«حمّى البحر المتوسّط»... الذكورة المأزومة

الممثّل عامر حليحل، المخرجة مها الحاجّ، الممثّل أشرف فرح

 

عندما ترسم امرأة بحروف اللغة العربيّة، وبلهجة حيفا المحكيّة الجميلة، رجلين بهذه الدقّة والإحساس، لا بدّ من أن يحصد النصّ جائزة أجمل سيناريو في مهرجانات العالم، وكان أوّلهم «مهرجان كان» بدورته الخامسة والسبعين لعام 2022 في فرنسا.

مها الحاجّ، الكاتبة والمخرجة النصراويّة خطّت لهذا العالم سيناريو فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)، وهو ثاني أعمالها السينمائيّة بعد فيلم «أمور شخصيّة» (2016)، الّذي وصل هو أيضًا إلى صالات العرض في «مهرجان كان»، وكان مرشّحًا للفوز في عام 2016.

كم كنت سعيدة عندما منحني الحظّ فرصة مشاهدة الفيلم، رغم أنّه لمّا يُعرض في البلاد بعد. تحدّثت طويلًا مع المخرجة المحتفلة بفوزها المستحقّ، وكان لا بدّ لي من أن أسمع أبطال الفيلم مباشرة بعد هذه التجربة الفريدة سينمائيًّا، وتلك الإضافة الرائعة إلى رصيد السينما الفلسطينيّة.

ارتكز العمل على هذه الثلاثيّة النادرة، وتلك التوليفة المتناغمة الّتي شكّلتها مها الحاجّ، مع بطليها الموهوبَين عامر حليحل وأشرف فرح، وكانت ثمرتها 110 دقائق من الابتسامة، والغصّة، والضحكة، والدمعة، من الدراما والتراجيديا الساخرة.

 

«حمّى البحر المتوسّط»

يروي فيلم «حمّى البحر المتوسّط» بحساسيّة متناهية قصّة رجلين من تلك المدينة الساحليّة حيفا، وليد (عامر حليحل)، موظّف مصرفيّ سابق في الأربعينات من عمره، متزوّج وأب لطفلين، قرّر تحقيق حلمه والتفرّغ لكتابة روايته الأولى، ترك عمله واستقراره المادّيّ في البنك، وغرق في محاولاته بناء مستقبله كاتبًا روائيًّا محترفًا ومتفرّغًا. وجد هذا الرجل الحالم نفسه يغرق في صفحات من البياض أمام شاشة الحاسوب، يعاني من اكتئاب مزمن وعجز تامّ أمام لوحة المفاتيح الّتي كانت ستفتح له أبواب الشهرة والمجد، وتحقيق الذات التائهة، وتفتح معها أفقًا جديدًا لحياة بلا اكتئاب ومعاناة.

 كانت رواية وليد هي الولادة المنشودة لحياة رجل فلسطينيّ سعيد في هذا البلد المنكوب، حياة هو يختار ملامحها وتفاصيلها، ولم ترسم مسارها له والدته أو زوجته، وتوقّعات المجتمع من الرجل العربيّ المتوسّطيّ الّي تحدّد له معنى السعادة. لكنّ ولادة روايته تتعسّر وتنسل من بين أصابع وليد حرفًا تلو الآخر؛ فلا تخرج منه الكلمات والفقرات، ولا ترى فصول حكايته النور.

مع بقايا الطاقة عنده، يقوم هذا الرجل بكلّ أعمال المنزل، ومراعاة أطفاله وشؤونهم اليوميّة على أكمل وجه، بينما تعمل زوجته الممرّضة ساعات طويلة في المشفى، وتعيل أسرتها، وتموّل مصاريف علاج زوجها النفسيّ بكلّ رضًا، عسى زوجها أن يعود إليها يومًا. 

هذه الرتابة والروتين القاتم، يخترقهما ذاك الجار الجديد الثقيل على البناية الوادعة المشرفة على البحر. جلال (أشرف فرح) عامل متعدّد المواهب، يتقن أعمال الترميم والبناء والصيانة وغيرها، يعمل مقاولًا مستقلًّا، ويتّضح رويدًا رويدًا أنّه محتال ومجرم يحوم في دوائر الجريمة الواسعة البعيدة عن رأس المنظومة المخيفة. يقبع في أطراف ذلك الأخطبوط، وستنتهي صلاحيّاته يومًا ما قريبًا.

