«Spirited Away»... النضوج على طريقة الكامي

من فيلم «Spirited Away»

 

تملؤنا تقلّبات الحياة وتغييراتها بالقلق، فتشتبك عواطفنا بأفعالنا وممارساتنا الحياتيّة الّتي لا نعود قادرين على أدائها بشكل سويّ، ممّا يتركنا - أطفالًا كما كبارًا - على عتبة عالم جديد، تكون حاجتنا إلى المضيّ فيه حاجة إلى النضوج، أي إلى الاستيعاب العاطفيّ لتلك التغييرات لكي نتمكّن من مواكبة وجودنا الاجتماعيّ في العالم. هي التجربة المستمرّة للحياة الّتي تداهمنا عادة لأوّل مرّة في منتصف الطفولة، عندما نضطرّ إلى مواجهة قلقنا من العالم وتخطّي صداماتنا به بأنفسنا، تمهيدًا لتطوير وجود مستقرّ فيه ومعه.

في فيلم «ترويحة»* Spirited Away للمخرج اليابانيّ هاياو ميازاكي، تَعْلَق الطفلة تشيهيرو في عالم ’الأرواح‘ الّذي يقودها إليه والدها فضولًا عندما يتوهان في طريقهما إلى بيتهما الجديد، في مدينة جديدة تشكّل تغييرًا مقلقًا لتشيهيرو ذات العشرة الأعوام، الّتي تتمسّك عاطفيًّا بعالمها القديم، بما فيه مدرستها وأصدقاؤها ممّا يعيقها عن إيجاد نفسها في حياتها الجديدة. يكون الوجود في عالم الأرواح هذا مشروطًا بعقد يبيع فيه الكائن اسمه لساحرة تحكمه اسمها ’يوبابا‘، مقابل الحصول على عمل في حمّام عامّ Bathhouse للأرواح تديره تلك الساحرة.

تحاول تشيهيرو استرداد اسمها قبل أن تنساه وتفقد ذاتها، وإنقاذ والديها اللّذين تحوّلا إلى خنزيرين لأنّهما تناولا طعامًا مُعَدًّا للزبائن من الأرواح دون إذن. تلتقي تشيهيرو في رحلتها هذه بصديق اسمه ’هاكو‘، يملك قوًى سحريّة يوظّفها ليعمل مساعدًا لتلك الساحرة، فهو أيضًا باع اسمه ونسيه، لكنّه لسبب غامض يتذكّر اسم تشيهيرو. يصاب هاكو أثناء أدائه إحدى المهمّات الّتي كلّفته بها الساحرة، وهي سرقة كنز من أختها الساحرة ’زنيبا‘ الّتي تسحر الكنز بتعويذة تقتل من يسرقه، فتنقذه تشيهيرو بالحبّ، وهو القوّة الوحيدة الّتي تكسر تلك التعويذة. تسافر تشيهيرو مستجمعة قواها وشجاعتها لتعيد الكنز الذهبيّ إلى زنيبا، فيأتي بعدها هاكو متعافيًا ليحمل تشيهيرو معه إلى يوبابا لتستردّ والديها وتعود إلى بيتها في عالم البشر. في أثناء طيرانهما عائدَين معًا، تتذكّر تشيهيرو اسم هاكو الحقيقيّ، وهو نهر ’كوهاكو‘، وهو مفتاح فكّ تعويذة يوبابا الّتي استعبدته بها ليعمل عندها، فهاكو هو روح ذلك النهر الّتي ضلّت طريقها ولم تعد قادرة على العودة إليه، أي لم تعد قادرة على تذكّر ذاتها؛ لأنّ النهر جُفّف ودُمّر، وبنيت مكانه وحدات سكنيّة في عالم البشر، كما نعلم من تشيهيرو حينذاك.

