سيمون ليڤيڤ وآنّا... كيف خدعا ضحاياهما؟

 

الفيلم الوثائقيّ «محتال تِنْدِر - The Tinder Swindler» للمخرجة فيليستي موريس، ومسلسل «ابتكار آنّا - Inventing Anna» للمخرجة شوندا رحيميز، يتناولان الاحتيالات الّتي تحدث عبر التطبيقات الرقميّة، وهما مبنيّان على قصص حدثت فعلًا وحديثًا، وكلاهما يضع يده على  فئة من الناس باتت رهينة ومستسلمة للعالَم الّذي يصلها عبر شاشة الهاتف، المليء بالصور الجميلة والفلاتر الّتي تنسي المرء شكل وجهه الحقيقيّ، بحيث لو نظر إلى المرآة ما عرف نفسه.

 

ضحايا «تِنْدَرْ»

الوثائقيّ «محتال تِنْدَر - The Tinder Swindler» سيطر صداه قبل أسابيع على وسائل التواصل الاجتماعيّ، خاصّة أنّ بطل الحكاية الّذي تناوله الفيلم يعيش حياته حرًّا طليقًا في تل أبيب، ويهدّد شركة «نتفليكس» بمقاضاتها، متّهمًا إيّاها بالتدليس. سيمون ليڤيڤ محتال ضحاياه مجموعة من النساء وقعن تحت تأثيره عبر تطبيق «تِنْدِر» للمواعدة، والغريب أنّه يحمل جوازات سفر عديدة، يدور العالَم بها دون توقيف أو تشكيك، كأنّه شخصيّة تتمتّع بالحماية والحصانة، ما يجعلك تظنّ أنّه تابع لجهاز استخباريّ ما.

 

 

ستعتقد لوهلة أنّ نماذج ضحاياه النساء هنّ ما يُطلَق عليهنّ البسيطات، أو القليلات التجربة، لكنّ الواقع غير ذلك، فأنت أمام شخصيّات مستقلّة، متعلّمة، متحرّرة، حالمة، وهنا تكمن الخطورة، بأنّ الصورة المصدرة من قِبَل التطبيقات ومعاييرها تضع النساء في مقارنة مستمرّة بين ما يمتلكن وما تعرضه تلك التطبيقات من وهْم؛ ليكون المتلقّي أمام تفاصيل من الصعب ألّا يقشعرّ لها البدن، تضعه في حيرة، وتطرح التساؤلات الكثيرة الّتي للأسف لن يجد لها إجابة؛ فسحر العالم الافتراضيّ طغى على الواقع على ما يبدو.

يدرك المحتال أنّ مَنْ ستختاره عبر تطبيق «تِنْدِر»، ومهما كان شكلها أو سنّها، هي مشروع ضحيّته المحتملة، وبناء عليه؛ يبدأ ببناء خيوط شبكته العنكبوتيّة، بحيث يتعرّف على ضحاياه عبر محادثات مقتضبة، بعدها موعد عبر طيّارته الخاصّة. هنا تقع الضحيّة في ثقة تامّة بأنّها أمام فارس الأحلام. ليڤيڤ لم يغيّر من سيناريو الاحتيال بين النساء المختلفات؛ طائرة خاصّة، صفحة رسميّة توضح أنّه ابن أكبر تاجر للألماس في العالم، سفر إلى بلاد كثيرة، ورحلات وصور لتلك الرحلات تُعَبِّئ صفحاته على مواقع التواصل. لم يغيّر اسمه أيضًا في تعاملاته مع الضحايا، لكن لم يدرك أنّه، وبسبب هذا الإصرار على توحيد طريقة النصب والاحتيال، كُشِفَ أمره أخيرًا، وهذا الكشف سيكون عبر الصحافة.