يقضي جلال معظم وقته في المنزل كما يفعل وليد تمامًا، لكنّ جلال، على عكس وليد، يسعى إلى الحصول على لحظات قصيرة من السعادة والبهجة غير المبرّرة دومًا، يسمع موسيقى صاخبة وراقصة، يشرب الخمر تارة، ويحتسي القهوة تارة، ضاربًا بقضايا كثيرة وهموم أكبر عرض الحائط، وأحيانًا يفرّغ أعباءه في حضن عشيقته السرّيّة دقائق عابرة؛ ليعود إلى أعماله المشبوهة في هذا العالم من جديد.

بينما يصرّ وليد على أن يحمل على كتفيه تاريخ مدينته، ويسعى بكلّ جوارحه إلى إحياء ذكراها قبل النكبة، في ما يكتب أو يعمل أو يربّي ابنته وابنه الّذي يعاني كما يبدو من أعراض حمّى البحر المتوسّط، تواجه كتلة الرجولة الوطنيّة والمكتئبة تلك، جارًا مثل جلال، لامباليًا، مستفزًّا، مستخفًّا بذاك النوع من المثقّفين أمثال وليد (تعون فلسطين)، ممّن يرفضون التخلّي عن شارع الجبل بمسمّاه قبل النكبة لصالح شارع ’التسيونوت‘ بعد الاحتلال. أولئك الّذين يتّهمون كلّ العالم بضياع فلسطين بجهلهم وسخافتهم وخيانتهم للوطن المسلوب. فكيف يتحوّل هذا اللقاء بين نقيضين من الرجال لقصّة صداقة عميقة وحقيقيّة؟

 

من فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

 

رجال عاديّون في كلّ مكان

تكتب مها الحاجّ قصّة تجاذب هذين الرجلين الواحد لعالم الآخر، وتجارب حياتهم بطريقة عبقريّة، بعيدًا عن الصخب والمفرقعات السينمائيّة. إذ تجعل المشاهد يتعلّق بهذين الرجلين ويقع في حبّهما، وينتظر منهما بشغف القصّة تلو القصّة، المشهد بعد الآخر، فتتحوّل المشاهدة إلى تجربة حياتيّة فريدة، تتوق بها النفس إلى بسمة لطيفة بين عبارات جلال الساخرة اللاذعة، وتتعاطف مع وليد وحزنه واكتئابه. ليس لك خيار كمشاهد ألّا تشعر بالرحمة والغضب ممزوجًا بالتماهي الصادق مع رجل طيّب، أب حنون وابن مسالم يملك في الحياة كلّ ما يجب أن يجعله راضيًا وسعيدًا، لكنّ ظلال مدينته حيفا وأحلامه تثقل حمله، وتهوي به في ظلمات الاكتئاب. 

فازت مها الحاجّ بجائزة أجمل سيناريو؛ لأنّها فعلًا بنت صروح هذه القصّة الإنسانيّة حجرًا حجرًا بطريقة بسيطة وذكيّة، بهدوء البدايات وثباتها، ثمّ نسجت حول الأبطال طبقات من الحوارات والمواقف الحياتيّة والتقاطعات الباسمة الباكية بين الشخصيّات؛ فتسارع بنا الحبكة لنصل معًا إلى ذروة تلك العلاقة بين هذين الصديقين العجيبين؛ إذ يقرّران مواجهة هذا العالم، وحلّ مشاكلهم جملة وتفصيلًا. 

للوصول إلى خطّ النهاية؛ قرّر البطلان تنفيذ مخطّط جريء وخطير معًا، والواحد من أجل الآخر، لكنّهما معًا. تقودنا أحداث الفيلم إلى لحظة البعث المرتقبة، ويخفق القلب من أجلها حتّى آخر لحظة.