 

 

عندما يحمل هاكو تشيهيرو لاسترداد والديها، تتذكّر قصّة ترويها لها والدتها عن طفولتها قبل أن تعي الدنيا، وهي وقوعها ذات مرّة في نهر كوهاكو، تنقذها مياهه من الغرق بحملها مجدّدًا إلى اليابسة وإلى والديها، كما يحملها الآن إليهما في عالم الأرواح. تشكّل تلك الذكرى مفتاحًا لفهم علاقة تشيهيرو بعالم الأرواح، وبالتالي عالمها أو وجودها ’الإنسانيّ‘ ككلّ؛ فهي تتمكّن من العودة إلى البيت وعبور الجسر من عالم الأرواح إلى عالم البشر فقط من خلال تذكّر علاقتها بروح النهر ومياهه، أي عندما تُردّ له قدرته على التواصل مع ذاته، كما ساعدها هو على تذكّر ذاتها طوال الوقت، فهو لم ينسَ اسمها قطّ. عندما دخلت تشيهيرو ذلك العالم الغريب لأوّل مرّة، غمرت المياه الجسر فور دخولها، مشكّلة محيطًا واسعًا لم تعُد قادرة على العودة إلى عالمها بسببه، إلّا بعدما حرّرت روح النهر من قبضة الساحرة المسيطرة، فيشكّل الماء في الفيلم عائقًا وطريقًا في الوقت ذاته. هو المادّة الّتي يعمل بها الحمّام الّذي تحكمه الساحرة؛ فالأرواح تأتي إلى الحمّام لتستحمّ وتتطهّر فتعود بعدها إلى بيتها، أي إلى شكلها في عالم البشر، أو "الوعاء الّذي تسكن فيه" بحسب ديانة الشنتو اليابانيّة؛ فمثلًا تزور الحمّام ذات مرّة روح ’نتنة‘، يتهرّب العاملون لدى الساحرة من تقديم الخدمة لها بسبب قرفهم منها، فيعطون تلك المهمّة لتشيهيرو الّتي تلتزم بتنفيذها لتكتشف أنّها روح ’نتنة‘ فقط لأنّها ملوّثة بالنفايات والخردة البشريّة، فتساعدها تشيهيرو على الاستحمام والتطهّر ليتّضح أنّها روح لنهر آخر أيضًا، لوّثه البشر فأفقدوه ’شكله‘ وقواه. ينطلق الزبون الّذي لم يعُد نتنًا بعد أن تطهّره تشيهيرو بالماء المعبّق بخلطة أعشاب تقليديّة، مسرعًا إلى بيته ووعائه، شاكرًا تشيهيرو على مساعدته للعودة إلى ذاته بهديّة – دواء - تساعدها على إنقاذ هاكو لاحقًا.

نضوج تشيهيرو إذن، أي قدرتها على اكتساب طريقة سويّة لمقاربة العالم وأدائها فيه، الّتي تتمثّل في قدرتها على العودة إلى عالمها، مقرون بممارسة معيّنة تجد في الماء طريقًا لمقاربة ’روحها‘ للعالم؛ فتشيهيرو تستعيد اسمها وعالمها عندما يستعيد هاكو أو النهر ’وعاءه‘؛ أي عندما تدرك اقتران روحها بعلاقة تبادليّة بالماء الّذي منحها قدرة الحياة طفلة وفي عالم الأرواح، بتذكُّر اسمها ومساعدتها لتجد طريقها فيه، الماء الّذي يشكّل طقسًا للطهارة في ديانة الشنتو، وطريقًا لمخاطبة الكامي Kami أو الأرواح المقدّسة في موجودات العالم الفيزيائيّ، الّتي تمدّنا بالقوّة ’الخلّاقة‘ لنتقدّم.

 

