محمّد شبل ووعد السينما الزائف

المخرج المصريّ محمّد شبل (1949 – 1996).

 

تثبت التجربة في أغلب الأحيان، أنّ المتاعب والصدامات هي من نصيب السابحين ضدّ التيّار دائمًا، وفي تلك المعارك غالبًا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، لذلك ثمّة عدد من هؤلاء المغامرين يجنّبهم القدر ويلات الحروب فيرحلون سريعًا بعد إلقاء حجر في المياه الراكدة. المخرج المصريّ محمّد شبل واحد من هؤلاء (1949 – 1996). على مدار 11 عامًا، لم يقدّم شبل سوى أربعة أفلام - لموته المبكّر - أثارت الجدل آنذاك، ولا تزال حتّى الآن بين مؤيّد ومعارض؛ فمنهم مَنْ وجد في التجربة آفاقًا مغايرة كانت السينما المصريّة في أمسّ الحاجة إليها – ولا تزال - وفريق آخر اعتبر تجربته مجرّد ألعاب تفتقر إلى الاحتراف، تصدر عن هاوٍ، وذهبوا إلى أنّها زائدة على الحاجة؛ حتّى أنّ الناقد الكبير سامي السلاموني كتب عن فيلمه الأوّل في «مجلّة الكواكب» (1981)، يقول: "... نحسّ في النهاية أنّه فيلم لم يكن هناك سبب واحد في العالم لصنعه، ولا مبرّر واحدًا في العالم لأن يكون قد صُنِعَ بهذا الشكل".

 

سيرة منقوصة لصاحب «الأنياب»

مارس شبل العمل الدبلوماسيّ لفترات من حياته، ملحقًا في سفارة مصر في واشنطن وموسكو، بجانب عمله في الإذاعة في «البرنامج الأوروبّيّ» لمدّة 13 سنة، مخرجًا ومقدّمًا ومعدّ برامج، وهذا ما أتاح له عن قرب تعرّف عدد من الثقافات، وساعده في ذلك إتقانه لغات أجنبيّة عدّة، منها الصينيّة والروسيّة. في بداية حياته السينمائيّة القصيرة، عمل مع المخرج العالميّ يوسف شاهين في «شركة مصر العالميّة»، وعلى الرغم من علاقته بشاهين الطويلة، لم يتأثّر شبل في أفلامه بسينما شاهين مطلقًا، بحسب المعلومات القليلة المتداولة على الإنترنت، فقد ظهر شبل في صغره في فيلم «بين إيديك» (1960)، وكان أحد الصبية الملتفّين حول ’رجب‘ (الممثّل شكري سرحان) في المدرسة الداخليّة، إلّا أنّ اسمه لم يُدْرَج في الفيلم، لا هو ولا بقيّة الأطفال.    

الخلاصة هنا وقوع شبل في غرام يوسف شاهين، ربّما لم يأخذ منه تقنيّات أو أساليب في صناعة المشهد، رغم ذلك تتناثر مشاهد أفلام شاهين عبر أفلام شبل كأنّها تحيّة لمجرّب جريء أسبق على درب السينما، وحتّى لو اختلفت الطرق، ظهر ذلك في سلسلة وثائقيّة مهمّة توثّق رحلة يوسف شاهين بعنوان «شاهين... رؤية في 12 جزءًا»، خُصِّصَت الحلقة الأخيرة منها للمحاكمة الّتي تعرّض لها  شاهين في منتصف التسعينات بعد عرض فيلم «المهاجر» (1994)، تعامل شبل مع حلقات المسلسل بمنطق السينما؛ فكلّ حلقة فيلم بذاته، ولكنّ البطل واحد في كلّ الحلقات. في حوار قديم مع الإعلاميّة سلمى شماع يؤكّد شبل أنّ الفيلم لم يكن قطّ "لتبرئة شاهين، ولكنّه محاولة لمشاركته الانتصار".

 

ملصق فيلم «التعويذة» (1987) لمحمّد شبل

 

في نفس الفترة أيضًا، خاض محمّد شبل تجربة الفيديو كليب بأغنية شهيرة للفنّانة سيمون بعنوان «في الجنّة» (1993)، حازت على جائزة أفضل أغنية سياحيّة ضمن مهرجان صداقة أقيم بين مصر واليونان، وهي أغنية تجمع العربيّة باليونانيّة، ما اضطرّ سيمون إلى تعلّم اليونانيّة قبل التسجيل.