يركّز الفيلم على ثلاث من ضحايا ليڤيڤ: سيسلي نرويجيّة تعيش في لندن، وبرنيلا شوهولم من السويد، وشارلوت الّتي تقدّم الانتقام الأهمّ بينهنّ. كلّ واحدة منهنّ تعرض رسائل الواتس آب، والصور، وكلّ المغامرات الّتي كانت مع المحتال، وكيف تورّطن بقروض ماليّة لإنقاذه بعد ادّعائه تعرّض حارسه الشخصيّ لرصاصة كانت تستهدفه، واستسلامهنّ الكامل أمامه دون تفكير. كيف لا يكون صادقًا وقد عشن معه حياة كاملة عبر طائرته الخاصّة وغرف الفنادق الفاخرة؟ ليدركن في النهاية أنّهن عشن على احتياله لنساء قبلهنّ، وفي نفس الوقت جعلهنّ يسلّمنه أموالهنّ الخاصّة، واستخدم تلك الأموال لمغازلة ضحايا أخريات.

يأتي بعدها دور الصحافة عبر ثلاثة صحافيّين نرويجيّين قرّروا السماع لبعض الضحايا، وبدء تحقيقاتهم الخاصّة، الّتي أوصلتهم إلى بيت ليڤيڤ المتواضع في ضواحي تل أبيب، والالتقاء بأمّه الّتي أكّدت لهم أنّها لا تعرف عنه شيئًا، واكتشفوا أنّ اسمه عند الولادة هو شمعون يهودا حيوت، وُلِدَ في إسرائيل عام 1990، وبدأ بخداع الناس في أواخر سنّ المراهقة، وعلى مرّ السنين، استخدم أسماء مستعارة مثل مايكل بيتون ومردشاي تابيرو وديفيد شارون، ولديه جوازات مصدّقة وغير ‘مضروبة’.

يأتي بعدها دور الصحافة عبر ثلاثة صحافيّين نرويجيّين قرّروا السماع لبعض الضحايا، وبدء تحقيقاتهم الخاصّة، الّتي أوصلتهم إلى بيت ليڤيڤ المتواضع في ضواحي تل أبيب، والالتقاء بأمّه...

التورّط العاطفيّ لم يكن سمة جميع ضحايا ليڤيڤ؛ فمثلًا شوهولم تؤكّد أنّها في المرّة الأولى الّتي قابلته فيها، اتّفقا على أن يكونا صديقين فقط، لكنّها قبلت دعواته الفاخرة والهدايا الغالية الثمن، وكانت شاهدة على علاقته العاطفيّة بعارضة أزياء روسيّة تُدْعى بولينا، وقالت: "لست في حاجة إلى رجل يعتني بي، لكنّني سأكون ممتنّة لرجل يشاركني حياتي".

أمّا شارون الّتي ظهرت في الثلث الأخير من الفيلم فحَرِيٌّ تتبّع قصّتها؛ هي الّتي قضت الوقت الأطول مع ليڤيڤ؛ عامًا ونصفًا، ولديها الكثير لتحكيه، وانتقامها كان الأجمل. ندرك أنّ الجمال لا يقترن بالانتقام، لكنّه وصف أقرب إلى دقّة ما ستفعله، لذلك ولعدم حرق القصّة، فإنّني لن أتحدّث عنها هنا.

في المقابل، رفض ليڤيڤ المشاركة في الفيلم، وظهوره كان عبارة عن صور وفيديوهات أرشيفيّة موجودة لدى الضحايا، إضافة إلى أنّه أفلت من العقاب والقضايا الّتي رُفِعَتْ عليه، ويعيش حاليًّا حرًّا طليقًا في تل أبيب، وما زال يصوّر نفسه ابن تاجر ألماس، وهو نشيط جدًّا على «التيك توك»، ترافقه حبيبته عارضة الأزياء، ويهدّد ويتوعّد برفع قضيّة على «نتفليكس» وأيضًا على ضحاياه، بتهمة التشهير والتدليس. لكن بمجرّد مشاهدة الفيلم، من السهل تمييز مَنْ يكون ذو المصداقيّة ومَنْ هو ليس كذلك.