الشنتو أو طريق الكامي

لا تشكّل ديانة الشنتو اليابانيّة ’ديانة‘ كما تُفَهَمُ الديانة في سياقنا؛ فهي لا تتعارض عند الشعب اليابانيّ مع اعتناق ديانات أخرى مثل البوذيّة أو المسيحيّة، وتستند إلى ممارسة معيّنة في الحياة وللحياة تسمّى ’طريق الكامي‘[1]. والكامي أو ’الروح‘ - في ترجمة يتّفق اليابانيّون على أنّها غير دقيقة - هي تعبير عن قوى العالم الخلّاقة أو الموسوبي Musubi، الّتي تسري في كلّ الموجودات فيه وتربطها ببعضها[2]. الكامي هي ’الأرواح‘ اللا مادّيّة وغير المرئيّة الّتي ’تسكن‘ أشياء العالم المادّيّ، الّتي قد تشعرنا بالهول والرهبة مثل الجبال والغابات الشاسعة، والأنهار والعواصف وقوى الطبيعة المختلفة[3]، بل إنّ الكامي يمكن أن تكون أرواح الأجداد الّذين مضوا، أو تكون أشخاصًا أتقنوا وأبدعوا ممارسة ما، أو الحيوانات أو الثمار أو الأمراض، إلخ[4]. في معتقدات الشنتو، تحرس هذه الأرواح العالم متعاونة في ما بينها، وتعيش في تناغم لضمان استمراريّته، في حين يجب على الإنسان أن يحترم هذه القوى الكامنة، ويحافظ على أشكالها وأوعيتها الفيزيائيّة حتّى تستمرّ في ’عملها‘، ويستمرّ العالم في النموّ والتقدّم كما بطبعه، وهذه هي ممارسة "طريق الكامي" أو الأرواح بشكل عامّ[5]. إنّ تقديس الكامي في الشنتو هو طريقة للحفاظ على هذه العلاقة المقدّسة بين الأشياء في العالم، وطريقة للتواصل مع طاقة الموسوبي داخلنا بشرًا أيضًا، بإكمال الحلقة الّتي تسري فيها، ولهذا يؤمن اليابانيّون بوجود عدد لا يُعَدّ ولا يُحصى من الكامي[6]، تكون في غالبها محلّيّة؛ أي قد تسكن في شجرة معيّنة في قرية ما، أو في نهر مثل هاكو، صديق تشيهيرو وكامي نهر الكوهاكو، ومثل سائر زبائن حمّام التطهير الّذي تعمل فيه تشيهيرو.

 

من فيلم «Spirited Away»

 

يشكّل التطهير ’هاراي‘ Harae طقسًا مركزيًّا في ديانة الشنتو، يهدف إلى نزع التلوّث الروحيّ الّذي يقف بين الكائنات وبين تدفّق الطاقة الخلّاقة الّتي تسري فيها وتربطها بالعالم، أي الطاقة الّتي تجعلها كامي أيضًا[7]؛ فالإنسان يولد نقيًّا في ديانة الشنتو، بينما تُعتبر أفعال وممارسات مثل ارتكاب الجرائم والقتل وتلويث البيئة، أو حتّى عدم احترام الآخرين، ملوّثات روحيّة تفصل الإنسان عن نقائه، أي عن القوى الخلّاقة الكامنة فيه، وعن مضيّه في هذا العالم بتناغم معه، مثل تشيهيرو الّتي أنقذتها كامي النهر، أو المياه، في طفولتها المبكّرة بسبب نقائها وتناغمها الروحيّ معها ومع العالم، ثمّ فصلتها المياه عن العالم عندما بدأت تصطدم به عندما تغيّر مكان سكنها، حتّى نضجت وتعلّمت أن تعامل العالم بالاحترام والسلوك السويّ. يتمثّل التطهير في الشنتو في طقس شكليّ بالماء أمام المعابد، عادةً قبل الدخول إليها، والّذي تجب ممارسته للتواصل مع الكامي الساكنة فيها، والتقرّب إليها لطلب التوفيق في شيء ما في الحياة كالدراسة أو العمل[8]، بإتاحة المجال للتناغم الروحيّ مع الطاقة أو القوى الخلّاقة الّتي تحرّك العالم بالاحترام المتبادل؛ فالعالم في الشنتو مقدّس بروحه وأوعيته، فترى اليابانيّين يبنون محطّة قطار حول شجرة ما وليس مكانها احترامًا للكامي فيها[9]. لهذا يحرص ميازاكي على تقديم التطهير الروحيّ نهجًا للنضوج بشكل سويّ، وللتعامل مع مآزق القلق العاطفيّة الّتي يقع فيها الإنسان فتجعله يصطدم بالعالم، فيأتي الماء في الفيلم ثيمة أساسيّة، وميسّرًا أو عتبة لتقدّم ما.