لا يخفى على المتابع لسيرة شبل القصيرة ولعه بالتجريب؛ فآفاق الفنّ واسعة وبداخله رغبة عارمة للتحليق، فنجده قد كتب جميع أفلامه بجانب الإخراج، إمّا بالقصّة وإمّا بالسيناريو والحوار، كما وضع إعدادًا موسيقيًّا لشريط الصوت دائمًا ما يكون صاخبًا بمستويات موسيقيّة متفاوتة، ترغب هي الأخرى في جمع أكبر قدر ممكن من الرحيق الموسيقيّ الحديث؛ ثمّة أشباح لموسيقى الروك ومساحات مختلفة لآلات الإيقاع مع استخدام للموسيقى الإلكترونيّة، فضلًا على استدعاء حوارات وأصوات الشارع وخلافه ودمجها تلحينًا، شريط صاخب يتّضح بقوّة في أوّل أفلامه، وقد أفاد من قبل في حوار أنّ الرغبة في فرد العضلات دائمًا ما تصاحب الأعمال الأولى.

ثمّة معلومة أخرى متداولة عن فيلم تسجيليّ قصير صنعه شبل أثناء دراسة الإخراج في أمريكا، وبذلك تكون حصيلته خمسة أفلام «التعويذة» (1987)، «كابوس» (1989)، «غرام وانتقام بالساطور» (1992)، بالإضافة إلى أوّل أفلامه «أنياب» (1981)، الّذي يُعَدّ واحدًا من أكثر الأفلام تجريبيّة ومغامرة في تاريخ السينما المصريّة، وربّما العربيّة أيضًا.

 

غرابة وسخرية

نلحظ تطابقًا شديدًا بين فيلم «أنياب» والفيلم الأمريكيّ «العرض المرعب لروكي- جيم شارمان» (1975)، بداية من نقطة الانطلاق الدراميّ في السيناريو، حيث نجد الحدث الافتتاحيّ واحدًا في القصّتين؛ تتعطّل السيّارة بالبطل وحبيبته ذات يوم ماطر بمنطقة غير مأهولة، فيضطرّان إلى اللجوء إلى قلعة مجهولة وغريبة، داخل هذه القلعة تجري وقائع الأحداث الغريبة في الفيلم. الغرابة في الفيلم الأمريكيّ تحرّكت داخل منطقة جنسيّة متحرّرة تبحث في ما وراء النوع والجنس المزدوج، وهي منطقة يستحيل تمريرها رقابيًّا مع الفيلم المصريّ، لذلك استعاض شبل عن الغرابة الحسّيّة بغرابة واقعيّة منبعها الشارع والوضع الاقتصاديّ للمواطن العاديّ، الّذي أصبح عُرْضَة لنهش الأنياب في مجتمع لا يخجل من نزعته الاستهلاكيّة، ومن ثَمّ فرصة مناسبة جدًّا لتكون القلعة ملكًا للكونت دراكولا، الرمز الأشهر في مصّ الدماء.  

القصّة أيضًا في الفيلمين يرويها راوٍ متخصّص، خبير أمنيّ في الفيلم الأمريكيّ عارف بعوالم الجريمة، وحسن الإمام عند شبل، مخرج الروائع وداهية الحكايات، الّذي يخبرنا الفيلم أنّه "لأوّل مرّة على الشاشة يمثّل ويرقص ويغنّي". على هذا المنوال يسير شبل في تجربته الأولى محتفيًا بالسخرية، ومتتبّعًا خطاها أينما حلّت مناسبة.

"شوّه القصّة الأصليّة، واشترك في كتابة السيناريو والحوار... محمّد شبل، طارق شرارة، حسن عبد ربّه". هكذا يقدّم شبل نفسه، وفي المشاهد الأولى من الفيلم يخبرنا الراوي أنّ شخصيّة الكونت دراكولا شُوِّهَت عشرات المرّات "لعمل أفلام تجاريّة لا معنى لها"، ربّما هو حكم ضمنيّ أو اعتراف مسبق يقدّمه المخرج بادئ ذي بدء قبل أن يسائله المتلقّي أو الجمهور عن العبثيّة المسيطرة على الفيلم، نعم، هي مجرّد عبث، لعبة، تهوّر فنّيّ لا يزال يتحسّس خطواته وتعوزه الإمكانيّات.     