 

حلم آنّا، الورثة الألمانيّة

أمّا بالنسبة إلى مسلسل «ابتكار آنّا  - Inventing Anna»، فأنت ببساطة من المحتمل أن تشفق على المحتالة في محطّات عدّة من العمل، بالرغم من حالة الاستفزاز والترقّب الّتي ستعتريك أثناء المتابعة؛ لأنّك ستدرك أنّ الأحلام ممنوعة على الفقراء؛ هنا فقط ستشعر بالعطف، ولو قليلًا.

من جهة أخرى، الاستفزاز سيرتبط أيضًا بكمّيّة الضغط الّذي تعيشه الصحافيّة فيفيان (تمثيل Anna Chlumsky)، وبطريقة تمثيلها أيضًا، الّتي تقرّر تبنّي قصّة آنّا (تمثيل  Julia Gran) بعد دخولها السجن، وهي بذلك تحاول إنقاذ مسيرتها المهنيّة، الّتي اختلّت بسبب تقرير صحافيّ غير دقيق كتبته في الماضي، تسبّب في فقدان الثقة بها، وفقدان فرصة عمل مهمّة في بلموبيرغ، فظلّت في مكانها دون أيّ تطوّر في منصبها، وهي في هذه الأثناء تنتظر قدوم طفلتها إلى الحياة. هذا جانب مهمّ لا يقلّ عن تتبّع حكاية الشخصيّة الرئيسيّة في العمل؛ آنّا العشرينيّة، الساعية إلى تحقيق حلمها في نيويورك ببناء أكبر تجمّع للفنون.

 

 

آنّا ديلفي، ’الوريثة الألمانيّة‘ حسب تعريفها لنفسها، الّتي استطاعت خداع  المجتمع الراقي في نيويورك، تدرك من خلالها كيف أنّ المظهر الخارجيّ وطريقة الكلام المميّزة، هما جواز سفرك لهذا العالم الّذي كنت تعتقد أنّه عالم من الصعب الوصول إليه، لكن آنّا استطاعت تعريته بالمعنى الحرفيّ؛ فإن تدرك أنّ أهمّ البنوك، وأهمّ المستثمرين، والعقاريّين، ورجال أعمال، ونساء من الطبقة المخمليّة، كانوا يتبارون للحصول على رضا آنّا، فقد تتوقّع أنّه ضرب من الخيال، لكن تلك العشرينيّة استطاعت فعلًا أن تكون جزءًا من تلك الطبقة، وبينها وبين تحقيق حلمها توقيع واحد، هي الّتي كانت ترتدي ملابس من كبرى دور الأزياء، واستطاعت بدهاء الحصول على المال الوفير، وخداع مشاهير الأغنياء بمنحها تلك الدولارات مقابل جملة واحدة؛ هي أنّ تِرْكَتَها ستصل قريبًا من ألمانيا، وكان من الصعب التشكيك فيها، إلّا في يوم لاحظ أحد كبار المستثمرين أنّ في لغتها لكنة روسيّة، على إثرها ارتبكت آنّا، وهذا الارتباك هو الّذي سيحوّل المتلقّي نحو فهم الحكاية، الّتي ستكتبها الصحافيّة فيفيان كينت.

في المقابل، تظهر شخصيّة المحامي تود (تمثيل Arian Moayed)، الوحيد الّذي قبِل الدفاع عن آنّا، وهو أيضًا يبحث عن مجد خاصّ، وهو الّذي لا يدقّ باب مكتبه سوى أصحاب القضايا البسيطة.

لكلّ شخصيّة في المسلسل خطّها الخاصّ الّذي يتقاطع مع خطّ آنّا، ويعارضها أحيانًا. وعبر العالَم الافتراضيّ، دخلت آنّا الواقع المخمليّ؛ فهي ضليعة بالتطبيقات الّتي تحفّز مخطّطاتها وتضيف إليها، وقد استعانت بتطبيق لتغيير الصوت، بحيث خاطبت من خلاله كبار الشخصيّات الّذين من المفترض مساعدتها في حصولها على القرض الّذي سيحقّق حلمها، وعمليًّا نجحت، لولا عمليّة التدقيق الماليّ الّتي ستجعل فريقًا من البنك يذهب إلى ألمانيا لمعرفة وضعها الماليّ عن قرب، وهنا وقعت آنّا في فخّ حلمها.