 

التطهير طريقًا للكامي أو النضوج

عندما تبدأ تشيهيرو رحلتها إلى مدينتها الجديدة، تتذمّر من هذا التغيير طوال الوقت، حتّى تصل المدينة فيشير والدها إلى مدرستها الجديدة، فقط لترفع تشيهيرو رأسها من نافذة السيّارة، وتطلق للمدرسة لسانها تعبيرًا عن قرفها منها، أو ببساطة حركة تشير إلى قلّة احترامها لها، ورفضها لوجودها هناك برفض المكان. بعدها تعبر السيّارة من خلال ’بوّابة التوري‘ Tori، وهي بوّابة أماكن الشنتو المقدّسة الّتي تسكنها الأرواح[10]، لتلحظ تشيهيرو ’بيوتًا‘ صغيرة في كلّ مكان، تخبرها والدتها بأنّها "أوعية تسكنها الأرواح المقدّسة"، ليصلوا في نهاية المطاف إلى عالم الأرواح. وفي هذا إشارة إلى أنّ كلّ الأماكن تحوي قوّة خلّاقة مقدّسة، وعلى تشيهيرو أن تتعلّم احترام وجودها لكي تتمكّن من النضوج، أي يجب على تشيهيرو أن تتطهّر من قلّة الاحترام لمكانها الجديد كي تعيش فيه وتتقدّم؛ أي بطريقة الكامي. وهنا يبرز الماء عتبة لطقس التطهّر هذا الّذي يشكّل كلّ رحلة تشيهيرو في عالم الأرواح؛ فهي المياه الّتي تغمر الجسر، طريق تشيهيرو إلى ذاتها مشكّلة ذلك المحيط الّذي لا تستطيع عبوره، حتّى تكمل تشيهيرو أداءها في هذه الرحلة، وتنقّي روحها من التلوّث الّذي لوّح به قلق التغيير.

يقدّم ميازاكي رحلة النضوج/ التطهّر في العالم للأطفال كما للكبار، في فراغ الطقوس ’العتبيّ‘ Liminal؛ أي الّذي يتيح التغيير من خلال تعليق للذات السابقة ولأدوارها الاجتماعيّة القديمة، أو الانفصال عنها في عمليّة أدائيّة تتيح المجال لتقمّص أدوار جديدة، يكون إنتاجها من خلال هذا الفراغ الّذي يتعمّق فيه حسّ بالمجتمع والجماعة، لا تحدّه الفواصل والاختلافات الاجتماعيّة، فالإنسان موجود فيه لتأدية هذا الطقس وكماله[11]. بالرغم من صغر سنّ تشيهيرو إلّا أنّ عليها، في هذا الفراغ العتبيّ، الذهاب إلى يوبابا وطلب الوظيفة منها بشكل رسميّ، وتوقيع عقد بذلك، فتُعامل كعاملة يتوقّع منها أداء مهمّاتها دون اعتبار لقدراتها أو سنّها الّذي تتركه خلفها في عالم البشر، ويتّضح ذلك في إصرار يوبابا على إعطائها ’أصعب وظيفة‘ عندها، أو عدم قدرة لين، العاملة المسؤولة عنها، على إيجاد ملابس عمل على قياس تشيهيرو الصغيرة والضئيلة الحجم.

 

من فيلم «Spirited Away»

 

كما يدرك ميازاكي أنّ مسار الالتزام بالأداء وعدم الانحراف عنه وتلويث ’روح‘ المهمّة، أي أداء طقس التطهّر للنضوج، الّذي يأتي في حالة تشيهيرو على شكل الالتزام بأداء عملها رغم صعوبته، واسترداد ذاتها بطريقة لا تتصادم فيها مع ذوات غيرها؛ مسار يمتلئ بالصعوبات والمغريات الّتي تحرف الروح عن طريقها، وقد أصبحت حال العالم اليوم؛ فحتّى ’عالم الأرواح‘ الّذي من المفترض أن يكون ’نقيًّا‘ يمتلئ بالتلوّث. عندما يصلون إلى المكان، بداية ينوّه والد تشيهيرو بأنّ هذا المكان ’مزيّف‘، أي أنّه ليس معبدًا قديمًا بل يخمّن أنّه "مدينة ملاهٍ مهجورة" بثيمة معبد. وقد تكون هذه إشارة من ميازاكي إلى اليابان، البلد الّذي ضلّ طريقه، و’استُعمرت‘ روحه لتتلوّث ويبقى منها ظاهرها ’التقليديّ‘ فقط؛ فالسيّارة الّتي تركبها العائلة هي من شركة ’أودي‘ الألمانيّة الّتي تُعتبر فخمة، بينما تشتهر اليابان بشركات السيّارات المحلّيّة، ولكنّه غرّق اليابان في الاستهلاك والأيديولوجيّات الاستعماريّة السائدة الّذي لوّث روحها هكذا.

