«فرحة»... رواية النكبة دون رتوش

من فيلم «فرحة» (2021)

 

أصبح من المعروف أنّ آلة التحريض الإسرائيليّة تتربّص بكلّ تحرُّك ثقافيّ فلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948 بوجه خاصّ، إذ تعمل هذه الآلة على التحريض ضدّ كلّ ما هو فلسطينيّ، ظاهريًّا كان أو جوهريًّا. وتنضمّ إليها آلة الإعلام المجنَّد لخدمة الأجندات السياسيّة والأمنيّة في ’إسرائيل‘. كان آخرها التحريض الأرعن على عرض «مسرح السرايا» في يافا فيلم «فرحة» (2021) للمخرجة الأردنيّة – الفلسطينيّة دارين سلّام. لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل استمرّت حملات التحريض في أعقاب قرار «شبكة نتفلكس» عرض الفيلم على شاشتها. وازداد التحريض حِدّة إلى درجة اتّهام أطراف مختلفة بتشويه صورة ’إسرائيل‘ أكثر ممّا هو وارد في مشاهد معيّنة في الفيلم.

لكن، بالرغم من كلّ هذا التحريض في السياسات الاستعماريّة الإسرائيليّة العامّة والرسميّة، لتبرئة ساحاتها من أيّة جريمة ارتكبتها أو سترتكبها في المستقبل؛ إلّا أنّ الفيلم لا يزال معروضًا، الفعل حوله آخذة بالانتشار لصالحه في معظمها. يتزامن عرض الفيلم مع ما كسبته، ولا تزال، القضيّة الفلسطينيّة شعبيًّا في «كأس العالم فيفا قطر 20222»، من مناصرة ودعم وتعزيز للحقّ الفلسطينيّ العادل في فلسطين. 

 

’فرحة‘، الفتاة تصير امرأة في زمن النكبة

يحكي فيلم «فرحة» قصّة من بين آلاف قصص الفلسطينيّين، المنكوبين في عام 1948، عام النكبة الشؤم، وما تلاه من مآسٍ وآلام وأوجاع وجروح. والقصّة الّتي ينقلها الفيلم سينمائيًّا، يمكن سحبها على معظم القرى والبلدات الّتي تعرّضت لجرائم القتل، والنسف، والتدمير، والتشريد، والمحو العمرانيّ.

نجحت كاتبة الفيلم ومخرجته في جعل المرأة – الفتاة ’فرحة‘، تقود الأحداث المركزيّة فيه. وهنا مقولة قويّة لمكانة المرأة ودورها في النكبة بخاصّة، وفي مشهديّة الحياة الفلسطينيّة عمومًا؛ فالفتاة فرحة تمرّدت على قريتها، وهي مليئة بالحبّ لها ولعائلتها وزميلاتها، وقد صمّمت على متابعة تعليمها في المدينة، ما لم يكن مألوفًا في أوساط فتيات القرى في تلك المرحلة، ثمّ مشروعها المستقبليّ لبناء مدرسة حديثة تخرج عن الإطار التقليديّ. وأخيرًا، رفضها أو عدم استجابتها لطلب الزواج بابن عمّها. هذه الأحلام الثلاثة هي في حدّ ذاتها ثورة اجتماعيّة على القيود الّتي كانت تُشدّد الرقابة والتحرّك على المرأة الفلسطينيّة والعربيّة. هي أحلام بالإمكان تنفيذها في ما لو أُتيح لفرحة شيء من الزمن المستقبليّ، الّذي أعدمه وأباده الاستعمار الإسرائيليّ ليخلق للفلسطينيّ زمنًا مغايرًا، فيه التشريد والرحيل والخيمة والمخيّم والعوز وظلم ذوي القربى؛ ليغرق في هذا الزمن اللازمن إلى أجل غير مُسمّى.

