حياة في ظلّ الموت وعملائه

«حياة في ظلّ الموت» (2022)

 

منذ أن جمعتني السينما بالمخرج بلال يوسف، كان كثير الحديث عن المطرب الراحل شفيق كبها، كان شغفه واضحًا بامتداد النجاح الّذي وصل إليه كبها، بقدرته على أن يكون سفيرًا للفرح بين النهر والبحر. تحدّث بلال عن شفيق الفنّان، والصوت، والأداء، والشعبيّة، والأسلوب.

ما من شكّ في أنّ افتتاحه لفيلمه الجديد «حياة في ظلّ الموت» (2022)، الّذي خصّ به إعجابه للفنّان الراحل شفيق كبها، وأنّ جريمة قتل كبها هزّته في الأعماق، ودفعته إلى المضيّ في رحلة نبش حول مصيرنا المحفوف بخطر الرصاص الطائش والمقصود؛ كان تعبيرًا عن ألم حقيقيّ. يدفعه ألمه على مقتل شفيق كبها من جهة، وتعاظم جرائم القتل، والسلاح المنتشر في البلدات العربيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948؛ ليقدّم لنا نماذج عن انعدام الأمان، والفقدان، والثكل، والرعب، والظلام السائد الّذي يمنع الأجيال الشابّة رؤية نور في نهاية نفق طويل خانق.

 

صوت المخرج المهيمن

يقدّم بلال يوسف فيلمًا وثائقيًّا شخصيًّا، فإطلاق الرصاص بجانب بيته يجعله باحثًا عن مسكن أكثر أمنًا له ولعائلته. يدفعه مقتل الطفل عمّار حجيرات للتعبير عن حالة الخوف من المستقبل، والبحث عن ملاذّ لأطفاله فيقول: (رصاصة طايشة قتلت طفل أربع سنوات، وقتلت رزان من كفركنا صبيّة بعمر الورد، وهي قاعدة في بيتها، في أكثر محلّ مفروض يكون فيه الإنسان آمن ... معدش محلّ آمن حتّى البيت، أنا خايف على أولادي، قلق، رعب خلّاني أفكّر أنتقل للسكن في بلدة يهوديّة).

مدفوعًا بحاجة شخصيّة، باحثًا عن الأمان لنفسه وعائلته، يحاول المخرج أن يجمع بين طرفَي الخيط، انعدام الأمان والمجتمع الإسرائيليّ الرافض لوجود أيّ فلسطينيّ في مساحة سكنه الأكثر أمنًا...

مدفوعًا بحاجة شخصيّة، باحثًا عن الأمان لنفسه وعائلته، يحاول المخرج أن يجمع بين طرفَي الخيط، انعدام الأمان والمجتمع الإسرائيليّ الرافض لوجود أيّ فلسطينيّ في مساحة سكنه الأكثر أمنًا. لا نسمع صوتًا أو نرى موقف زوجته الحامل بطفلهما الرابع، لا نسمع حوارًا بينه وبين طفله الأكبر الّذي يتابع التغطية الإخباريّة لجريمة قتل طفل يجاوره سنًّا، تبقى الحكاية كلّها رهن صوت المخرج وحده، نعيش تخبّطاته الّتي تترنّح بين قصّة وأخرى، لكنّها في الواقع تُبقي القضيّتين – العنف والعنصريّة - طافيتين على السطح، رغم ارتباطهما الوثيق.

يقف الفيلم في أولى محطّاته عند جريمة قتل سعد جبارة، من خلال والدته الّتي تصف الجريمة وتشرح معنى كونها أمًّا ثاكلًا رأت وسمعت تفاصيل الجريمة، لكنّها كانت عاجزة عن التنبّؤ بها أو وقفها أو تغيير نتيجتها. ترافقنا صورتها كثيرًا خلال الفيلم، وهي تسير نحو القدس للاحتجاج على تقاعس الشرطة والأذرع الأمنيّة الإسرائيليّة، وإحجامها عن وقف الجرائم، ترافقها والدة خليل خليل الّتي تؤكّد أنّها تكرّس حياتها لإحقاق حقّ ابنها، ومعاقبة قاتله الّذي لا يزال طليقًا. تنضمّ إلى ركب الثكل، والدة عاصم سلطي الّذي سُلبت منه الحياة وهو يقف شبه آمن في منزل أقاربه، تضاف إليهنّ المحامية حنان خطيب الّتي فقدت ثلاثة من إخوتها؛ وهي تقدّم تساؤلًا مثيرًا حول الالتجاء إلى عصابات الإجرام لإحقاق حقّ ضحايا أردتهم أسلحة ذات العصابات.

