مقعد وحيد للقضيّة في «عَلَم»

من فيلم «علَم» (2022)

 

للقضيّة الفلسطينيّة مكانة راسخة في وعي الوطن العربيّ، تتوارثها الأجيال منذ عام 1948، حيث نكبة الفلسطينيّين. خلال هذه العقود الزمنيّة حدثت تطوّرات وتبدّلات غيّرت موازين القوى، وخلق ذلك حالات من الصعود والهبوط الأيديولوجيّ السياسيّ.

نحن الآن أمام قضيّة بمعطيات مغايرة، يعيشها جيل جديد من أحفاد اللاجئين، والفلسطينيّين الّذين بقوا في أراضيهم المحتلّة عام 1948، حيث يعيشون مواطنة جديدة مفروضة ومباشرة وجهًا إلى وجه مع المستعمِرْ.

ينطلق فيلم «علَم» (2022) من هذه الخلفيّة متأمّلًا هذه العلاقة، حيث كلّ ما تريده مجموعة من الشباب المتحمّسين، هو رفع علم فلسطين على مدرستهم عوضًا عن العلم الصهيونيّ.

الفيلم من تأليف فراس خوري وإخراجه، في أولى تجاربه الروائيّة الطويلة، وقد شارك مؤخّرًا في الدورة 44 لـ «مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ»، وحصد ثلاث جوائز: «الهرم الذهبيّ» لأفضل فيلم، و«جائزة الجمهور»، كما حصل بطله الشابّ محمود بكري على جائزة أفضل ممثّل مناصفة. وكان عرضه العالميّ الأوّل في «مهرجان تورنتو» ضمن قسم السينما العالميّة المعاصرة، وشارك أيضًا في «مهرجان روما» خارج المسابقة الرسميّة.

 

من فيلم «علَم» (2022)

 

هذه ليست المرّة الأولى للمخرج مع العالميّة؛ فمنذ ثلاثة أعوام جاب فيلمه القصير «أرجل ماردونا» (2019) مهرجانات عدّة، حاصدًا العديد من الجوائز، وفيه يهتمّ خوري أيضًا بما وراء الرواية الفلسطينيّة؛ باحثًا عن لحظات إنسانيّة غير مطروقة في هذا الشأن، من خلال قصّة بسيطة لولدين انحصر همّهما في تجميع جسد لاعب البرازيل الأشهر، من أجزاء الصورة الّتي تُنْشَر في مجلّة، أملًا في الفوز بالجائزة المُعْلَنَة، وهي عبارة عن جهاز ’أتاري‘ ألعاب فيديو.

 

مواطن درجة ثانية

تحتفل إسرائيل في شهر أيّار (مايو) من كلّ عام بذكرى قيامها دولةً ، في ما يُعْتبَر هذا العيد في فلسطين ذكرى لنكبة ضياع الوطن، ومن هنا تأتي خصوصيّة العقدة الدراميّة في الفيلم؛ فحتّى لو استطاعت المجموعة إعلاء علم فلسطين مكان العلم الصهيونيّ، فهل سيتغيّر الوضع؟ ما الّذي قد يستردّه العلم، خاصّة بعد أن أصبح أهل الدار مواطنين من الدرجة الثانية، يحمل العديد منهم جوازات سفر وهويّات إسرائيليّة؟ هذا التعارض الجغرافيّ والأيديولوجيّ خلق حالة من اللامبالاة والاعتياد لدى الأجيال الجديدة، ومن هنا بات الخطر الأكبر الّذي يشير إليه الفيلم، وهو سقوط القضيّة بالتقادم، ولا سيّما قد ظهرت بوادر الاندماج في مواطن عدّة، لعلّ أبرزها في هيئة أحد الثوريّين بضفيرة جانبيّة متدلّية، فعلى الرغم من أنّها ضفيرة واحدة، فهي لا تختلف عن ضفائر اليهود الشهيرة.

لم يلجأ المخرج إلى العبارات الرنّانة والمباشرة في الحوار - إلّا في ما ندر - ربّما من باب أن لا شيء يخفى على أحد، وقد قيل في الموضوع ما قيل في الخمر، ولكن ثمّة إدانة نلمحها لجيل الآباء يشير إليها الفيلم، وإن لم يكن بشكل مباشر، عن طريق شخصيّتَي الأب ومدرّس الفصل؛ فالأوّل يفضّل الابتعاد عن متاعب السياسة، ويخاف على ولده محذّرًا إيّاه من الانخراط مع الحركات الثوريّة، وفي أحد النقاشات الحادّة يسخر منه قائلًا: "يعني هَتْحَرِّر القدس"؟ في حين أنّ مدرّس التاريخ ينهر أحد الطلّاب حين يعترض على تزييف الحقائق في المنهج، رغم معرفته الأكيدة بحقيقة ذلك. لم تأت هذه الإشارة بجديد في الفيلم، كونها أكليشيه نمطيًّا في العلاقة بين الأجيال حيال قضايا الوطن وما شابه ذلك؛ فدائمًا ما يُلْقي الجيل الجديد مسؤوليّة ما حدث على الجيل السابق.