 

الرأسماليّة في عالم الأرواح

تحكم آفة الحداثة والرأسماليّة والاستعماريّة عالم الأرواح أيضًا، فيوبابا ساحرة جشعة تهتمّ فقط بتجميع الذهب من الأرواح مقابل استحمامها، فقد اجتاحت هذه الملوّثات حتّى عمليّة التطهير ذاتها، الّتي لم تعُد تكترث حتّى للكامي، وتعيش يوبابا في الطابق العلويّ المصمّم داخليًّا على الطراز الغربيّ، بخلاف سائر المبنى اليابانيّ التقليديّ. بل تحكم هذا العالم كلّ الاختلافات والفوارق الاجتماعيّة والطبقيّة الّتي من المفترض أنّها تتنحّى جانبًا في فراغ التطهير العتبيّ، ليتاح إعادة تشكيل العالم بخلافها؛ فكما تكتب زوي كرومبي يعرض الفيلم ثيمات طبقيّة ورأسماليّة وجندريّة في مواضع عدّة، مثل توحيد ’فصيلة‘ العاملين في وظيفة معيّنة؛ فالرجال الّذين يشكّلون ’مدراء‘ يشبهون بعضهم ويرسمون كالضفادع، بينما تشتغل الإناث في التنظيف، ومثل طلب تشيهيرو الحصول على عمل في هذا المكان في الطابق السفليّ، بينما تسكن يوبابا في أعلى طبقة[12]. يعرض الفيلم كيف تتشكّل قيمة الإنسان حتّى في عالم الأرواح، بقدرته على العمل فقط، أي إفادة المنظومة الملوّثة؛ فعندما تصل تشيهيرو يقرف الجميع من رائحتها لأنّها ’بشريّة‘، حتّى تبدأ بالعمل فتزول، ويحوّل جميع البشر غير العاملين إلى خنازير تُرمى في الحظائر حتّى تؤكل.

تكتب كرومبي أيضًا عن تقاطع الماركسيّة والنسويّة في الفيلم، فتقول: "يمكن اعتبار «ترويحة» فيلمًا من الفئة C بمفهوم ماركسيّ … أي فيلمًا يعمل "ضدّ التيّار" بأسلوبه، دون أن يكون محتواه سياسيًّا بشكل مباشر"، بل يصبح كذلك من خلال تحليله ونقده"[13]، وتلك هي بالضبط أدائيّة طقس التطهير الشنتويّ الّتي يطبّقها الفيلم. يتجسّد أسلوب الفيلم التخريبيّ هذا، أو المجابه لما يؤطّره، تلوّثًا روحيًّا في شخصيّة تشيهيرو الّتي لا تهتمّ للجري وراء الذهب مثل الباقي، أو صعود سلّم الرتب في مكان العمل، بل يبقى تركيزها منصبًّا على أداء مهمّتها الروحيّة وهي استرداد اسمها ووالديها، إضافة إلى كونها فتاة ضئيلة الحجم ذات بنية تشبه الصبيان إلى حدّ ما، وملامح أكثر ’خنثًا‘ منها ’أنوثة‘، كما تصفها كرومبي؛ أي أنّ شكلها هو مجابهة للتنميطات الجندريّة، وتركيز على أدائها لا على المتوقّع منها، بحسب الأيديولوجيّات السائدة، فهو يحرف النظرة عليها إلى النظرة إلى العالم من منظورها[14].