لا يخلق الفيلم حالة من التماهي مع فقدان هؤلاء النسوة، لا يخلق شعورًا بالخطر، بل حالة تقتصر على الشفقة، لا نسمع على لسانهنّ مَنْ هو خليل، أو سعد، أو شاكر أو عاصم، تبقى أسماؤهم في أذهاننا أسماءً بلا قصص، بلا تاريخ، بلا أحلام.

 

قصص الضحايا الغائبة

نسير ونسير مع أمّهاتهم وأخواتهم إلى مواقع احتجاج عديدة، لكنّ ذلك في طريقة عرضه لا يتعدّى الشكل الإخباريّ، عرض حالة دون التوغّل في ما سبقها، لا نعلم ما شكل الحياة بعد الفقدان، كيف تحوّل روتين البيت، وأين هو القانون ومجرياته، لا نرى محاميًا يشرح كيف لا تقدر منظومة شرطيّة على فكّ رموز جريمة، وما الدوافع مقرونة بالتحليل والتصوّر المقنع. لا نسمع صوت الأب أو الأخ وكأنّ الحزن حكر على النساء. تضيق الفضاءات الّتي يمكن فيها تخليد هؤلاء الضحايا فيتحوّلون – كما هو الحال خارج الفيلم - إلى أرقام وصور معلّقة على الجدران فحسب.

بين قصص الضحايا المقتضبة، تطلّ علينا قصّة مَن دفعته الحياة والعوز إلى طريق الجريمة الّتي ارتدّ عنها لاحقًا. يروي لنا د. وليد حدّاد كيف يكون شكل الحياة عندما تكون تجارة السلاح والمخدّرات والسرقة والاحتيال مسارًا سريعًا لتحقيق أحلام بسيطة؛ لنيل رفاهيات قد يراها معظم الناس أمرًا اعتياديًّا. لكنّ هذا الصوت لا يتعدّى وصف حالة عرضيّة، لا يتعمّق في حيثيّات حكاية شخصيّة، حكاية تنسج حولها نوعًا من التعاطف وإضاءة زاوية معتمة بالنسبة إلى معظمنا، للنخب الّتي تشاهد الأفلام الوثائقيّة، وتطالع الصحافة الثقافيّة، وترتاد الكلّيّات والجامعات والمقاهي الثقافيّة.

يروي لنا د. وليد حدّاد كيف يكون شكل الحياة عندما تكون تجارة السلاح والمخدّرات والسرقة والاحتيال مسارًا سريعًا لتحقيق أحلام بسيطة؛ لنيل رفاهيات قد يراها معظم الناس أمرًا اعتياديًّا...

ما الّذي فعله وليد حدّاد؟ ما شكل الهاوية الّتي وصلت إليها أحلامه الصغيرة؟ ما معنى أن يكون على مرمى قتل إنسان لنيل مراد سريع التبدّد؟ ما تفاصيل الحادث الّذي تعرّض إليه؟ ما معنى المخطّطات الحكوميّة الّتي يتحدّث عنها والرامية إلى دفعنا نحو الهلاك؟ ما الّذي كُتب حرفيًّا في هذه المخطّطات ويصفنا بالخطر الديمغرافيّ أو الإستراتيجيّ؟ من الّذي كتبه؟ وكيف؟ ولماذا؟ وبناء على أيّ مسح أو تحليل أو رؤية؟ لا أسئلة كهذه تُسأل، وما من إجابة تُقدَّم.

يأتي صوت رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة، ترافقه الكاميرا في لقطات متكرّرة، وهو شريك الأمّهات الثكالى في مسيراتهنّ. نسمع صوته متحدّثًا عن مرحلة مفصليّة ينتصر فيها أحد الأطراف: نحن أو الجريمة. لكنّ المرحلة المفصليّة مصطلح لطالما ذكره عودة دون أن نفهم ما الّذي سيرجّح كفّة أحد طرفَي المرحلة، لا يقدّم عودة توصية او تحليلًا أو حتّى وجهة نظر في أسباب تعاظم الجريمة من مكانه كعضو برلمان في «الكنيست الإسرائيليّ». لا نعرف حتّى نهاية الفيلم ما الّذي يفعله عودة فعليًّا على الورق البرلمانيّ. يبدو أيمن عودة هنا لاعبًا وحيدًا في الميدان الرسميّ يصارع حالة الجريمة والعنف، ولا يكترث الفيلم لزملائه العرب في «الكنيست»، ولا يسأل أو يُسائل أين يقفون من هذه القضيّة الّتي أصبحت تستوي بأهمّيّتها مع قضيّة الهويّة والأرض والمسكن. يعود صوته إلى مسامعنا هادرًا مطالبًا بتنغيص الحياة الطبيعيّة في ’دولة إسرائيل‘، ما دام لا يحظى الفلسطينيّ بحياة طبيعيّة آمنة – في مشهد كليشيهاتيّ تقنيّ لا يُحدث تأثيرًا.