سألت مها بعد العرض: "كيف تكتب امرأة بهذا القدر من الروعة والدقّة عن الرجل الفلسطينيّ؛ عن عوالمه المجهولة؛ ضعفه وأزماته النفسيّة؟ وكيف عرّيت أبطالك أمامنا فترجّلوا من مواقع النضال والمقاومة، وصولًا إلى العجز والمعاناة النفسيّة من الاكتئاب ورهاب الأماكن المغلقة، وغيرها من الأمراض النفسيّة؟". أجابت مها: "لسنا بحاجة إلى المزيد من ذلك النوع من الرجال العرب في السينما، لست بحاجة إليهم لكي أحكي قصّة هذا البلد، هذه المدينة، وما حدث لشعب كامل فيها. لقد اخترت لقصّتي رجالًا عاديّين موجودين في كلّ مكان في حياتنا، وليس لهم مكان في صناعة الأفلام وقصص البطولات الفلسطينيّة، أو قصص القمع والقهر والاحتلال، لقد اخترت أن أكتب قصّة أيّ رجل فلسطينيّ، يعيش في الداخل، يعاني نفسيًّا من مرض يثقل على صدره ويمنع منه السعادة. وليد إنسان بحاجة إلى العلاج، كما تحتاج فلسطين إلى العلاج، وليس بالضرورة أن يمثّل كلّ رجل فلسطينيّ على هذه الأرض. إنّه يبحث عن الراحة العميقة، ولا يفهم معاناته أحد، زوجته لا تدرك كم هو مخنوق، وتحلم وحدها أن تنجب منه المزيد من الأطفال لتكبر عائلتها، وهو يعتبر إنجاب المزيد من الفلسطينيّين لهذا العالم مسؤوليّة كبيرة هو غير قادر على تحمّلها، رغم أنّه الوحيد الّذي يستطيع علاج أعراض حمّى البحر المتوسّط الّتي يعاني منها ابنه. أردت أن أعطي هذا الرجل ثوبًا آخر، إنسانيًّا حسّاسًا وواقعيًّا، ووليد موجود في كلّ مكان حولنا، وكم من الرجال بحاجة إلى مساعدة في مجتمعنا".

أمّا عن جلال فتقول: "هو ذاك الرجل الّذي لا يعترف بضعفه، ولا يظهر مشاعره وأفكاره، بالمحصّلة هو لا يختلف كثيرًا عن وليد رغم تورّطه في عالم الإجرام، والابتعاد عمّا هو وطنيّ وسياسيّ. تُفاجِئنا به جوانب عميقة في شخصيّته مثل عشقه وشغفه بالشعر العربيّ القديم، احترامه لوالدَي وليد اللطيفين اللذين حُرم منهما، وتقديره العميق لمنظومة العائلة والبيت، عشقه وتعلّقه بتلك الحبيبة الوفيّة، وبناء حياة مثاليّة خياليّة معها سرًّا. ذاك الرجل العنيف القويّ من الخارج، يملؤه الحبّ والدفء والرومانسيّة والإخلاص اللامتناهي لصديق بحاجة إليه".

تتحدّث مها الحاجّ الّتي وُلِدَت عام 1970 في مدينة الناصرة المحتلّة، عن رحلتها في كتابة هذا النصّ الجميل: "لقد فكّرت طويلًا في الشخصيّات، في المواقف، ورسمت في خيالي معالم أبطال القصّة، لقد فكّرت بهم طوال عام كامل، وكتبتهم بسرعة، لقد كان السيناريو جاهزًا خلال شهر واحد فقط؛ لأنّهم قبعوا في مخيّلتي طويلًا، فنضج العمل وخرج للنور. بعد تجربتي الأولى في فيلم «أمور شخصيّة»، فهمت أصعب مراحل إنتاج أيّ عمل سينمائيّ جيّد، إنّه البحث عن التمويل، لقد قرّرت أنّ فيلمي هذه المرّة لن يكون له أيّة علاقة بتمويل إسرائيليّ. لقد كان قرارًا حاسمًا، بعد تجربة سهى عراف في «ڤيلا توما» وقضيّة تمثيل إسرائيل في مهرجانات العالم، قرّرت أنّي أريد فيلمًا فلسطينيًّا بحتًا لا تثقل كاهله أيّ أسئلة واستجوابات وإحراجات. لقد قرّرت أنّ فيلم «حمّى البحر المتوسّط» لن يقف أمام وصوله العالم العربيّ، ومنصّات العالم، وصمة أنّه من ’إنتاج إسرائيليّ‘، لا أريد أن أكون جزءًا من هذا النقاش في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ هنا، يتربّص بنا النقّاد والمزاودون في كلّ زاوية، نختم مخرجين وفنّانين ضحايا على عقود المؤسّسات المموِّلة لتضمن إدراج الفيلم تحت اسم من إنتاج إسرائيل". 

