«كسر عضم»... دراما تتمشّى بين الألغام

جانب من ممثّلي «كسر عضم»

 

عودة المسلسل السوريّ

منذ اندلاع الثورة السوريّة، وارتحال نجوم الدراما من وطنهم، كلٌّ إلى وجهة وفق ما شاءت ظروفه وسنحت، أصبح المسلسل السوريّ متشظّيًا بين أعمال دراميّة عربيّة؛ مصريّة ولبنانيّة في غالبيّة صوره، فلم يغب ولكنّه لم يبق، وللحقّ فإنّ هذا الواقع لفت الأنظار إلى إمكانيّة إنتاج مسلسلات تحتضن اللهجات العربيّة على اختلافها، شريطة وجود مبرّر دراميّ لقيام خطّ السرد في لبنان أو في دبيّ أو في مصر أو أيّ بلد آخر؛ ممّا يمكن أن يُنْشِئ زخمًا في الأسماء الكبيرة الموزّعة بين البلدان؛ من ممثّلين وكتّاب ومخرجين وفنّيّين. وقد أفلح منتجون في إعادة إحياء المسلسل اللبنانيّ بهذه الطريقة، بل وضعه على الواجهة، وتغطية ما كان فيه من ثقوب، وخدمت هذه العمليّة أسماء لبنانيّة لم تكن معروفة، إلّا أنّها انطوت على حرفة هائلة لم تكن تتوفّر على فرصة مناسبة لتقتحم سوق الدراما، وتمتّعنا بأداء مبدع.

مسلسل «كسر عضم» جاء هذه السنة ليعيد هيمنة المسلسل ’السوري السوري‘، الّذي أخفقت قبلًا شركات إنتاج باستعادته لضعف الإمكانات أو لنقص في كادر الممثّلين...

في المقابل، نشأت موجة ’حَرَد‘ جماهيريّ سوريّ، وغيرة ربّما على المنجز الدراميّ للسوريّين، إذ اعتبرت هذه الشريحة أنّه يتداعى لصالح وجوه عربيّة أخرى، بداعي الظرف السياسيّ المعقّد، الّذي نقل الإنتاج إلى لبنان وغيره، فتحوّل المسلسل السوريّ، وفق اعتقادهم، إلى رافعة ترفع كلّ الممثّلين العرب باستثناء السوريّين، الّذين تحوّلوا وفق الرؤية تلك إلى ضحايا. مع أنّ هذه النظرة تنطوي على نزعة إقليميّة فئويّة، في حين أنّ الفنّ في أصله من المفترض أن يمشي بالضدّ من هذه الظاهرة، إلّا أنّها في الوقت ذاته تشتمل على وجاهة محدودة في الطرح، إذ لم تراكَم الأعمال الجديدة المشغولة في الخارج، فوق الرصيد السوريّ الّذي أمتعنا لعقود، وإن فصلنا إنتاج ما بعد الثورة، الّذي اشترك فيه نجوم عرب، وعدنا لمحاكمة إنتاج ما قبل الثورة بأدوات النقد الحديث، فسنجد الإنتاج القديم أصبح كلاسيكيًّا وباهتًا؛ وهو ما يبرّر غيرة هؤلاء على الإنتاج الّذي يسمّونه ‘سوري سوري‘.

مسلسل «كسر عضم» جاء هذه السنة ليعيد هيمنة المسلسل ’السوري السوري‘، الّذي أخفقت قبلًا شركات إنتاج باستعادته لضعف الإمكانات أو لنقص في كادر الممثّلين عقب لجوئهم إلى دول  الجوار وغيرها.

 

نصّ بين الألغام

«كسر عضم» هو المسلسل الأوّل الّذي يكتبه علي معين صالح، وقد كان تطويره - كما يقول - من ثلاثيّة، ليصبح 33 حلقة، ذُيِّلَتْ حلقته الأخيرة بإشارة إلى جزء ثانٍ قادم، أغلقت شارته على 1200 مشهد تقريبًا، كُتِبَت على ما يبدو بين الألغام، فالمسلسل يقول ولا يقول، حيث تعزّ المقولة ويعزّ الصمت، إذ الخراب بطل الثيمات كلّها، لكنّه سرد الخراب والفساد دون تسبيبه، فإذ يسهب الكاتب في الإحاطة بالفساد والجريمة في سوريا، لا يشير إلى مَنْ يقف وراءها، بما يترك الأسئلة تائهة في انتخاب إجاباتها، هل النظام وراء هذه الكارثة المفتوحة؟ أهي نتاج ثورة لم تنجح وتحوّلت إلى فوضى وأنتجت هذا الهلام؟