 

أسئلة غير مُجابة 

تعود وتتردّد على مسامعنا جملة ’سياسات الحكومة‘ من أصوات عدّة، لكنّها لا توفّر لنا كمشاهدين مهما كان حجم معرفتنا بالقضيّة، أيّ جديد. سياسات الحكومة الّتي تتجلّى في تكهّنات المتحدّثين دون أن نعرف في أيّ مخطّط كتبت جملة تشي بالعنصريّة، لا يفتح الفيلم أيّة أوراق مكتوبة، سوى تقارير تحصي قتلانا يقدّمها أب ثاكل واحد، هو كامل ريّان عضو «كنيست» سابق فقد ابنه معاذ. "المجتمع مقبل بأسرع ما يكون نحو الهاوية" يقول ريّان، ويدّعي أنّ المجتمع مسؤول بنفسه عمّا تخطّاه من خطوط حمراء، لكنّه يحصي، ولا يوصي، ولا يوضّح، ولا يقدّم مثالًا عينيًّا واحدًا على ما يدّعيه. ومثله ضابط الشرطة الاستعماريّة السابق نيسين داوودي، الّذي يؤكّد أنّ المعلومات الاستخباراتيّة كانت كبيرة، لكن لم تُترجَم لعمليّات تهدف إلى وقف حمّام الدم. هنا تظهر رصاصة أصابت بيتًا في شمشيت اليهوديّة قادمة من ليالي عيلوط الدامية، وحديثين متقابلين يقارنان بين ممارسات الشرطة في عيلوط وشمشيت، ألا يعلم المشاهد نتيجة هذه المقارنة مسبقًا؟

مناحيم هوفنوم محاضر في «الجامعة العبريّة»، ضيف يتناول في الحديث معه مدى ضلوع المتعاونين في مشهد العنف والجريمة في المجتمع العربيّ. يتحدّث عن انجرارهم نحو الجريمة كمصدر معيشة، وضلوع الأذرع الأمنيّة في توطينهم في البلدات العربيّة، إذ يُرسم مسار انخراطهم في هذا العالم. قد يكون هذا مثيرًا، لكنّ توظيف المعلومة في سياق الفيلم جعلها تبدو مهربًا يخفّف من عبء المسؤوليّة الواقعة علينا وعلى حالنا المتردّي، وكأنّنا بخير لولا أن زرعوا بيننا عملاءهم.

 

قصّة غير مكتملة

بين جريمة وأخرى، تتسلّل عمليّة بحث المخرج عن بيت جديد، في جنين حيث يصف صديقه الفكرة كهروب نحو جحيم بشكل جديد، وفي بلدات يهوديّة يرفض أهلها بيع بيوت للعرب أو تأجيرها.

يحاصرنا المخرج بصوته في الخلفيّة، وبالتعبير عن مواقفه ومخاوفه وأفكاره وتحرّكاته؛ فتكون نتائج ذلك إسكات أصوات كثيرة وجب سماعها، وعمليّة بحث لم تكتمل...

يحاصرنا المخرج بصوته في الخلفيّة، وبالتعبير عن مواقفه ومخاوفه وأفكاره وتحرّكاته؛ فتكون نتائج ذلك إسكات أصوات كثيرة وجب سماعها، وعمليّة بحث لم تكتمل، وضوء لم يسلّط على تفاصيل وردت في الفيلم، وجديد لم يقدّم حول العنف في المجتمع الفلسطينيّ في الداخل. حكايات سمعناها، ومشاهد طالعناها في نشرات الأخبار، مسيرات واكبناها عبر الشبكات الاجتماعيّة، وبقي المتنفّس لهذا الفيلم هو ما بدأه المخرج من مسيرة شخصيّة، وفضول في معرفة تفاصيل لم تقدَّم سابقًا.

على مدار ساعة وربع، لم نعرف كيف يعيش اليوم مَنْ ذاقوا مرارة العنف والجريمة ونجوا منها، هل من شخص تمكّن من التفوّق على جريمة؟ هل يعيش بيننا مَنْ لم يقوَ عليه السلاح؟ أين هذه الأصوات وهذه الحالات؟ كيف يغيب صوت مرتكبو الجرائم؟ أليس من الجدير أن نعرف ما الّذي يدفع شابًّا يافعًا إلى الانخراط في هذا العالم؟ شهادة ’جنديّ‘ من جامعي الخاوة الّذين يجلسون إلى جوارنا في المقاهي والمطاعم؟ أليس جديرًا أن نسمع صوت تائب يحاول أن يعيش حياة طبيعيّة؟ يمرّ هذا الفيلم ثقيلًا، تتردّد صور التظاهرات والمسيرات وإغلاق الشوارع مرارًا وتكرارًا وكأنّنا أمام شريط إخباريّ، (ليش بصير فينا هيك؟).

 


 

سماح بصول

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب المقارن  والماجستير في ثقافة السينما.