 

ملصق فيلم «غرام وانتقام بالساطور» (1992) لمحمّد شبل

 

على مستوى الشكل، تهكّم شبل على السينما الكلاسيكيّة على طول مشاهد الفيلم، بداية من استخدام مخرج الروائع، فهو يستدعي أيضًا أجواء أفلام الروائع بعدم منطقيّتها أو سذاجة وقتها على الأقلّ؛ الشبابيك لا بدّ من أن تُفْتَح وتُغْلَق وتصطكّ ليختلط صوتها بأصوات الرياح والزعابيب، المطر سيول، والغريب أنّ الانهمار مسلّط على البطلين فقط، بينما بقيّة الكادر دون مياه، الموات الزمنيّ بأغنية يلقيها البطل فقط أثناء مروره من بوّابة القصر لبابه.

لا يخلو مشهد تقريبًا في الفيلم الّذي قارب الساعتين من السخرية، من السينما، والمجتمع، والفئات الّتي تمصّ دماء المواطن سواءًا كان سبّاكًا، أو ميكانيكيًّا، أو مدرّسًا، أو طبيبًا، أو جزّارًا، أو سائق تاكسي...، فضلًا على الاختيار الغرائبيّ لبطلَي الفيلم، الممثّلان أحمد عدويّة وعلي الحجّار. على أرض الواقع كانت مدرسة عدويّة تكتسح المجتمع، وأصبح "للسحّ الدحّ أمبو" مكان في الصدارة، ومن ثَمّ سيزول أيّ صوت أصيل يمثّله الحجّار.

 

الرمزيّة والتأويل

رغم المباشرة الشديدة في «الأنياب»، إلّا أنّ الفيلم يحمل العديد من الرمزيّات والتأويل، ويتحرّك من خلالها من منظور طفوليّ بريء وحماسيّ وثوريّ في نفس الوقت، لكنّه قديم.

عانى السادات كثيرًا خلال سنوات حكمه الأولى من هيمنة النموذج الناصريّ على الوعي الجمعيّ - سواء مصريًّا أو عربيًّا - حيث مثّل حكم عبد الناصر سنوات حماسيّة للحلم القوميّ، وكثيرًا ما كانت تُعْقَد المقارنات بين الرئيسين، الّتي لم تكن في صالح السادات ("سابلك إيه يا صبيّة عبد الناصر لمّا مات؟"). ربّما لم تشتدّ قبضة الرئيس الجديد إلّا عقب حرب عام 1973 وانتصار أكتوبر، الّذي خوّل للسادات سلطة شموليّة لم تختلف كثيرًا عن سابقتها، ولو على المستوى الاستبداديّ، الّذي حوّله السادات في ما بعد لممارسة ’سياسة الانفتاح‘ الّتي تكفّلت بتغيير مسار كلّيّ للهويّة المصريّة، ومن بعدها العربيّة أيضًا؛ فبدأت تترسّخ صورة ’الرئيس‘ زعيم العصابة الّتي تمثّلها الحكومة ومؤسّسات الدولة، وبدأ مفهوم استهلاكيّ انتهازيّ يهيمن على عموم طبقات المجتمع مفاده "خذ كلّ ما تطوله يدك".

من هنا، يمكن اعتبار دراكولا في الفيلم زعيم هذه العصابة، في ما أعوانه في القصر هم الحكومة والقوى التنفيذيّة، أمّا ’شلف‘ الأحدب المثقل بأصفاده فيمثّل الطبقة الكادحة والمعدومين، ويبقى عليّ وخطيبته رمزًا إلى الجيل الجديد من الشباب.

على جانب آخر، يرمز القصر العتيق إلى آليّة السلطة المتحجّرة الّتي عشّش الفساد داخل ثنايا جدرانها وتربّع، فحين تقوم الثورة على الكونت، وتُفْتَح الستائر ليدخل النور، تخرج الفئران بالعشرات من بين الجدران البالية الّتي تأخذ في الانهيار جرّاء الفعل الثوريّ، الّذي لم يبدأ من القوى الشعبيّة بل من عند المساعد الأوّل للكونت، حين تنقلب السلطة على ذاتها وتأكل نفسها، حينها يهرع علي ومنى، أي الجيل الجديد، بمساعدة طبقة البروليتاريا الّتي يمثّلها شلف لانتهاز الفرصة وهدم المعبد.

