أحمد حلمي في انتظار «واحد تاني»

أحمد حلمي في فيلم «واحد تاني»

 

في روايته الأشهر «أولاد حارتنا» (1959)، يخبرنا نجيب محفوظ بأنّ "آفة حارتنا هي النسيان"، ويبدو أنّ الأمر في سينمانا الحاليّة عكس ذلك تمامًا، فآفة الكثير من الممثّلين الآن هي التذكّر، بل فرط التذكّر. يكفي أن تشير إلى فلان بإجادته ثيمةً ما أو إتقانه لطريقة من الطرق الفنّيّة، وعنها لن يبرح هذه الطريقة، سيبقى متذكّرًا إيّاها وكأنّها اكتشاف ثمين، يعيد فيها ويزيد حتّى تفقد قيمتها الجماليّة. ليس أمامك وقتئذٍ سوى الندم على إشادتك السالفة الذكر، الّتي كانت سببًا في تغييب عنصرَي المفاجأة والتشويق لفيلم نجمك المفضّل، وقد باتت طريقته ’كارتًا محروقًا‘ من السهل توقّع قصّته وأحداثه، وثيمته الأثيرة بمزيد من الإطناب وفائض غير محتمل من التكرار. كثير من فنّانينا المعاصرين تنطبق عليهم هذه المعضلة، وربّما يأتي أحمد حلمي في مقدّمة هؤلاء.

من فيلم إلى آخر يتّضح أنّ جعبة نجم الأطفال أوشكت على النفاد، ولا يوجد بها سوى النقل الحرفيّ عن قصص أجنبيّة في معظم الأحوال، لا تتناسب وثقافة المجتمع المصريّ أو العربيّ على السواء...

شهد شهر رمضان المنصرم خيبة أمل كبيرة في موسم الدراما المصريّة، لم ينجُ منها سوى عدد من المسلسلات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، لذلك؛ منّى المشاهد نفسه بالتعويض عمّا سلف مع البدء في إعلان موسم أفلام العيد، إلّا أنّ الأمر لم يختلف كثيرًا، رغم أنّ القائمة ضمّت عودة للنجم أحمد حلمي، بعد غياب ثلاث سنوات عن الشاشة الفضّيّة، منذ فيلمه «خيال مآته» (2019).

 يتصدّر حلمي بفيلمه الجديد «واحد تاني» (2022) أعلى الإيرادات، في موسم هزيل لا يتناسب والعودة لفتح دور العرض السينمائيّ وتشغيلها بكامل طاقتها. الفيلم من بطولة روبي، وأحمد مالك، وسيّد رجب، وعمرو عبد الجليل. ومن تأليف هيثم دبور، وإخراج محمّد شاكر خضير في ثاني تجربة سينمائيّة له بعد عدد من المسلسلات الّتي لاقت نجاحًا في الأعوام الماضية، من بينها «طريقي» (2015)، و«جراند أوتيل» (2016)، و«في كلّ أسبوع يوم جمعة» (2020).

 

آخر مرّة لمّا تأتِ بعد

بدأ حلمي حياته الفنّيّة من التلفزيون المصريّ في أوائل التسعينات، وجهًا جديدًا في مسلسل «ناس ولاد ناس - عادل صادق» (1993)، وعمل مهندس ديكور لفترة، حتّى اختارته الإعلاميّة سناء منصور لتقديم برنامج للأطفال بعنوان «لعب عيال» (1998). كانت ملامح حلمي الطفوليّة وتكوين جسده الصغير سببًا في نجاح البرنامج. ومنذ ذلك الحين حتّى الآن، شكّلت الفئات العمريّة من الأطفال والشباب النسبة الكبرى من جمهوره، ولم يمنع ذلك تراجع رصيده الفنّيّ خلال الأعوام الماضية؛ فمن فيلم إلى آخر يتّضح أنّ جعبة نجم الأطفال أوشكت على النفاد، ولا يوجد بها سوى النقل الحرفيّ عن قصص أجنبيّة في معظم الأحوال، لا تتناسب وثقافة المجتمع المصريّ أو العربيّ على السواء.