مناصرو الثورة السوريّة رأوا في ذلك تعويمًا مقصودًا ومغرضًا، هدفه تلميع النظام، إلّا أنّ قراءة أعمق للأمر، قد توصل إلى قناعات أجدى، كالقول إنّ الفنّ ليس من واجبه وضع إجابات إنّما طرح أسئلة، وقد نجح الكاتب في أسئلته فعلًا.

أحداث المسلسل تدور في سوريا، والممثّلون سوريّون، تتقاذف المجرياتِ الدولةُ والشعب، الدولة بشكليها اللذين يعبّر عنهما مسؤولون على قدر من النزاهة والمغامرة، ومسؤولون فاسدون ومجرمون وقتلة، والشعب بأشكاله الثلاثة، وهي: الموالون للدولة لأنّها الوطن في اعتقادهم، والمعارضون للفساد في الدولة حيث يحاولون إصلاحها والإبقاء عليها بعد تنظيفها، والمعارضون للدولة من المحبطين ممّا آلت إليه الظروف بعد تصفية الثورة وتدمير البلد، لصالح بقاء النظام.

 

 

لذلك؛ في جميع مراكز الأمن والثكنات والمؤسّسات الرسميّة، تظهر صورة بشّار الأسد جليّة على الجدران؛ ممّا يظهر ذكاء الكاتب في شقّ طريق بين صفوف الموالين والمعارضين، وهو ما جعله مرّة مقبولًا لدى الطرفين ومرّة مرفوضًا لديهما، لكنّ الشرط اللوجستيّ المتعلّق بالموافقة وإجازة المسلسل محلّيًّا، بما لا يرتّب على القائمين عليه محاكمات في سوريا، ربّما هو ما كان وراء الكتابة على هذا النحو، وقد سبقه إلى ذلك الدرب مسلسل «الندم»، من كتابة الفلسطينيّ السوريّ حسن سامي يوسف، وإخراج الليث حجّو.

 

خطوط الدراما

في المسلسل ثلاثة خطوط دراميّة أساسيّة، وبينها خطوط فرعيّة أخرى؛ الخطّ الأوّل يقوده حكم الصيّاد، المسؤول الفاسد صاحب المافيا العابرة للحدود والحكومات، والخطّ الثاني يقوده شباب مهزومون ومسحوقون؛ هم إيليا التائه منذ ولادته بين الطوائف والعائلات، وعلاء الموالي للنظام وابن طائفته، وسومر السنّيّ [هكذا يقدّمه المسلسل]، المعارض اليائس الّذي يكابد من أجل الزواج بفتاة يحبّها، ويجازف من أجل تأمين اللقمة بعد أن فقد أباه. الثلاثة يسكنون في بيت واحد تعود ملكيّته لإيليا الّذي لا يعرف أباه وقد ماتت أمّه، ولم يقل له أحد أكان مسيحيًّا كأبيه، أم مسلمًا كأمّه، وإن كان سنّيًّا أو شيعيًّا.

الخطّ الثالث تقوده فتاة تُقْتَل أمّها في أوّل مشهد، ويتخلّى عنها أبوها الّذي هجر أمّها سابقًا، وقيل له إنّها تعاشر رجلًا آخر. تواجه هذه الفتاة يارا ظلم المجتمع الّذي جنّنته العادات والحروب، في فوضى انهيار القيم.

تلتقي هذه الخطوط بنباهة مُحْكَمَة، ويفاجئنا الكاتب حلقة تلو أخرى بعلاقات معقّدة بين نجوم الخطوط الثلاثة، قبل أن تتحوّل إلى خطّ واحد متعدّد الألوان، فلا تعود الخطوط موزّعة باتّجاهات مجّانيّة، ولا تسير في اتّجاه واحد ممّا يجعل المسلسل حكاية واحدة. هكذا أفلح علي معين صالح في قول الحكاية من جميع الاتّجاهات، وعلى ألسن متعدّدة ومختلفة تربطها أرض واحدة، سقطت تحت نير اللعنة على مرّ عقود.