 

 اختفاء جثّة مُخْرِج

في الكلمة الافتتاحيّة لمجلّة «الحقيقة السينمائيّة» عام 1922، يؤكّد الناقد والمخرج السينمائيّ الروسيّ دزيجا فيرتوف "أنّ مستقبل الفنّ السينمائيّ إنّما هو في رفض حاضره، أنّ موت السينما أمر ضروريّ لكي يحيا الفنّ السينمائيّ، ونحن نطالب بالتعجيل في موتها". إذن، فالفرق بين الفنّ السينمائيّ والسينما في عمومها هو الفرق بين القدرة والاستخدام؛ فقدرات الفنّ غير محدودة، وبالتالي لن يُكْتَب لها الفناء، بينما الاستخدام يخضع لأفق أضيق في الرؤية، ومن هنا فآليّته محكومة بالزوال، خاصّة حين يتعلّق الأمر بالتقنيّات. التجريبيّة هي الوصف الأنسب إلى قراءة سينما محمّد شبل، بعيدًا عن توصيفات من قبيل ’تدميريّة‘ أو ’تخريبيّة‘، أو حتّى ’فانتازيّة‘ يمكن إطلاقها على سينماه، الّتي تعاملت "مع السينما انطلاقًا من قدرتها وليس من استخداماتها"، بحسب تعريف الناقد الفرنسيّ دومينيك نوجيز للفيلم التجريبيّ.

 

 

اختار شبل لأفلامه نهايات متفاوتة؛ ففي فيلم «أنياب» يعطينا نهاية صيروريّة، وفي الوقت نفسه كاشفة، بل إنّها توجّه الاتّهام أيضًا؛ فالراوي الّذي يفضح لنا أنياب المجتمع الجديد نكتشف كونه أحد هذه الأنياب، حين يخلع القناع عن وجهه فيظهر دراكولا تحت وجه حسن الإمام. وفي «غرام وانتقام بالساطور»، يهرب الزوج المخادع خوفًا من شبح الزوجة بعد أن ظنّ أنّه قتلها، قافزًا من النافذة ليتلقّفه حمار ربّما يقف في انتظاره. الظريف في المشهد سقوط البطل على ظهر الحمار في وضع مقلوب - الوجه ناحية المؤخّرة - وهي الطريقة القديمة في الفلكلور الشعبيّ في ’الجرسة‘، حيث يلفّون به البلدة مردّدين: "من ده بكره بقرشين... أو عواض باع أرضه يا ولاد..."، وهكذا. من هنا، ورغم فانتازيّة النهاية، يتّضح أنّها بمنزلة حكم أخلاقيّ يُصْدَر على الزوج الخائن، وليس مداعبة سرياليّة كما يبدو. أمّا في «التعويذة»، فالنهاية عقلانيّة وآمنة للحلول المنطقيّة، بعد رحلة شبحيّة مع الجنّ الّذي يسيطر على المنزل، لا تجد البطلة سوى المواجهة بقراءة آيات من القرآن، وهي كفيلة بإحراق الجنّ والتخلّص منه للأبد، وللعلم تُتَّبَع هذه الطريقة في الحلّ في غالبيّة المواقف المشابهة. وفي «كابوس» وهو من أضعف أفلامه رغم جودة الفكرة، يختار النهاية الدائريّة الّتي تضع البطلة من جديد في قلب المشكلة الّتي ظنّت أنّها حُلَّتْ.

أدّى غياب الحقائق الموثّقة عن حياة محمّد شبل إلى تنشيط مخيّلة بعض ’اليوتيوبرز‘ القلائل، الّذين صنعوا حياة خاصّة متخيّلة، استعانت في معظمها بأجواء أفلامه، فمنهم على سبيل المثال مَنْ يجزم بأنّ الجنّ الّذي كان يسكن بيته، ومنه صنع فيلم «التعويذة»، انتقم من المخرج بإخفاء جثّته بعد دفنها، وهو الآن يسبح في اللاوجود، لن يطول السماء أو الأرض، وربّما كانوا على حقّ، بمنطق شبل طبعًا.

 


 

وائل سعيد

 

 

 

كاتب وناقد سينمائيّ مصريّ، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة، مدير تحرير «مجلّة الكرمة».