مجتمع الفرجة... «إميلي في باريس» نموذجًا

من مسلسل «إميلي في باريس» (2022)

 

عندما يتسلّل الملل إلى نفوسنا، تبدأ الأخيرة في التوق إلى عوالم أخرى، أكثر إثارة وأقلّ توقُّعًا، ونبدأ في البحث عن الدهشة وسحر خفيّ، يشبه الأمر الشعور بالحنين إلى شيء مجهول لا يمكن معرفة ماهيّته، لكن يمكن أن نسمّيه الفرصة المحتملة، الّتي نقضي حياتنا في انتظارها رغم الفرص المتاحة أمامنا؛ إذ يتحوّل العمل والحبّ والتجارب إلى فرصة محتملة، وتصبح الحياة برمّتها فرصة عيش محتملة.

عندما نشاهد مسلسل «إميلي في باريس» (2022)، نظنّ للوهلة الأولى أنّ الفرصة الّتي ننتظرها هي الحياة الّتي تنعم بها هذه الفتاة الأمريكيّة، الّتي انتقلت إلى باريس كما نحبّ أن نتخيّلها، حيث برج إيفل والكرواسون والشوارع النظيفة والأزياء المعاصرة، والعلاقات الرومانسيّة، بمُراكمة تجارب جديدة، وعيش حياة مثيرة، ومصادفة أحداث وأشخاص جدد. تبدو للمشاهد فتاة ناجحة ترتدي ملابس ملوّنة ومعاصرة، تعمل في مجال التسويق، وتدير حسابها على «إنستغرام»، الّذي يحصد أرقامًا كبيرة من المتابعين، وبهذا فهي تحقّق السعادة.

 

سموم السعادة الخفيفة 

لكن مع التفكير مرّة أخرى في مفهوم السعادة هذا، ونكهته الأمريكيّة بامتياز، يظهر لنا التساؤل حول ما يقف خلف ضخّ هذه المشاهد البصريّة الجميلة، وتصبح الأخيرة موضوعًا لنقد خرائط العالم الحديث، وما يحمله من سموم؛ إذ نلاحظ أنّ المسلسل مبنيّ على فكرة صعود الصورة والمشهد وبروزهما على حساب أمور أخرى جرى تسطيحها، مثل المشاعر والشخصيّات؛ فنتعرّف على شخصيّات ترتدي ملابس معاصرة، وتنعم بحياة مرفّهة، دون أن نعرف حقيقةً مَنْ هي، وما تحمله من تركيبة نفسيّة وأسرار، وكأنّنا ننظر إلى دُمًى جميلة تتحرّك في الفضاءات الاجتماعيّة المتمثّلة في المسارح ودور الأزياء والشوارع النظيفة، لا تُصَاب بالحزن ولا الألم ولا الانهيار، تعبّر عن حزنها فقط من خلال تحريك شفاهها نحو الأسفل قليلًا، أو في تغيير تسريحة الشعر.

 

من مسلسل «إميلي في باريس» (2022)

 

هذه المقالة ليست محاولة لتحميل المسلسل أكثر ممّا يحتمل، لكونه بالأساس مادّة خفيفة للاستهلاك السريع، لكنّ المشكلة تكمن في تصويره للسعادة بوصفها مادّة خفيفة للاستهلاك السريع أيضًا، مثل وجبات الكنتاكي الأمريكيّة، الأمر الّذي يتجلّى في التنقّل بين العلاقات العابرة، والسعي نحو الإشباع الفوريّ للرغبات؛ حيث تنتهي علاقة عاطفيّة لتبدأ أخرى، دون التطرّق إلى ما يحمله الفراق من أعباء نفسيّة، فلا تتكبّد شخصيّات المسلسل عناء التجاوز، ليس في العلاقات العاطفيّة والاجتماعيّة فحسب، بل في العمل أيضًا، وفي العلاقة بالمكان، علمًا أنّ الاستهلاك من هذا المنظور لا يُعَدّ مُقتصرًا على السلعة المادّيّة، بل الحياة برمّتها تتحوّل إلى سوق مفتوح، تجعل من العالم بكلّ مكنوناته وجماداته وشخوصه موضوعًا للاستهلاك، له تاريخ صلاحيّة، سرعان ما تفقد سحرها وجاذبيّتها، ومن ثَمّ الانتقال إلى موضوع جديد.

في عالم كهذا، يغتنم الإنسان أيّة فرصة متاحة، لخوفه ممّا يحمله المستقبل، وهو السلوك الّذي يصفه باومان بالخوف السائل، ويمكن تعريفه على أنّه الخوف من أن يغفل الإنسان اللحظة الملائمة الّتي ينبغي فيها تبديل أشيائه وعلاقاته بماركة جديدة. يزيد من هذا القلق التكنولوجيا الّتي تدسّ مرّة أخرى فكرة أنّ الحياة سوق مفتوح، وفي خضمّ ما تطرح من خيارات لامتناهية، إلّا أنّ هذا الانفتاح على الخيارات لا يجلب شعور الاتّساع، بل الضيق، فكلّ شيء متاح، لكن لا شيء ثابت[1].