وإذ كان العمل يبني نجاحه يومًا بعد آخر، كان يربو على الضفّة الأخرى اتّهام بالسرقة، أثاره الكاتب الكبير فؤاد حميرة، متّهمًا «شركة كلاكيت للإنتاج» – إياد النجّار، والكاتب الشابّ علي معين صالح، باستنساخ مسلسله الّذي تعثّر إنتاجه «حياة مالحة». التراشق بالاتّهامات قاد إياد نجّار المنتج لطلب عقد مقارنة أمام الجمهور أو أمام القضاء، لكن حميرة لم يردّ على السويّة ذاتها؛ إذ اكتفى بالاتّهام؛ ما يجعل الحكم القاطع أمرًا مستحيلًا، رغم مراكمة القائمين على «كسر عضم» الدليل تلو الآخر، والحجّة فوق الأخرى.

 

الأداء المحكم

قدّم المسلسل نجومًا اشتاقت الشاشة إليهم، جنبًا إلى جنب مع آخرين يشقّون طريقهم منذ سنوات نحو النجوميّة، وانتخب رهطًا من الأسماء الّتي لمّا نعتدها بعد، إلّا أنّه على المستويات الثلاثة ومستوًى رابع تجلّى بانتقاء الكومبارس الدقيق، نجح في إحكام الأداء. الفضل في ذلك إذ يعود إلى مهارة الممثّلين، يعود أيضًا إلى رؤية المخرجة المتألّقة رشا هشام شربتجي، صاحبة الروائع، فبدور حكم الصيّاد قام النجم الكبير فايز قزق برفقة شربتجي بتقديم شخصيّة رجل العصابات الأنيق بحنكة مذهلة، طالما افتقدناها في الدراما العربيّة إمّا بسبب الإسفاف وإمّا المبالغة، حكمة قزق ودربته إذ اتّحدت برؤية شربتجي الثاقبة، خلقت شخصيّة لا تشوبها شائبة.

الاستعانة بكومبارس ذوي لهجات قرويّة كان له عظيم الأثر؛ فالممرّضون ورجال الشرطة والحرس وغيرهم، كانوا من هؤلاء ذوي الحظّ الأقلّ في دمشق، ممّن يجيئون من الأرياف...

الفرصة الّتي أُتيحَت للنجم سامر إسماعيل كانت ضيّقة؛ إذ حُصِرَت في حلقات عشر، إلّا أنّها منحت سهمه دفعة وضعته في صدارة المشهد لسباق عام 2022، استند فيها على قوّة الأداء دون التخلّي عن طبيعة انفعالاته. كاريس بشّار أيضًا قادت شخصيّة لم نكن لنتخيّل أنّها ستستطيع ترويضها، فكاريس الناعمة الأنيقة البسيطة، كانت الخصم الأكبر لحكم الصيّاد بدور عبلة، وهو ما ينسجم مع تطوّر الشخصيّة الّتي شكّلتها الظروف الصعبة، وجعلتها ذات نفوذ، بعد أن كانت فتاة بسيطة فعلًا، وهنا ينبغي القول إنّ شربتجي تنبّهت إلى عدم الحاجة إلى ممثّلة ذات شخصيّة ثاقبة، بل إلى ممثّلة ذات قدرة على إثارة الحسّ الإنسانيّ.

أمّ ريّان زوجة حكم الصيّاد، الممثّلة القديرة نادين خوري، تمكّنت من إعمال قدرتها في تفاصيل صغيرة أتاحها الدور، فكانت بطلة رغم أنّ الهامش المتاح ضيّق. نادين تحسين بك، اخترقت الأحداث بذكاء البنت الخجولة القادرة، الماكرة الطيّبة، المنتقمة الهادئة، البريئة المشوّهة، وفي تقديري كان ذلك عبئًا ثقيلًا حملته برشاقة. النجم خالد القيش بدور المحقّق مروان، تحوّل مع تطوّر الأحداث إلى ركن قويم يحرّك المسلسل بهدوء ومجازفة حذقة. غزوان الصفدي وشادي الصفدي لعبا في الهامش لعبًا حلوًا، كما لعب أيضًا كلٌّ من جرجس جبارة، ونور علي، ومحمّد قنوع، وأيمن عبد السلام، وجمال العلي، وحسين عبّاس.