«لفّ ودوران» (2016)، «صُنِعَ في مصر» (2014)، «على جثّتي» (2013)، «أكس لارج» (2011)، «عسل أسود» (2010)، كلّها أفلام من السهل الوصول إلى أصولها الهوليووديّة، ولا سيّما أنّ أزمة النصّ المكتوب للسينما باتت ’الشمّاعة‘ الأبديّة الّتي يعلّق عليها العديد أسباب فقر الخيال؛ ممّا دعا بعض المتابعين إلى إلقاء اللوم عليه، ومطالبته بأفلام تحمل "أفكارنا وليس أفكار الغرب". من جانبه كان حلمي يستجيب لتلك الدعوات مصرّحًا بأنّها "آخر مرّة"، فهو دائم التفاعل مع متابعيه عبر حسابات التواصل الاجتماعيّ، الّتي أتاحت لفنّاني عصر الإنترنت إمكانيّة قياس ردود فعل الجمهور، ومن الواضح أنّ مؤشّر ذلك لا يعمل عند حلمي، أو هو يتغافل عنه.

   

متلوّن لا يجيد التلوّن

كان للنجم الكبير أحمد زكي عادة يحبّ أن يقوم بها من وقت لآخر، وهي تجريب نفسه في شخصيّة ما، حتّى لو لم يكن ثمّة سيناريو أو مشروع فيلم. يعمل المكياج الكامل للشخصيّة، ثمّ يشرع في مداهمتها وجهًا إلى وجه، وذلك من أجل الاطمئنان على قدرته الفنّيّة على التشخيص، وهو أيضًا بمنزلة تدريب مستمرّ على ملكات التقمّص والأداء لديه؛ فغاية أيّ ممثّل قدرته الدائمة على التلوّن وتمكّنه من استحضار ما تتطلّبه الشخصيّة.

في فيلمه الجديد «واحد تاني» (2022)، يستمرّ حلمي على منهجه الأثير، ويزيد عليه قليلًا في الدمج بين مواقف عدّة من أفلام مختلفة تشكّل الخطّ الدراميّ لقصّة الفيلم، على أنّ الأمر يتخطّى النقل عن السينما؛ فنراه يستغلّ أيضًا بشكل عرضيّ بعض المواقف الكوميديّة لفيديوهات ’التيك توك‘ المنتشرة، حين يُسْرَق البطل أثناء استخدامه ماكينة صرف آليّ، ولا يجد اللصّ سوى الحيلة الكوميديّة المشهورة بأن يمسك بنطالًا من الخلف ضابطًا جيبه على نفس جيب البنطال الّذي يرتديه البطل، فيخطئ ويضع الأموال في جيب اللصّ.

 

 

مصطفى (تمثيل أحمد حلمي)، اختصاصيّ اجتماعيّ بقطاع السجون، يعيش حياة رتيبة، تدعوه فيروز (تمثيل روبي)، زميلته القديمة، إلى حفل يُقام لجمع شمل ’شلّة الجامعة‘. أثناء الحفل، يسرد كلّ منهم ماذا صنع في حياته منذ وقت التخرّج، فيكتشف مصطفى أنّه لم يحقّق شيئًا يُذْكَر. ودون مقدّمات يتقابل مع جاسر (تمثيل أحمد مالك)، الأخ الأصغر لزميلة الجامعة، فيخبره بحلّ سحريّ لإعادة الشغف المفقود للحياة، وهو اختراع مجرّب للبوسة، قادرة على خلق هذا الشغف من جديد، وكالعادة في حالة بطلنا، ينتج عن خلل ما في العمليّة أن يحدث انشطار داخليّ، ونبقى طوال الفيلم في متابعة صراع الاثنين، مصطفى الخامل المطيع للعرف والتقاليد، وأكس الّذي يضرب بها عرض الحائط، ويتناوب حلمي في التنقّل بين الشخصيّتين من آن إلى آخر، مقحمًا كوميديّة مصطنعة من مواقف إساءة الفهم، لم يقم فيها المؤلّف هيثم دبّور بأيّ دور، حتّى أنّ التصاعد الدراميّ البطيء للفيلم تشعر كأنّه يسير بالدفع الذاتيّ كيفما اتّفق.

