تضيق بنا الأرض... في «حمّى البحر المتوسّط»

من «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

 

"تضيق بنا الأرض. تحشرنا في الممرّ الأخير، فنخلع أعضاءنا كي نمرّ

وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا، ويا ليتها أمّنا

لترحمنا أمّنا..."، «تضيق بنا الأرض»، محمود درويش. 

 

افْتُتِحَ مهرجان «أيّام فلسطين السينمائيّة» عروضه لهذا العام، بعرض للفيلم الفلسطينيّ «حمّى البحر المتوسّط» (2022)، للمخرجة مها حاجّ، وهو عنوان يولّد معاني ذات ارتباطات متعدّدة، إذ يقدّم الجغرافيا والمرض ثنائيّةً يتردّد صداها في الفيلم.

يحكي الفيلم قصّة رجل أربعينيّ، وليد، يعيش مع زوجته وابنته وابنه في حيفا. يقابل وليد جاره الجديد جلال، وتبدأ الحبكة بالتوتّر، حين يبدو جلال على النقيض من وليد في أسلوب حياته وتفكيره ومشاعره؛ فعلى عكس وليد المكتئب والفاقد للرغبة في الاستمرار، يبدو جلال مفعمًا بالحياة بالرغم من ضيق ذات يده.

لا يمنع هذا التباين في الشخصيّات أن يجد وليد في جلال مخلّصًا له، حين يطلب الأوّل من الثاني أن يقتله مقابل مبلغ من المال، وبذا؛ يجد كلاهما الراحة، فيلبّي وليد رغبته الداخليّة في الموت، ويحلّ جلال أزمته الماليّة. 

 

الشقّة الضيّقة واتّساع البحر

يعكس الفيلم حياة الفلسطينيّ المليئة بالتناقضات، فبينما يعيش فلسطينيّو الأراضي المحتلّة عام 1948 في نعيم المدن الفلسطينيّة الساحرة، إلّا أنّ الأرض تضيق بهم ذرعًا بسبب الاحتلال الّذي يذكّرهم ببطشه يوميًّا، من خلال ممارسات كثيرة، منها تغيير أسماء الأماكن ومعالمها؛ فتنتقل الكاميرا في الفيلم من البحر الشاسع إلى الشقق الضيّقة والمهلهلة الّتي تسكنها الشخصيّات، لتظهر ثيمة الفضاء المكانيّ جليّة في مشاهد تسلّط الضوء على ما يعانيه الفلسطينيّ من ضيق اقتصاديّ واجتماعيّ ونفسيّ؛ فوليد مثلًا يعاني الاكتئاب، ونوبات الهلع، وفوبيا الأماكن الضيّقة (Claustrophobia)، وكلّها اضطرابات تعكس ’الضيق‘ بأبعاده الجسديّة والنفسيّة.

ترتبط احتماليّة مرض ابن وليد بمرض ’حمّى البحر المتوسّط‘ بالجغرافيا، ليس فقط لما يحمله اسم المرض من معنى، بل لأنّ ابن وليد لا يصاب بالأعراض إلّا قبل حصّة الجغرافيا، الّتي ترفض فيها المعلّمة إصرار الطفل بأنّ القدس عاصمة فلسطين كما تعلّم من أبيه، وهو ما يجعل الفصل بين النفسيّ والجسديّ مربكًا؛ إذ إنّ الأعراض السوماتيّة (Somatic) عند الطفل هنا، قد تكون مجرّد انعكاس لحالة التمزّق الّتي يعيشها الطفل، بين ما علّمه إيّاه والده، وما تقوله المعلّمة؛ ممّا يجعلها أقرب إلى الأعراض السيكوسوماتيّة (Psychosomatic).

 

 

هنا يعزّز الفيلم فكرة أنّ الجسد والجغرافيا لا ينفصلان، خاصّة بالنسبة إلى الفلسطينيّ الّذي يدافع عن قضيّة يشكّل فيها جسد الفرد جزءًا من قضيّة جمعيّة. لذا، تتقاطع المساحات الفرديّة والجمعيّة في الفيلم، وتضيق الفضاءات المكانيّة – مثل الشقق السكنيّة ومصفّات السيّارات – بأصحابها، ممّا يسبّب شعور المشاهد بالاختناق وعدم الراحة، وهو شعور متوافق مع ما تشعر به شخصيّات الفيلم.  

 

محاولات الخلاص الفرديّ 

يبحث وليد عن فضاء يجد فيه هويّته بعد أن ضاق به الحال والمكان؛ فيترك عمله في البنك ليصبح كاتبًا، ولكنّه يفشل في جعل النصّ حيّزًا جديدًا يعبّر فيه عن هويّته وأناه. يستهلّ وليد كتابة روايته بضمير المتكلّم الـ ’أنا‘، وذلك كناية عن أزمة الهويّة الّتي يكابدها، لكنّ الصفحة تظلّ بيضاء دون أن يستطيع إضافة كلمة أخرى واحدة. أخيرًا، وحين تنتهي تجربة وليد مع جلال في نهاية الفيلم، يبدأ وليد روايته باقتباس أنطون تشيخوف: "يا له من يوم جميل اليوم! لا أستطيع أن أقرّر بين أن أشرب الشاي، أو أن أشنق نفسي".