يصبح منظور تشيهيرو منظورًا يحيّد عمليّة التلوّث الروحيّ بذاتها عن العالم، الّذي يتّضح في تفاعلها مع شخصيّة الوحش ’عديم الوجه‘، والّذي يأتي إلى تشيهيرو أثناء عملها فتتيح له العبور إلى الحمّام كي "لا يبقى وحيدًا في الخارج". ’عديم الوجه‘ هو وحش أسود ليس لديه أيّ أطراف أو ملامح أو هويّة واضحة، ويرتدي قناعًا بوجه محايد التعبير، ويشبه إلى حدّ ما ملامح تشيهيرو غير ’المجندرة‘، وهو لا يستطيع الكلام بل يهمهم حتّى يلتهم أحد الضفادع العاملة هناك، "فيكتسب لغته وصوته وجشعه"[15]، متطبّعًا بأيديولوجيّاته. يكبر ’عديم الوجه‘، ويزيد جشعًا بإغراء العاملين والعاملات بالذهب مقابل تقديم الطعام له، أي أنّه يكبر بجشعهم حتّى تبقى تشيهيرو الكائن الوحيد الّذي لم يجترّ منه الجشع. فكأنّ ’عديم الوجه‘ يمثّل الفرد أو الكائن الّذي يتلوّث من تلوّثنا، الطفل الّذي يبدأ صفحة فارغة لا تتكلّم ثمّ ينمّي روحًا ملوّثة بسبب أنظمة العالم وأيديولوجيّاته الملوّثة، أو أنّه يجسّد روح العالم الملوّثة، الّتي تستمدّ تلوّثها من تلوّث تلك الممارسات الّتي نشكّله بها؛ فعندما يطلب ’عديم الوجه‘ تشيهيرو، وترفض ذهبه الّذي يغريها به، يجنّ جنونه، فتتحمّل تشيهيرو مسؤوليّة إدخاله إلى المكان وتطبّعه بالجشع فيه؛ أي تحييد التلوّث الّذي يجلبه إليه فتطعمه من الدواء الّذي أهدتها إيّاه روح النهر، بعدما حرّرتها من نتانتها؛ دواء يطهّر معدته ويجعله يتقيّأ كلّ ما التهمه، بما فيه من التهمهم من العمّال والعاملات، وبذلك يعيد ذوات المكان إليه.

 

من فيلم «Spirited Away»

 

يتطبّع ’عديم الوجه‘، إذن، بسلوك تشيهيرو الّتي أدخلته ثمّ طهّرته، فتصحبه معها في رحلتها على متن القطار الّذي يعبر المحيط، لتعيد الكنز الذهبيّ إلى الساحرة زنيبا وتنقذ حياة هاكو. تجد تشيهيرو الشجاعة لعبور المياه لإنقاذ صديقها الّذي ساعدها منذ وصلت إلى هذا العالم، فتركب القطار معطية ’عديم الوجه‘ التذكرة الّتي تحتاج إليها للعودة، إذ تدرك أنّها قد لا تتمكّن من العودة إليه كما تركته، فكأنّ التطهير الّذي تؤدّيه تشيهيرو لذاتها وروحها هو ذاك الّذي يصحب معه تطهيرًا للعالم بأكمله، المتمثّل في ’عديم الوجه‘ الّذي يشكّل بداية جديدة. تسافر تشيهيرو عبر المياه متخلّية عن وجودها ودورها الاجتماعيّ في الحمّام، ومنصتة فقط إلى الحسّ الجمعيّ، إنقاذ صديقها ومساعدة ’عديم الوجه‘ الّذي يمثّل روح العالم، مصطحبة معها أيضًا طفل يوبابا الّذي حوّلته زنيبا إلى فأر ليستعيد هو شكله أيضًا؛ فتأخذهم تشيهيرو إلى الساحرة زنيبا، أخت يوبابا التوأم الّتي تشبهها شكلًا إلّا أنّها بخلافها تعيش حياة بسيطة في بيت ريفيّ، وتعامل الجميع بلطف، فهي تطلب من تشيهيرو أن تناديها ’جدّتي‘. هناك تعطي تشيهيرو ’عديم الوجه‘ بيتًا جديدًا في رعاية ’الجدّة‘ لكي يساعدها، وكأنّها تعيد ’روح العالم‘ إلى طريق أنقى وأفضل، فزنيبا هي نسخة يوبابا المطابقة شكلًا والأنقى روحًا.

