، بإحضار الإسلام إلى النشوزيّة هذه المرّة، فيقيم حفل تقوى عيار ثقيل في البيت، ويدعو إليه جميع فرق تقوى العيار الثقيل الموسيقيّة المعروفة في البلاد، حتّى أولئك الّذين يمنعون حضور النساء إلى حفلاتهم، وجمهورًا واسعًا من النشوزيّين والمسلمين والمسيحيّين والمنبوذين، بكافّة أنواعهم الجندريّة وميولهم الجنسيّة. يتساءل الجميع، وعلى رأسهم المثليّ ’موزي‘ لماذا يدعو جيهانغير فرقة مثل «صخرة بلال» النشوزيّة المتزمّتة، الّتي لن يتوارى أعضاؤها عن قتله أو "رميه من النافذة" إذا ما سنحت لهم الفرصة على حدّ تعبيره، فيجيبهم جيهانغير بأنّنا "نحن المقصيّون من المجتمع لطالما خفنا من أن نكون أنفسنا معهم، والآن وقد أصبح لدينا مجتمعنا الخاصّ، أَمِنَ المنطقيّ أن نفعل المثل مع غيرنا… لا تكن صغيرًا مثلهم، كن كبيرًا".

 

أن يكون كبيرًا

هذا هو جواب النشوزيّة على سؤال" ماذا نريد من الإسلام؟"، وهو أن يكون كبيرًا بما يكفي ليجعلنا نحن أيضًا كبارًا، قادرين على التعايش مع بعضنا في هذا العالم بسلام. فعندما نقول "الله أكبر" و"لا إله إلّا الله"، نحن نقرّ بأنّ الله أكبر منّا جميعًا، وهو وحده من يملك الحكم علينا. وإن لم نستسلم لهذا كما يعبّر جيهانغير في خطبة الجمعة، ستكون النتيجة هلاك الصوت الّذي ينادي بهذا السلام، الّذي يناجينا به الإيمان، وبالتالي هلاكنا نحن بالعنف والعداء.

عندما يبدأ أعضاء «صخرة بلال» بضرب الناس عشوائيًّا بعد أن تقع على أحدهم بصقة رابعة من بعيد بعد أن ملأت فمها بسائل فاسق، يتدخّل جيهانغير ليفضّ النزاع ويسقط قتيلًا في قتال طائش يشهق له الجميع، بما فيهم «فرقة صخرة بلال». بعدها يسقط ’البيت‘ ويتفرّق سكّانه. ما جمعهم وأبقاهم مجتمعًا متماسكًا كان جيهانغير أو التقوى من العيار الثقيل، ولعلّها أيضًا هي أملنا في مجتمع إسلاميّ سلميّ يضمن لكلّ منّا مكانه وأمانه، فلا عجب أنّ رفقة جيهانغير حوّلت يوسف اللطيف الّذي يهاب التزام عمر والدين الملتزم الّذي لم يعرف غيره، إلى شابّ جريء يدافع عن موزي المثليّ وحقّه في الانتماء للمجتمع أيضًا.

عندما أطلق نايت روايته متخيّلًا مجتمعًا إسلاميًّا يحترم فرديّته، ومجتمعًا شبابيًّا (أمريكيًّا) يحترم إسلامه - فالفيلم يستعرض تسجيلات تلفزيونيّة للإقصاء المسيّس الّذي يتعرّض له الأفراد بسبب دينهم أو ميولهم في المجتمع الأمريكيّ - اعتقد العديد من المنبوذين من كلا المجتمعين؛ الإسلاميّ والشبابيّ الأمريكيّ أنّها رواية عن مجتمع واقعيّ، وكتبوا لنايت مطالبين بالتواصل معهم ورافعين شعار تقوى العيار الثقيل قائلين: "أنا تقوى كور أيضًا"، فتحوّل خيال نايت إلى واقع بنشوء الحركة. وهذا ما جعل فيلمًا مثل «The Taqwacores»، بخلاف كثير من المواقف والأعمال الّتي شهدناها، ينجو من إثارة غضب جماهيريّ واسع، وذلك لأنّه يحترم فرديّة كلّ فرد، وإسلام كلّ مسلم ويخلص لجوهره، وهو التسامح الّذي وقع جيهانغير شهيدًا له؛ فالنشوز عن العنف والكراهيّة الّتي تفرّقنا، هو الحلّ.

 


إحالات

[1] Bikini Kill, Rebel Girl, 1993.

[2] Malabou, Catherine, Plasticity at the Dusk of Writing: Dialectic, Destruction, Deconstruction, translated by Carolyn Shread (2005; repr., New York: Columbia Uni- versity Press, 2010), p. 17.

[3] Malabou, Catherine, The New Wounded, p. 17.

[4] Malabou, Catherine, The New Wounded,  p. 66.

 


 

حنين عودة الله 

 

 

 

مخرجة وكاتبة فلسطينيّة مهتمّة في التحليل الثقافيّ والفلسفة والسينما والثقافة الشعبيّة والبديلة. حاصلة على شهادة الماجستير في «التحليل الثقافيّ المقارن» من «جامعة أمستردام».