 

 

إشكاليّات التمويل

لقد استمرّ مشروع ضمان التمويل أربع سنوات؛ لتكون المحصّلة أنّ الفيلم من إنتاج فلسطينيّ فرنسيّ ألمانيّ قبرصيّ قطريّ مشترك، إلى أن يتحقّق حلمنا المشترك (أنا ومها ومعنا كُثر)؛ بإنشاء صندوق عالميّ لدعم الثقافة والسينما الفلسطينيّة، سيبقى أيّ عمل فنّيّ ثقافيّ يروي فلسطين الّتي نريد، يواجه تحدّيات التمويل والوصاية، في حين يرغب العالم في دعم فلسطين اقتصاديًّا واجتماعيًّا.  

تقول الحاجّ: "لأنّ مكان الفنّ يضيق عندما تُقصف غزّة، ويُقتل الأطفال أو يموتون جوعًا، وتُهدم بيوتهم، توجد أولويّات في مجتمعنا، وهي لا تشمل بناء مسارح ودور عرض، أنا أفهم ذلك، لكنّ معركتنا على الرواية الفلسطينيّة مهمّة أيضًا، وهناك قد نفوز فعلًا".

تروي لي مها بألم شديد عن اليوم التالي للفوز، وما يخبّئه المستقبل لهذا الفيلم الّذي يستحقّ أن يُعرض في كلّ مكان: "كيف أستطيع إحضار قصّتي الجميلة هذه للفلسطينيّين في إسرائيل، وفي غزّة، والضفّة الغربيّة؟  قد يكون حظّ الفلسطينيّ في الشتات أوفر لمشاهدة الفيلم من جمهوري في بلدي". 

وتكمل: "نعم، أنا أريد أن يشاهد اليهوديّ في كلّ مكان فيلمي، ولا أعتقد أنّ كبار شركات التسويق في إسرائيل مثل Planet and Hot ستتهافت لشراء حقوق العرض، وقد تصيبها حمّى البحر المتوسّط بعد مشاهدته، ومع ذلك سأجوب مع الفيلم في المراكز الجماهيريّة في البلدات العربيّة والجمعيّات الّتي ستدعونا إلى العرض، لكن ألا يستحقّ المشاهد الفلسطينيّ في البلاد، دار سينما عصريّة وقصرًا ثقافيًّا، يستمتع به بعمل سينمائيّ بالصوت والصورة بجودة عالية؟ للأسف قد يصل حمّى البحر المتوسّط دور العرض في عواصم ومهرجانات العالم، ويكون يتيمًا في بلده فلسطين".

 

من يكون الفلسطينيّ؟ 

لا شكّ في أنّ ركيزتَي هذا الفيلم الساحر هما الثنائيّ عامر حليحل وأشرف فرح، وكلاهما يصف صداقة وليدة كواليس التصوير، رغم المعرفة القديمة بيهما، لكنّهما لم يجتمعا في عمل سابق، وقد تحوّلت تجربة العمل إلى مشروع صداقة في الواقع.  