 

من فيلم «فرحة» (2021)

 

أراد والدها، مختار القرية، أن يحميها من الحرب الّتي اندلعت في فلسطين إثر مخطّط التقسيم، وبالتالي أن يحمي مشروعها النهضويّ، بإخفائها أو سجنها في غرفة المونة القريبة من غرفتها في بيت العائلة. ولم تتمكّن فرحة من الخروج؛ فآثرت أن تتأقلم مؤقّتًا مع ما هو متوفّر من طعام وقنديل، وأن تجد لها الزوايا الّتي تنام فيها، وتقضي حاجتها، وتتناول طعامها، إلّا أنّ أصوات ما كان يجري خارج الغرفة دفعها إلى أن تُراقبها من ثقب صغير في أعلى حائط الغرفة. من هذا الثقب رأت وتابعت كلّ جرائم النكبة الّتي اقترفتها إسرائيل: تدمير قريتها وقلبها رأسًا على عقب، القذائف الّتي أمطرتها آليّات عسكريّة على البيوت، رحيل الأهالي، إعدام عائلة بكامل أفرادها، وترك الوليد الجديد وحيدًا يلقى حتفه دون رحمة، العمالة والخيانة من مُخبر تبيّن أنّها تعرفه، وهو عرفها حين اقترب إلى شقّ في باب غرفة المونة، دون أن يقدّم لها مساعدة لإنقاذها وإخراجها، فهو خائن، فكيف له أن يكون حاملًا جينات إنسانيّة؟

 

الثقب الكاميرا: توثيق النكبة 

الثقب في الحائط كان كافيًا ليكون عدسة كاميرا تلتقط صور الفظائع والجرائم والقتل الّتي ارتكبها الاستعمار الإسرائيليّ، ولا يزال بحقّ الشعب الفلسطينيّ. في حين أنّ الفضاء المفتوح على وسعه لم يدفع، إلى يومنا هذا، حكومات العالم، أو كما يحلو لبعضهم تسميته «الشرعيّة الدوليّة»، إلى محاسبة المجرم، وتقديمه إلى القضاء، وفقًا لما تنصّ عليه اتّفاقيّات دوليّة، وضعتها هذه الشرعيّة بنفسها؛ فالمجرم ما زال حرًّا طليقًا يحتمي بمظلّة عدد من حكومات الدول البيضاء.

لكنّ «فرحة»، كطير الفينيق، وبقواها الذاتيّة، نجحت في قرع الخزّان والخروج من غرفة المونة لتُحلّق في سماء قريتها. لكنّها وحيدة في القرية دون أيٍّ من أهاليها، بمن فيهم عائلتها وصديقاتها. خروجها حرّرها من متابعة رؤية الأحداث ونتائجها النكبويّة عبر الثقب، لتراها على وسع حجمها. نتائج النكبة بتدمير أحلامها، وبالتالي تدمير حياة الشعب الفلسطينيّ الّذي تحوّل إلى لاجئ في وطنه وخارجه.

 

من فيلم «فرحة» (2021)

 

تحرّر فرحة من غرفة المونة، أي حبسها المؤقّت، فيه دلالات قويّة لقدرة الفلسطينيّ على التحرّر وإعادة بناء مشروعه الوطنيّ بكلّ تفاصيله، رغم علمه أنّ هذا الجانب ليس سهلًا عليه تنفيذه. لكنّ «فرحة» تعطي الفلسطينيّ الأمل، بأن اغتسلت بمياه عين ماء قريتها، وأزالت عنها بعضًا من المعاناة والقسوة والشدّة لتنطلق من هناك في طريق صاعد لا نعرف نهايته ولا محطّاته المختلفة. لكنّها تصعد ولا تبكي، تتحرّك ولا تتجمّد، تنطلق ولا تتأخّر؛ فالعمل كثير وبحاجة إلى مَنْ يؤدّونه.