بهذا يكتمل طقس النضوج الّذي تؤدّيه تشيهيرو؛ فزنيبا تنسج لها وبمساعدة أصدقائها ربطة شعر تحميها، مصنوعة بالحبّ، وهي إشارة إلى وصول تشيهيرو إلى تلك النقاوة الروحيّة الّتي تربطها بالكامي وقوى الموسوبي في العالم. فقد تشكّلت ذاتها الجديدة، روحها الطاهرة، من أداء يحمل معها كلّ من حولها إلى التقدّم وإيجاد ذواتهم، وليس فقط ذاتها، وهو التلوّث الّذي يرمز إليه الجشع في الفيلم. آنذاك، يصل هاكو متعافيًا ليحمل تشيهيرو إلى يوبابا، وتتذكّر تشيهيرو اسمه الحقيقيّ، وهو نهر الكوهاكو الّذي ذكرنا سابقًا، وهذا إشارة إلى عودة تشيهيرو إلى طريقة الكامي، الّتي تصغي فيها وتنصت إلى كلّ الموجودات؛ فهي تدرك أنّ هذا التناغم هو الّذي أنقذ حياتها مرّة وعليها أن تردّ إلى كامي النهر هذا الاعتراف، بتذكيرنا باحترام دور كلّ الموجودات في هذا العالم، مثل النهر والبيئة والبشر وغيرهم.

يمنح هذا النضوج تشيهيرو القدرة على تخطّي امتحان يوبابا الأخير، وهو التعرّف على والديها من بين الخنازير، وتنجح فيها تشيهيرو لأنّها الآن متّصلة بجميع القوى الخلّاقة في العالم. بهذا تختفي المياه من الجسر وتنجح تشيهيرو في العودة إلى عالمها، مع ثقة بأنّها تستطيع التعامل مع مدرستها وحياتها الجديدة، كما تصرّح عندما يسألها والدها في آخر لقطة. وهو النضوج الّذي يعلّمنا إيّاه الفيلم في التعامل مع التغييرات المستمرّة في الأشياء والناس حولنا، والّتي تشكّل لنا صدمة عاطفيّة في البداية، فيشدّد الفيلم على أنّ كلّ تغيير في شكل - أو وعاء - شيءٍ ما، له علاقة مباشرة بروحه ووجوده، ويجب علينا احترامه بما لا يعيقه لأنّ إعاقته ستعيقنا نحن أيضًا، فالعالم يتقدّم فقط بتقدّم كلّ ما فيه؛ فقد ينقلنا والدانا إلى مدينة جديدة بسبب ظروف عمل أو حياة، أو يكبر الأبناء ليطوّروا أشكالًا مختلفة عن توقّعاتنا منهم، مثل هويّات جندريّة مختلفة أو مسار مهنيّ مختلف عن عالمنا؛ فيعلّمنا ميازاكي أنّ كلّ وعاء هو تمثيل لروح لا بدّ أن تسكنه، وتمثيل لقوّة خلّاقة ستقدّم العالم فقط بالشكل الّذي يلائم روحها، بالتالي علينا أن نضع جانبًا كلّ الجشع الّذي قد يحدّ غيرنا من التقدّم إذا ما خفنا نحن من تغييراتهم؛ فينبغي أن نضع جانبًا تحيّزنا إلى العوامل والفوارق الاجتماعيّة السائدة، ونخوض تجربة التواصل مع تلك التغييرات منصتين فقط إلى حسّ يجعل تقدّمنا تقدّمًا لكلّ ما حولنا أيضًا؛ أي يضمن لكلّ فرد ولكلّ شيء ذاتًا تلائم روحه.

 


إحالات

* ترجمة بديلة لـ ’المخطوفة‘ من جوان صفدي.

[1] Cogito. “What Is Shinto?”. September 23 2021. https://www.youtube.com/watch?v=mX8cz1LEeXw&t=613s.

[2] Ibid.

[3] Ibid.

[4] Ibid.

[5] Ibid.

[6] Ibid.

[7] Ibid.

[8] Ibid.

[9] Ibid.

[10] Ibid.

[11] Boyd, James, and Ron Williams. “Artful Means: An Aesthetic View of Shinto Purification Rituals.” Journal of Ritual Studies 13, no. 1 (1999): 37–52. http://www.jstor.org/stable/44368553.

[12] Crombie, Zoe. “Spirited Away’ and the Intersection Of Feminism And Marxism”. Screen Queens.

[13] Ibid.

[14] Ibid.

[15] Ibid.

 


 

حنين عودة الله

 

 

 

مخرجة وكاتبة فلسطينيّة مهتمّة في التحليل الثقافيّ والفلسفة والسينما والثقافة الشعبيّة والبديلة. حاصلة على شهادة الماجستير في «التحليل الثقافيّ المقارن» من «جامعة أمستردام».