اتُّهِمَتْ آنّا، واسمها الحقيقيّ سوروكين، بتهم مختلفة بالسرقة، إلى جانب العديد من الجرائم الأخرى، وفي نيسان (أبريل) 2019، أُدينت بثماني تهم من أصل 10.

الاتّفاق المبرم بين الصحافيّة فيفيان وآنّا يقوم على أن تبوح آنّا بكلّ شيء لفيفيان، مقابل أن تحقّق لها الأخيرة الشهرة. أثار شعور الشهرة مشاعر آنّا الّتي وافقت، لكن بسلوك من الصعب أن يتحمّله أيّ صحافيّ، باستثناء مَنْ لديه هدف يراد تحقيقه مثل فيفيان.

اتُّهِمَتْ آنّا، واسمها الحقيقيّ سوروكين، بتهم مختلفة بالسرقة، إلى جانب العديد من الجرائم الأخرى، وفي نيسان (أبريل) 2019، أُدينت بثماني تهم من أصل 10.

 

يتعرّف المتلقّي على آنّا من خلال فيفيان عبر تسع حلقات، كما أنّها تجري مقابلات مع المتورّطين في حياتها، وفي كلّ حلقة نتعرّف على ضحيّة احتيال جديدة، سواء كانت مؤثّرة مهووسة بالثروة، أو كانت مصرفيًّا استثماريًّا أو محاميًا مرموقًا أو حتّى صديقًا. تصبح عمليّة الاحتيال والخيانة أكبر من تصديقها، وهنا فخّ آخر، حتّى فيفيان في لحظة كادت تصدّقها، وتقع هي نفسها في فخّها.

تجاوز احتيال آنّا حدود نيويورك، ووصلت إلى المغرب، لم تفوّت فرصة استغلال إلّا اقتنصتها، خانت الجميع، حتّى مَنْ أحبّها فعلًا. أنت أمام سيناريو يجعلك تفكّر كثيرًا في قدرة الخداع، وفي قدرة الصورة الكاملة الوهميّة في إقناعك بأنّها على صواب، وفي لحظة لن تستغرب عندما وصلت فيفيان إلى عائلة آنّا الفقيرة الّتي تعيش في ألمانيا، وهي من أصول روسيّة تعاني من نظرة المجتمع السائدة نحو الروسيّ بأنّه منتمٍ إلى عصابات تهريب في أقلّ تقدير، وتدرك ما كانت تعيشه من اضطهاد، وتحاول أن تفهم لماذا وصلت إلى هذا الحدّ، وتفهم أيضًا تخلّي عائلتها عنها لأنّها أكّدت النظرة السائدة.

تسع حلقات مليئة بالألغاز والحيل والحيرة، والتورّط فعلًا عاطفيًّا في بعض الأحيان، وهذا بسبب قدرة آنّا على خداعك أنت أيضًا بصفتك متلقّيًا لحكايتها، لكنّ الأكيد أنّها تسع حلقات كفيلة بكشف زيف المجتمع، وكشف الطبقة المسيطرة على أهمّ منافذ الحياة في نيويورك؛ مدينة الأحلام الّتي على ما يبدو لا تتحقّق إلّا لمَنْ لديه رصيد بنكيّ كبير، أو أن يكون وريثًا حقيقيًّا لثروة كبيرة.

 


 

علا الشيخ

 

 

 

صحافيّة وناقدة سينمائيّة فلسطينيّة أردنيّة، ومبرمجة أفلام لعدد من المهرجانات السينمائيّة، ومديرة «جائزة النقّاد العرب للفيلم الأوروبيّ».