 

اختراع الحاجات

في كتاب «سياسات السعادة»، تنوّه نورنبيرج إلى أنّه في كثير من الأحيان يُنْظَر إلى علامات القلق على أنّها ’طبيعيّة‘، إذ نفترض أنّ المشاكل النفسيّة وباء عالميّ؛ أي أنّ المراهقين هم بطبيعتهم غير راضين عن مظهرهم الخارجيّ، وأنّ الجشع والاستحواذ والمنافسة صفات فطريّة في الإنسان. لكنّ ما يجب التفكير فيه أنّ هناك مليارات الدولارات الّتي ينفقها المسوّقون في استهداف المراهقين، وغرس الاعتقاد بأنّ الممتلكات المادّيّة ستضمن لهم الحبّ والتقدير الّذي يتوقون إليه، إذ تكون الرسالة الأساسيّة لوسائل الإعلام هي: "إذا كنت تريد أن تُرَى، وتُسْمَع، وتُقدَّر، وتكون محبوبًا، يجب أن يكون لديك ممتلكات مادّيّة متمثّلة بالملابس والألعاب"، في حين أنّ الحقيقة تكمن في أنّ الاستهلاك يؤدّي إلى مزيد من المنافسة والحسد، وهو ما يجعل المراهقين أكثر عزلة وانعدامًا للأمان وغير سعداء؛ فيؤجّج المزيد من الاستهلاك المحموم في حلقة مفرغة.

هكذا تستغلّ الثقافة الاستهلاكيّة العالميّة حاجة الإنسان الأساسيّة إلى الحبّ، وتحوّلها إلى جشع لا يشبع[2]، لذلك يبدو أنّ مؤشّرات السعادة والرفاهيّة في العصر الحديث هي كمّيّة السلع المادّيّة المستوردة ونوعيّتها، الّتي يستهلكها الناس والمنازل الّتي يعيشون فيها، والأدوات الّتي يمتلكونها، أمّا مَنْ لا يملك، فيحلم بالتملّك، لأنّ فكرة الرضا والاكتفاء غير مقبولة، وغير متاحة؛ فثمّة عجلة إنتاج، وعلى الفرد أن يستهلك لا محالة، سواء كان هذا المنتج بيبسي أو شوكولاتة، أو شعورًا كان أو تجربة حسّيّة.

أمّا بالنسبة إلى عمل إميلي في التسويق، وكونها مؤثّرة في منصّة «إنستغرام»، فذلك يعبّر عن نمط الحياة الّتي يتبنّاها الكثيرون، وعن تطلّعات الأفراد في المجتمع المعاصر، الّذي وصفه جي ديبور بدقّة على أنّه مجتمع الفُرجة؛ فإميلي الفتاة الأمريكيّة ذات الملامح الجميلة، تقدّم رغبتها في أن يراها الآخرون تعيش حياتها كما تريد، وهو ما يحاكي لعنة الإنسان الحديث في سعيه المحموم للظهور، ورغبته في أن يكون مرئيًّا بأيّة طريقة كانت. هنا لا تُعَدّ وسائل التواصل الاجتماعيّ مجرّد أداة أو ديكور للحياة الواقعيّة، بل تصبح هي في حدّ ذاتها الحياة الواقعيّة والنموذج المهيمن في مختلف المجالات. بهذا يصير الرمز والصورة أهمّ من الواقع، وبدلًا من أن تكون هذه العوالم الّتي يُطْلَق عليها جزافًا بالافتراضيّة وسائل للإنسان، أصبح الأخير وسيلة لها. تفتح إميلي «الإنستغرام» لديها ليتحوّل إلى مسرح تؤدّي فيه دور الممثّلة، وتتابعها مجموعة هلاميّة من البشر نسمّيها ’الجمهور‘ أو ’المتابعين‘، وهنا تتحجّم الأفكار وتتضخّم الذوات بفعل الرأسماليّة الّتي سلعت كلّ شيء؛ إذ طالت معاني الحياة مثل الحبّ والأخلاق، حتّى أصبحت الأخيرة قابلة للتأويل.