يعكس هذا الاقتباس التوتّر الّذي يعيشه وليد بين حبّ الحياة والرغبة في الموت، فهو لا يزال عالقًا في أزمات الهويّات الفرديّة والجمعيّة، دون أن يملك إجابات تفسّر استمراره على قيد الحياة. ورغم حالة الاستسلام التامّ الّتي يعيشها، إلّا أنّه لا يتوقّف عن الدفاع عن هويّته الفلسطينيّة، وتذكير مَنْ حوله بأهمّيّة تسمية الأماكن بمسمّياتها الفلسطينيّة الأصليّة، والحفاظ على ذاكرة الأجيال بعدم طمس عروبة القدس عاصمةً لفلسطين.

يجد وليد نفسه حارسًا لهذه الهويّة الّتي يحاول الاحتلال طمسها بكلّ الطرق. وهذا يعني أنّ وليدًا يدرك تمامًا أنّ الهويّة تتعدّى حدود الجسد، وهو يعي أهمّيّة المكان الجغرافيّ للتعبير عن هويّاته، والتعبير عن الهويّة بصيغة الجمع ما هو إلّا تأكيد وجود جوانب شتّى لشخصيّة وليد يُظْهِرُها الفيلم.

 

الموت حلًّا محتملًا

يمكننا مثلًا أن نقرأ شخصيّتَي وليد وجلال وجهين لشخصيّة واحدة؛ فانتحار جلال آخر الفيلم ما هو إلّا انعكاس لرغبة الموت في نفس وليد؛ فيمثّل جلال بهذا ما سمّاه فرويد الـ ’هُوَ‘ (Id)، وتتجلّى هذه المقاربة عند وجود الشخصيّتين في الغابة؛ لأنّ الغابة ترمز إلى العقل اللاواعي. لذا، فإنّ لقاء وليد وجلال في الغابة ما هو إلّا رحلة في غياهب نفس وليد ذاته، وهو يحاول الانتحار ويفشل، فيستعيض عن موته الحقيقيّ بموت مجازيّ، ثمّ يعود إلى حالة الوعي عند خروجه من الغابة إلى المدينة، الّتي تمثّل الأنا العليا (Super-Ego)، حيث يعيش وليد مع أسرته وفي مجتمعه.

 إنّ رحلة وليد المتكرّرة إلى الغابة رحلة مجازيّة يخوضها إلى هيتروتوبيا[1] (Heterotopia)، في عالم داخل عالمه الحقيقيّ، يواجه فيه وليد الجانب المظلم من شخصيّته؛ فالغابة حيّز مكانيّ ونفسيّ مرتبط بحياة وليد الاعتياديّة، وبمكانه في المدينة، لأنّ الغابة نسخة عن عالمه، لكنّها نسخة تسلّط الضوء على الجانب النفسيّ لحياته، وهو جانب مهمَل من الشخصيّات الّتي حوله؛ فتصبح الغابة مرآة لعالم وليد، إذ يقابل فيها نفسه بمكان افتراضيّ ليراها من الخارج. يقول فوكو إنّ حيّز الهيتروتوبيا كالمرآة؛ فبرغم كونها يوتوبيا (Utopia) لأنّها مكان افتراضيّ، إلّا أنّها أيضًا هيتروتوبيا لأنّها موجودة فعليًّا في الواقع؛ إذ يكشف فيها المرء غيابه عن المكان الّذي هو فيه، حين يرى نفسه في الانعكاس. في هذا الحيّز يشنّ وليد حروبه.

وبموت جلال يقتل وليد الجانب المتفائل من شخصيّته، لينتصر الاكتئاب وتتكرّر حالة إرادة الموت في نهاية مأساويّة ساخرة.            

       

من «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

                 

أخيرًا، يقابل فشل وليد في كتابة قصّته، نجاح الفيلم في التعبير عن الألم الّذي يعانيه الفلسطينيّ؛  فالسعي وراء الموت دون جدوى ما هو إلّا انعكاس للجرح الفلسطينيّ النازف، الّذي لا يلتئم لأنّ الاستعمار مستمرّ في نبشه. فبالرغم من سوداويّة الموت إلّا أنّه يضع نهاية للألم (Closure)، لكنّ تجربة الموت في الفيلم تجربة دائريّة في سعي لا مُنْتَهٍ، لأنّها تمثّل الصدمة الفلسطينيّة الّتي تشبه رؤوس هايدرا في الميثولوجيا، إذ ينبت لدى هايدرا رأسان جديدان إذا قُطِعَ أحد رؤوسها، وذلك لأنّ الصدمة الفلسطينيّة صدمة جمعيّة لا فرديّة.

وهنا تصبح العلاقة بالموت علاقة متشابكة، لأنّ جسد كلّ فلسطينيّ جزء متّصل بجسد القضيّة، فما هو إلّا امتداد للأماكن الحقيقيّة مثل الجغرافيا، والأماكن المفترضة مثل الهويّة، لذا، لا يشكّل موت الجسد نهاية للهويّة.

 


إحالات

[1] مصطلح لميشيل فوكو، يُسْتَخْدَم لوصف حيّز ثقافيّ لعوالم داخل العالم الواقعيّ، كالسجن والمسرح والمدارس الداخليّة، لها قوانين تُنْتِج معاني عن العالم الخارجيّ.

 


 

سميّة الحاجّ 

 

 

 

أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزيّ في «جامعة بير زيت»، حصلت على الدكتوراه من «الجامعة الأردنيّة»، وتخصّصت في الأدب الكاريبيّ ودراسات ما بعد الاستعمار.