هكذا ينتهي الفيلم، مخلِّفًا مادّة تفكيريّة لمشاهديه حول المستقبل؛ فالفيلم ليس عرضًا للماضي فحسب، بل هو حامل بوصلة تدفع بالمشاهد إلى تقصّي طريق قضيّته ووطنه وأرضه، دون جلد الذات، وإنّما إعادة البناء.

 

رواية النكبة وإنكارها 

في عودة إلى المجازر والجرائم الّتي ارتكبها الاستعمار الإسرائيليّ منذ عام 1948، فإنّ ما عُرِض في الفيلم هو عيّنة لكيفيّة تنفيذ هذه المجازر بدون محاكمة أو حتّى تحقيق. وطبعًا، بدون رحمة، لأنّها غير واردة في قاموس آباء المشروع الصهيونيّ الاقتلاعيّ. نفّذت إسرائيل عشرات المجازر في عدد كبير من القرى والبلدات الفلسطينيّة، على مدار سنوات طويلة قبل النكبة وبعدها، وأهالي القرى المنكوبة الّتي وقعت فيها مجازر يعرفون عنها، ويعرفون أسماء الشهداء الّذين سقطوا بنيران العصابات الاستعماريّة الإسرائيليّة، ثمّ جيش الاستعمار الإسرائيليّ. كان الهدف المركزيّ من وراء هذه المجازر بثّ الرعب ونشره في نفوس الفلسطينيّين وقلوبهم وعقولهم ليغادروا، أو يُرحَّلوا بالقوّة. وبالتالي، كان ذلك هو «التطهير العرقيّ في فلسطين». وعندئذٍ لن يبقى أيّ فلسطينيّ في فلسطين «أرض الميعاد»، وفقًا لرواية الصهيونيّة الإسرائيليّة الملفّقة والمزيّفة.

هنا تحديدًا، نسف الفيلم من جديد أسطورة ’الجيش الإسرائيليّ الأكثر أخلاقيّة في العالم‘؛ فمجرّد تبنّي المؤسّسة الاستعماريّة الحاكمة في ’إسرائيل‘ وإعلامها المجنَّد لهذا الشعار، وترويجه في كلّ المحافل الدوليّة، هو في حدّ ذاته سقطة غير مسبوقة. هذه النرجسيّة الملمّعة تنهار يوميًّا في كلّ قرية وبلدة في الضفّة الغربيّة يقتل فيها الاستعمار الإسرائيليّ شبابًا فلسطينيّين بدم بارد.

 

من فيلم «فرحة» (2021)

 

إن كان هذا الفيلم يصوّر بطريقة مبسّطة حكاية من حكايات النكبة ومآسيها، فإنّه، وعن غير قصد مباشر، يقضّ مضاجع الإسرائيليّين الّذين ما زالوا متمسّكين بقدرتهم على إقناع العالم بأنّهم ليسوا مسؤولين عمّا حصل للشعب الفلسطينيّ في عام 1948 من اقتلاع وتهجير، ولا يتحمّلون أيّة مسؤوليّة ممّا حلّ بالفلسطينيّين. هي عمليّة إنكار مستمرّة منذ 75 عامًا لنكبة الشعب الفلسطينيّ، وتدمير حياته وقلبها رأسًا على عقب. إنتاج الفيلم وعرضه بعد 75 عامًا من النكبة يؤكّد حضورها واستمراريّتها في حياة الفلسطينيّين، وفي الوقت ذاته يوخز بإبرة قويّة عقول الإسرائيليّين ونفوسهم، أنّ أيادي قياداتهم وجنودهم ملطّخة بدماء الفلسطينيّين، وأنّ قمع الفلسطينيّين غير كفيل بضمان العيش الرغد لهم ولأبنائهم.

 


 

جوني منصور

 

 

 

مؤرّخ ومحاضر فلسطينيّ من حيفا، له إصدارات عديدة منها «شوارع حيفا العربيّة»، «الاستيطان الإسرائيليّ»، «مسافة بين دولتين»، «إسرائيل الأخرى»، و«الخطّ الحديديّ الحجازيّ».