المسلسل قدّم فرصة لنا لمعرفة نجوم مخبوئين مثل حسن خليل، ويزن الريشاني، ويوشع محمود، وولاء عزّام، ونانسي خوري، وغيرهم، لكنّه منحنا نجمًا يُحْتَفى به هو كرم الشعراني، الّذي حرّك الشرّ بمهارة في المسلسل بدور هيثم؛ الذراع اليمنى لحكم الصيّاد.

الاستعانة بكومبارس ذوي لهجات قرويّة كان له عظيم الأثر؛ فالممرّضون ورجال الشرطة والحرس وغيرهم، كانوا من هؤلاء ذوي الحظّ الأقلّ في دمشق، ممّن يجيئون من الأرياف، وهذا تجسيد جميل للواقع، يُضاف إلى رصيد المخرجة شربتجي.

 

الكاميرا، الألوان، الموسيقى

كلّ هذه المهارات المنداحة في العمل كان يمكن أن تذهب جفاء، لو لم تتوفّر قدرة جبّارة في إدارة التصوير، العمليّة ذات الحصّة الكبرى في صناعة الدراما، والحصّة الصغرى في وعي المشاهد العاديّ رغم تأثيرها. عمارة الرويلي، ونزار واويّة، الفوكس بولر ومدير التصوير، تمكّنا من الحفاظ على التركيز البصريّ للكاميرا أثناء المشاهد المختلفة بنجاح مبهر، كما أفلح واويّة بصناعة صورة على سويّة ملائمة للحدث، ونجح في استخدام جسور جميلة عبر ’البيوتي شوتس‘ لمدينة دمشق، وخرجت الصورة بألوان جميلة ومواكبة لصناعة الدراما العالميّة.

المشاهد العنيفة في المسلسل كانت متقنة، لكنّها مزعجة، فيدأب الأتراك مثلًا على تغطية مشاهد الدم والقتل والعنف، إلّا أنّها في «كسر عضم» كانت قاسية وظاهرة...

وعلى اختلاف بيئات التصوير حصلنا على صوت نظيف قام عليه محمّد خير علي، مهندس الصوت، الّذي كان أيضًا على سويّة ملائمة لمشاهد التفجير والمجازفة، فلم يُنقص ولم يزد. وعلى الخطّ الموازي، قدّم سالم درباس مونتاجًا مرنًا مكّن المشاهد من نسج الأحداث على إيقاع الصورة وتوالي المشاهد، دون انزعاج أو تساؤلات نافرة كمطبّات، مع الحفاظ على الفضول المشوّق.

المشاهد العنيفة في المسلسل كانت متقنة، لكنّها مزعجة، فيدأب الأتراك مثلًا على تغطية مشاهد الدم والقتل والعنف، إلّا أنّها في «كسر عضم» كانت قاسية وظاهرة، لكنّ هذا يظلّ ملمحًا من ملامح الدراما العربيّة.

طارق الناصر، الفنّان الأردنيّ وعبقريّ الموسيقى التصويريّة، اشتغل في المسلسل على نحو غريب، وبطريقة تربك التقييم، فلا أعرف لماذا اختار أسلوبًا كلاسيكيًّا، إلّا أنّه – وللحقّ - شكّل صورة سوريا المحبّبة، عبر لعبه على أوتار الحنين والوجدان الجمعيّ لصوت الموسيقى، الآتي من زمن أثّر في المشاهد وأثرى وعيه، فإن كان هذا نهجه في «كسر عضم»، فإنّه ينبغي الاعتراف بأنّه حقّق الهدف في الدقيقة الأولى؛ أي منذ بداية التَّتَر.

رغم الإشارة لجزء آخر للمسلسل، إلّا أنّ الجزء الأوّل كان وجبة كافية، يمكن التقاطها والاكتفاء بها دون جزء رديف، وهو ما يدفع للتصوّر بأنّ الجزء الثاني قد يكون مستقلًّا أيضًا، بما يشبه ثلاثيّة كارلوس زافون «مقبرة الكتب المنسيّة»، الّتي تتيح لك البدء بأيّ جزء تريد. فإن كان الأمر كذلك، فهذه نقطة أخرى يربحها الكاتب أيضًا.

 


 

سلطان القيسي

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا،  يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ "بائع النبيّ" عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.