أشرف فرح الّذي وُلِدَ في حيفا عام 1974، ممثّل قدير، بدأ مشواره الفنّيّ راقصًا في «فرقة سلمى  للفنون»، هناك وُلد عشقه للمسرح والجمهور. تعلّم المحاسبة والتصميم المعماريّ، لكنّه أنهى دراسته  في الفنون المسرحيّة والتمثيل. اشترك أشرف فرح في العديد من الأعمال المسرحيّة والأفلام في البلاد، ثمّ بدأ مغامرة العمل الفنّيّ في العالم العربيّ. كانت عمّان نقطة الملتقى؛ حيث عمل مع كبار الفنّانين من سوريا ولبنان والأردنّ ومصر. حلم فرح أن يبني جسرًا فنّيًّا بين فلسطين والعالم العربيّ، وبعد سنوات من المحاولة والإنجازات الكثيرة وخيبات الأمل الأكثر، وصل إلى نقطة الفصل؛ الحاجز الأكبر أمام هذا التواصل اسمه إسرائيل؛ فذاك المخرج يعتبره فلسطينيًّا، بينما المنتج لا يعجبه جواز السفر الإسرائيليّ.

يحدّثنا أشرف: "إلى متى يستطيع الفنّان تحمُّل هذه الهزّات والرضّات من هنا وهناك، وفي كلّ مرّة عليك أن تشرح من أنت، وكيف آلت بك الحال إلى هنا، بينما تدرك أنت أنّ هويّتك واضحة، وأنّ الواقع السياسيّ للفلسطينيّين في إسرائيل مختلف عن أيّ مواطن في العالم؟ لقد قرّرت العودة مع هذه البقجة المحمّلة بالتجارب والأعمال الفنّيّة والإنجازات إلى بلادي، وقرّرت المحاولة من جديد هنا".

اختير أشرف لدور جلال بحكمة شديدة؛ فهو ابن حيفا بسمرته، ولهجته، وحركاته، ونظراته، وعلاقته ببحره المتوسّط. يقول فرح: "عندما قرأت النصّ، أحببت شخصيّة جلال، وقرّرت أن أتحدّى نفسي بها فنّيًّا، لم أفهم لماذا تجمع الكاتبة في رجل واحد كلّ هذا الشرّ، بينما وليد يمثّل النقيض، كلّ النقيض. جلال هو العاطل من العمل الاتّكاليّ العنيف والخائن زوجته، علاوة على أنّه متورّط في عالم الإجرام، ربّما كان يجب أن توزّع هذه الكمّيّة من الصفات على غير شخصيّة، قلت لنفسي. لكنّي قرأت المزيد من المشاهد، وتعرّفت خفايا هذا الرجل وجماله الداخليّ المختفي بقشور القسوة والرجولة الزائفة، لقد قرّرت أنّني سألعب دور جلال، وأرتقي به إلى مكان يُخرج منّي قدرات لمّا أعرفها بعد، ربّما تعطي جمهور المشاهدين نظرة أعمق للتأمّل بهذا الرجل وعوالمه". 

 "أعتقد أنّك نجحت"، أليس كذلك؟ قلت، فأجابني: "للمشاهد أن يقرّر، أرجو أنّي فلحت في مهمّتي". وهنا سألت المخرجة: "كان أشرف بمنزلة الملح والفلفل للعمل، لاذع وضاحك، شخصيّة بسيطة للوهلة الأولى، ومركّبة جدًّا في أعماقها. من أين أتيت به؟". "فعلًا، كان جلال بمنزلة المحرّك في هذا العمل، ولم يكن سهلًا العثور عليه، بخلاف شخصيّة وليد الّتي كتبتها لعامر حليحل، ولم أفكّر في غيره. أمّا جلال فقد أجريت اختبارات أداء عدّة لممثّلين له، وعندما شاهدت مشهدًا واحدًا مع أشرف قرّرت أنّه هو الشخص المطلوب، ومع المزيد من المشاهد تأكّدت أنّ حدسي صادق، وأنّ قراري سليم جدًّا".

 

عامر حليحل وأشرف فرح من فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

 

قلب الأدوار الجندريّة

أمّا الفنّان عامر حليحل فصنع شخصيّة وليد، وهي باكورة أعماله في دور البطولة في هذا الفيلم، بعد دوره القصير في فيلم الحاجّ الأوّل، وصل حليحل إلى الدور الرئيسيّ في الفيلم وفي جعبته العشرات من الأعمال المسرحيّة والأفلام القصيرة. كان لي معه حديث طويل حول هذه المحطّة المفصليّة في مسيرته الفنّيّة الغنيّة.