على جانب آخر، مثلما تتكرّر الثيمات في أفلام أحمد حلمي، وتصبغ أداءه بطابع واحد، نجد ثيمة تعدّد الشخصيّات تحتلّ البطولة الكبرى في خلطته المنسوخة، فدائمًا ما يفضّل الانقسام بين شخصيّات عدّة في نفس العمل. ربّما هي رغبة دفينة يتمنّى بها أن يكون الجوكر متعدّد الوجوه؛ ما يتيح له تعدّديّة موازية من الإبهار ستكون في انتظار الجمهور. وربّما لا يزال الفنّان يبحث عن وجه يلائمه، إلّا أنّ عمليّة هذا البحث طالت أكثر من اللازم، وأثّرت في جهود أيّ فريق يجتمع معه في فيلم، سواء على مستوى الإخراج أو السيناريو، وحتّى البطولات المشاركة.

 

على نفس الخطى

تنقّل الفنّان عمرو عبد الجليل بين مستويات عدّة من الكوميديا الخفيفة والدراما منذ بداية رحلته الفنّيّة، إلّا أنّه بداية من فيلم «حين ميسرة» للمخرج خالد يوسف (2007) وحتّى الآن، استراح كلّيًّا للكوميديا بديلًا عن أيّ لون آخر، ولا مشكلة في ذلك؛ فأن تضحك الناس هو أمر غاية في الصعوبة من أن تبكيهم، لكن أن يستمرئ الفنّان ’إيفيهاته‘ المعتادة وأداءه المصطنع، هنا تظهر المشكلة الكبرى، وهو ما يمكن تتبّعه في عدد كبير من الأدوار الّتي يقوم بها عبد الجليل، سواء في السينما أو الدراما، حتّى أنّك حين تقتطع بعض المشاهد من آخر أعماله لن تجد فروقًا تذكر بينها، اللهمّ في الاسم أو ملابس الشخصيّة والديكور.

دائمًا ما يفضّل حلمي الانقسام بين شخصيّات عدّة في نفس العمل. ربّما هي رغبة دفينة يتمنّى بها أن يكون الجوكر متعدّد الوجوه؛ ممّا يتيح له تعدّديّة موازية من الإبهار ستكون في انتظار الجمهور...

يؤدّي عبد الجليل في «واحد تاني» شخصيّة الأخوين ’القطّ والزّطّ‘، أحدهما مسجون والآخر يعمل رئيس عصابة، ويمتلك مطعمًا يستضيف فيه مصطفى في عدد من المشاهد الملفّقة لعقد صفقة تخصّ أخاه. مثل معظم الشخصيّات في الفيلم، جاءت شخصيّة الأخوين باهتة وغير مرسومة دراميًّا، وكان من الممكن الاستفادة منها بشكل أكبر بدلًا من بضعة ’إيفيهات‘ ومشهد حركة ومطاردة بالسيّارات، وهو نفس ما ينطبق على شخصيّة الدكتور علوان (تمثيل سيّد رجب)، الّذي قام بعمليّة إعادة الشغف.

أمّا في ما يخصّ روبي وأحمد مالك، فنجد أنّ الأولى تستحوذ على إعجاب المراهقين كمغنّية منذ أغنيتها «ليه بيداري» (2004)، الّتي قدّمت فيها رقصة شهيرة من فوق درّاجة هوائيّة، وهو ما تعتمد عليه بقوّة في الأدوار الّتي قدّمتها في السينما والدراما. في ما لا يزال مالك ينحصر في دور الشابّ الوسيم فاتن الفتيات، رغم أنّ لديه ما ينبّئ بإمكانات مختلفة تبحث عمّن يكتشفها.

 


 

وائل سعيد

 

 

 

كاتب وناقد سينمائيّ مصريّ، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة، مدير تحرير «مجلّة الكرمة».