 

الرواية الإنسانيّة

دائمًا ما يكون تناول القضيّة الفلسطينيّة تحت ما يُسَمّى ’أدبيّات النكبة‘، وكلّها أضحت مستهلكة تقريبًا، حتّى أنّ المشاهد العاديّ يستطيع بسهولة تخمين فيلم عن فلسطين قبل الشروع في مشاهدته. أمّا في الرواية الاستعماريّة الإسرائيليّة؛ فالمشهد لا يختلف كثيرًا، حيث ’الأدبيّات الصهيونيّة‘ ثابتة ونمطيّة لا تتغيّر، وكثيرًا ما تتّخذ من المظلوميّة درعًا لمشروعيّة زائفة.

من أكثر ما يميّز فيلم «علَم» ابتعاده عن هذه الأدبيّات القديمة؛ حيث يقدّم حياة عاديّة للشخصيّات، ويأتي موضوع القضيّة خلفيّةً لهذه الحيوات، فيصنع روايته الإنسانيّة الخاصّة بعيدًا عن الرواية الفلسطينيّة النمطيّة.

 

 

يعيش تامر بمفرده في بيت الجدّ القديم الواقع بالقرب من منزل أسرته، وفي هذه التفصيلة استطاع المخرج أن يضرب هدفين بحجر واحد؛ فقد رسم حالة لشخصيّة البطل، وهو شابّ عاديّ يرغب بحكم سنّه في العزلة حتّى عن أسرته، لتحقيق أقصى قدر من الخصوصيّة، وعلى جانب آخر يؤكّد أنّه لا مناصَ للشابّ من الفكاك من الدين القديم، أو القضيّة الموروثة الّتي انتقلت من الجدّ إلى الحفيد عن طريق هذا البيت.

ورغم أنّ تامر لا يهتمّ بالشأن السياسيّ، نرى جدران البيت تضمّ صورة لستالين وأعلامًا حمراء ومشهدًا من فيلم «المدمّرة بوتمكين». لا يخفى الرمز الشيوعيّ الثوريّ من هذه الصور، وربّما لا تحمل هذه الرموز دلالات قدر كونها ’موضة‘ أزليّة، يشغف بها الشباب في فترة المراهقة رمزًا للثورة في العموم، أيًّا كان بلدها أو اختلفت أسبابها، ولا يمنع ذلك أيضًا من أن تكون إشارة إلى تاريخ العلاقات السوفييتيّة الفلسطينيّة في مجمله.

 

الشخصيّ في الجمعيّ 

أمّا الصور المعبّرة عمّا بداخله، فقد تمثّلت في صورتين للأب ومدرّس الفصل، لكنّها صور كاريكاتوريّة تهكّميّة يصنعها بواسطة البرامج الرقميّة. لقد حارب الفتى كثيرًا ليتنصّل من إرثه القديم، ولا سيّما أنّه يعيش حياة رغدة لا ينغّصها سوى استدعاء الماضي. إلّا أنّ القضيّة تحيط به من كلّ جانب، فأمام بيت الجدّ، نجد ساحة كبيرة جرداء إلّا من شجرة زيتون هرمة، تتوسّطها ويحيط بها قطع من الأثاث القديم وجذوع الأشجار، يحرقها عمّه طوال الفيلم، مع مرور الأحداث يتّضح أنّ هذا العمّ فقد عقله جرّاء الاعتقال في سجون الاستعمار الإسرائيليّ، أمّا عن ثيمة الحرق المستمرّة فقد استخدمها المخرج بذكاء؛ فهي النار المؤجّجة الّتي لم تخمد في مسألة القضيّة، والّتي يجب تزويدها من وقت لآخر كي لا تخبو إلى الأبد.

 

من فيلم «علَم» (2022)

 

يتتبّع السيناريو خطًّا سرديًّا متناميًا، بداية من استعراض حياة تامر غير الملتزمة مع مجموعة المدرسة، حيث ينحصر همّهم في مشاهدة الأفلام وتدخين المخدّرات، ورويدًا رويدًا يتورّط الشابّ في فكرة الاحتجاج، عن طريق الفتاة المنقولة إلى مدرستهم حديثًا ’ميساء‘، الّتي يقع في حبّها، خاصّة وهي تحمل أفكارًا أكثر منه ثوريّة ونضالًا، ثمّ الصدمة الّتي ستخلق حياة جديدة تمامًا للمجموعة بأكملها؛ برصاصة طائشة، يتورّط الفريق الصغير في هذا الألم الجمعيّ، حين تصيب صديقهم ’صفوت‘ سليل عائلة من المناضلين القدامى.

الرصاصة أيضًا كانت الميلاد الحقيقيّ للشعور بالقضيّة العامّة، الآن فقط أصبحوا أفرادًا في القضيّة، ومن ثَمّ كُتِب عليهم تكملة المشوار الطويل؛ ثأرًا لمَنْ ماتوا وحزنًا عليهم، لذلك يستبدلون راية سوداء وليس علم فلسطين بالعلم الإسرائيليّ، فما دام الموت ليس ببعيد عنهم، إذ أصبح شريعة اليوم وغدًا، فلا شيء يستحقّ أن يُرْفَع سوى الراية السوداء، ما دام الدم ينزف.

 


 

وائل سعيد

 

 

 

كاتب وناقد سينمائيّ مصريّ، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة، مدير تحرير «مجلّة الكرمة».