 

كانت خطواتك واثقة على البساط الأحمر في «مهرجان كان»، فما شعورك في ما يبدو لي إنجازًا رائعًا، أي البطولة السينمائيّة الأولى؟

حليحل: لم يكن أمرًا سهلًا على الإطلاق، شعرت بأنّ المسؤوليّة كبيرة جدًّا؛ لم أستطع التأمّل بنفسي وأدائي على هذه الشاشة الضخمة لأوّل مرّة، لم أشاهد الفيلم من قبل، وكانت مشاعري قويّة ومربكة جدًّا أثناء المشاهدة، ولا أعلم إذا كنت توفّقت فعلًا!

 

لا شكّ في أنّك أبدعت، ألا تعتقد؟

حليحل: لا، لمّا أبلغ الإتقان بعد، وعلى الممثّل أن يبحث في نفسه وطاقاته، ويتحدّى نفسه في كلّ عمل من جديد. عندما أكتفي بالتطوّر ممثّلًا، عليّ أن أسدل الستار وأغيّر مهنتي.

 

لقد أنهيت العمل، وانتهى العرض الافتتاحيّ، آراء النقّاد مشجّعة جدًّا، يحقّ لك أن تحتفل عزيزي، لا تقسُ على عامر حليحل إلى هذا الحدّ...

حليحل: في الحقيقة، أنا أشبه وليدًا جدًّا، وأشعر به مثل رجال كُثر في أربعينات العمر، أفكّر وأتأمّل وأتساءل حول ماهيّة وجودنا هنا. ومستقبلنا كشعب في البلاد المسلوبة. أنت تدركين عن أيّ نماذج الرجال أتحدّث، ذاك العربيّ المتعلّم، الّذي ترعرع في حضن عائلة عاديّة دافئة ومحبّة، ذاك الشابّ الواعي سياسيًّا ووطنيًّا يسير بهدوء في السلم المهنيّ والأسريّ والاجتماعيّ الّذي خطّط له مسبقًا، حتّى يصطدم بجدار الاكتئاب والوحدة والتعاسة. ما المساحة الّتي يعطيها مجتمعنا لرجل يعاني من مرض نفسيّ، ولا يشرّع له الاستغاثة وطلب العون؟ أذكر عندما قرأت النصّ لأوّل مرّة، دُهشت به، كيف كتبته امرأة بهذه الشفافيّة والدقّة، مع أنّ السيناريو كلّه يدور حول رجلين؟

 

لقد ذكرت أنت قضيّة النوع الاجتماعيّ؛ الجندر، وليس أنا هذه المرّة، ألا يزعجك دور المرأة الهامشيّ جدًّا في الفيلم؟ فيه الزوجة ضعيفة ومقصاة، ولا تدرك ما يمرّ به شريك حياتها. الأمّ وحتّى العشيقة، كلتاهما ثانويّة في حياة وليد وجلال؟

حليحل: من الّذي قال إنّ كلّ عمل سينمائيّ يجب أن يحتوي على بطلة امرأة؛ لكي نتحدّث عن المرأة؟ مها الحاجّ وضعت شخصيّاتها في المطبخ، والبيت، والمدرسة؛ فيطبخ ويمسح ويجلي الصحون، ويعتني بدراسة الأولاد وصحّتهم. قلب الأدوار النمطيّة جندريًّا، ووضعها بهذه الطريقة أمام المشاهد، هي عمل نسويّ ثوريّ بامتياز في نظري، لا نحتاج إلى المرأة لنتحدّث عن قضايا المرأة ودورها في الحياة الزوجيّة. بَلبلة الأوراق، كما فعلت الحاجّ في هذا الفيلم، تكفي لإثارة الأسئلة والأفكار حول مؤسّسة الزواج والشراكة والتعاون والفكر النسويّ. 

 


 

سماح سلايمة

 

 

 

ناشطة نسويّة فلسطينيّة، تدير جمعيّة «نعم – نساء عربيّات في المركز»، أدارت «مركز الفتيات في الرملة»، وهي من مؤسِّسات ائتلاف «فضا – نسويّات ضدّ العنف».