 

 

في الجزء الأوّل من المسلسل، تقع إميلي في حبّ حبيب صديقتها، ولا تستطيع منع نفسها من أن تخوض معه بعض اللحظات الخاطفة، دون أن يشعرنا المسلسل بأنّ ثمّة ما يستدعي الصراع الأخلاقيّ؛ فكلّ شيء يبدو خفيفًا مثل خفّة ظلّ إميلي، بل أكثر من ذلك، فإنّ هذا السلوك يمكن أن يكون محبَّبًا في ظلّ مجتمع، يعظّم المرونة وتمييع المفاهيم، وحالة التجديد المستمرّ الّتي ترنو إلى طغيان الفرديّة على حساب أهمّيّة الجماعة، والعلاقات الاجتماعيّة الإنسانيّة مثل الصداقة؛ إذ ننتقل من أفراد المجتمع إلى مجتمع الأفراد، وفي هذه الحالة يصبح كلّ فرد يواجه مشاكله وحده. أمّا العلاقات الاجتماعيّة الّتي نراها في مساحات المعارض والحفلات، فهي ضرب من السطحيّة، وبهذا يصبح التحديث والتجديد في حدّ ذاته هو الهدف؛ فإنّ ما تتميّز به طريقة الحياة الحديثة يكمن في التحديث القهريّ والإدمانيّ[3].

 

ضدّ خطاب السعادة 

في المحصّلة، ربّما يجدر بنا الحذر عند التعامل مع مفاهيم السعادة الّتي تبدو مفرغة من السياسة، والّتي يفكّر فيها البعض بوصفها مشاعر ذاتيّة، إلّا أنّها في ظلّ البنى الرأسماليّة والليبراليّة الّتي تحيط بنا تصبح مفاهيم مفخّخة، جرت مأسستها بما يخدم هذه البنى. كذلك السينما والدراما يمكنها أن تكون مجرّد أدوات جُنِّدَت لذات الغرض. سيساعدنا هذا المنظور على بناء فهم نقديّ للعالم، نستطيع من خلاله أن نكون يقظين للكيفيّة الّتي تؤثّر بها علاقات القوّة بيننا وبين البنى والأنظمة في صياغة مشاعرنا، وإلّا فإنّ محاولة فهم مشاعرنا خارج ذلك لن تتجاوز الفهم السطحيّ لها، الأمر الّذي سيجعلنا في حالة دائمة من السعي المحموم نحو السعادة الّتي حُدِّدَت ضمن معايير ليبراليّة تطالبنا بإعادة هيكلة رغباتنا الّتي نكتشف بالمحصّلة أنّها ليست رغباتنا الذاتيّة، بل ما تريد لنا الأنظمة أن نرغب فيه.

 

من مسلسل «إميلي في باريس» (2022)

 

في كتابها «وعد السعادة» (2010)، تتحدّث سارة أحمد عن وجود صراع سياسيّ حول الكيفيّة الّتي نفسّر بها المشاعر الصالحة والسيّئة، وتلك تدور بشكل واضح حول سؤال بسيط، ألا وهو: مَنْ الّذي يفرض مشاعره على الآخر؟ في هذا الصدد، تؤكّد سارة أحمد ضرورة التمسّك بالألم، بصفته مصاحبًا للوعي النقديّ، والنضال ضدّ السعادة حسب ما يروّجها على أنّها التزام ومسؤوليّة تجاه الإحساس الجمعيّ بالرضا؛ إذ يُحافَظ عليها من خلال محو علامات الاضطهاد تحت شعارات البهجة العامّة. لذلك تدعونا سارة أحمد إلى تغيير سياسة السعادة إلى سياسة الغضب؛ فأرشيف النشاط السياسيّ هو أرشيف غير سعيد؛ إذ إنّه مليء بصراعات جميع أولئك الّذين هم على استعداد لأن يفصحوا عن مشاعر الغضب والبؤس. إنّ الانخراط في النشاط السياسيّ والنضال الاجتماعيّ يعني أن يتورّط المرء في صراع ضدّ خطاب السعادة المسموم[4].

 أمّا شعورنا بالتوق إلى عوالم أخرى أكثر سعادة، والحنين المجهول الّذي ينتابنا، فيمكن أن يكون أنقى من كونه لعنة العصر الرأسماليّ الاستهلاكيّ. تعجّ ذاكرتنا بالشخصيّات الكرتونيّة الّتي كانت تبحث عن السحر والدهشة والسعادة، وكانت مفعمة بالأمل رغم الظروف الصعبة المحيطة، مثل جودي أبوت في مسلسل الرسوم المتحرّكة «صاحب الظلّ الطويل» و«سالي» و«إنستازيا»، اللواتي كنّ يَتُقن إلى عالم مليء بالخير والسلام والإنسانيّة بأعمق صورها، ويجدن السحر بالنعم الصغيرة.

 


إحالات

[1] Zygmunt Bauman. Liquid fear. (John Wiley & Sons, 2013).‏

[2] H Norberg-Hodge, Economics of happiness. Gaian economics: Living well within planetary limits, 2013 pp.144-146.

[3] Zygmunt Bauman, Liquid love: On the frailty of human bonds. (John Wiley & Sons, 2013).

[4] Sarah Ahmed, The promise of happiness. In The Promise of Happiness, (Duke University Press, 2010).

 


 

غدير محاجنة

 

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.