«أرواح إينشرين»... نسويّة فردانيّة لا تفقد إنسانيّتها

من فيلم «أرواح إينشرين» (2023)

 

يحكي فيلم «أرواح إينشرين» (The Banshees of Inisherin 2023)، للمخرج البريطانيّ الإيرلنديّ مارتن مكدونا، عن بادريك، فلّاح إيرلنديّ بسيط وساذج، يقطن في جزيرة إينشرين المملّة والخالية من التشويق، والبعيدة عن أيّ حدث مفصليّ تاريخيّ للإنسانيّة، إلى درجة أنّها ليست طرفًا في الحرب الأهليّة الإيرلنديّة، الجارية خلال العشرينات من القرن الماضي.

يكتشف بادريك في أحد الأيّام أنّ صديق العمر، كولم، لم يَعُدْ يريد أن يكون صديقه لبقيّة العمر أو حتّى أن يحادثه، ذلك لأنّه قرّر أن ينهمك بتأليف موسيقى الكمان وعزفها، وأن يصبح شخصًا مهمًّا بدلًا من الانشغال بصغائر الأحاديث الساذجة لساعات، عن المزرعة والرعي والحيوانات وشرب الجعّة. تخلق فردانيّة كولم القاسية والمتطرّفة والفاقدة للإنسانيّة اغترابًا شديدًا لدى بادريك؛ فالمرض الأوّل من أمراض التمدّن هو العزلة، والضحيّة الأولى لموت حياة الريف هي الصداقة.

يعود بادريك إلى البيت كي يشكي حاله ويأسه، إلى المرأة الّتي نظنّ في البداية أنّها زوجته، فنكتشف أنّها أخته شيفون قويّة الشخصيّة، البسيطة المظهر، العميقة الفكر، المحبّة للقراءة، الّتي تقاسم أخوها بيتهما وتحبّه على نحو غير محدود. الصراع الّذي تعانيه شيفون، يكمن في أنّها مثل كولم باتت تعاني الاغتراب، وباتت تدرك غياب الأفق والمستقبل على جزيرة إينشرين، وخلال دفاعها عن أخيها الّذي أُقْصِي، فإنّ كولم المبدع الّذي بات نخبويًّا، يذكّرها بضياع إمكاناتها بالقرية البسيطة.

 

 

إلّا أنّ شيفون بعكس كولم، تملك فردانيّة وتحرّريّة لا تُفْقِدُها إنسانيّتها، وهذا ما يؤجّج صراعها الداخليّ عندما تحصل على فرصة عمل في المدينة على البرّ الإيرلنديّ، في ذات الوقت الّذي تشتدّ فيه معاناة أخيها الّذي يتعامل مع الفقدان بأسوأ الأساليب، بما فيها الاقتتال المباشر مع كولم، وهو ما يجعلها تبكي في أوقات الليل بشدّة لأنّها ستترك أخاها في أسوأ أيّامه.

في النهاية، تقرّر شيفون الرحيل، وتطلب من أخيها أن يحافظ على كتبها عندما تدرك أنّ حقائبها لا تتّسع، وتقول له إنّ هذه الكتب وأنت، يا أخي، هو كلّ ما لديّ، قبل أن تعانقه باكية وترحل. تتحرّر شيفون في النهاية، لكنّها تصلّي ألّا تصبح سعادتها مثل سعادة كولم، سعادة اغترابيّة قاسية آتية على حساب الآخرين. وعندما تصل شيفون إلى مسعاها التحرّريّ، ومكانها الّذي تريد في الحياة، ترسل رسالة إلى أخيها طالبة منه أن ينضمّ إليها.

 

الرجل الكرتونيّ: مقارنة بأعمال أخرى

البيئة الاستبداديّة تُنْتِج فنًّا رديئًا، ليس فقط من القامع بل من المقموع، ذلك لأنّ العلاقة بين القامع والمقموع تُفْقِد كليهما الإنسانيّة؛ فلا يمكننا أن نمثّل المستعمِر بصورة إنسانيّة ومعقّدة، وهو يعمل أعمالًا قاسية وبسيطة التفسير مثل سرقة الأرض. هنا، تصبح جودة الفنّ وعدم طغيان الرسالة الأيديولوجيّة عليه محض ترف فكريّ.

من هنا، يمكن تفهّم التحدّيات الّتي يواجهها العمل النسويّ الروائيّ والمسرحيّ والسينمائيّ والنقديّ في فلسطين، في محاولته أن يوازن بين جودة العمل ورسالته، في ظلّ البيئة الاستبداديّة الأبويّة، حيث لا يمكن إنتاج عمل جيّد إلّا في حالات استثنائيّة، أمثلتها قليلة مثل سينما إيليا سليمان المناهضة للاستعمار، الّتي يبرع فيها، عبر السخرية والكوميديا السوداء في تحويل ’الاحتلال الكرتونيّ‘ إلى نقطة قوّة بدلًا من نقطة ضعف.

إلّا أنّ ثمّة عددًا من الإشكاليّات، أوّلها أنّ العمل الأدبيّ النسويّ يملك مساحة أوسع لا يملكها العمل الأدبيّ المناهض للاستعمار، ذلك لأنّ العلاقة بين المرأة والرجل وكليهما والمجتمع أكثر تعقيدًا بكثير من العلاقة الاستعماريّة؛ فبينما يمكن للرجل والمرأة أن يتشاركا بيتًا واحدًا، ومن ذلك البيت تخرج قصص لا حصر لها، فإنّ العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر وجوديّة تقوم على انعدام المساحة الرماديّة في ظلّ تهجير المقموع وتطهيره عرقيًّا.

من ناحية ثانية، فإنّ بيئة الاستقطاب الثقافيّ والاجتماعيّ كذلك تُنْتِج فنًّا رديئًا، مثل الفيلم النسويّ «Darling Don’t worry»، الّذي يستوحي شخصيّة القامع الذكوريّ بصورة غير دقيقة من أفكار المفكّر اليمينيّ جوردان بيترسون، قبل أن يوازي الفيلم في سطحيّته ورداءته أفكار الّذين ينوي انتقادهم؛ أي العمل الأكاديميّ السيّئ الّذي ينتجه بيترسون وغيره من مفكّري اليمين الجديد. بيئة الاستقطاب هذه لا تستغلّها المبدعات الإناث فحسب، بل المبدعون وأشباه المبدعين الذكور الّذين لديهم القدرة على قراءة البيئة الثقافيّة الدارجة والترندات، ومن هنا يأتينا وابل من روايات الكتّاب الذكور الرديئة، الجالدة للذات الذكوريّة، والمتعطّشة إلى الشهرة والانتشار، بغضّ النظر عن جودتها.

 

 

أمّا الإشكاليّة الثالثة في عدم دقّة تمثيل العلاقة بين المرأة والرجل، فهي تكمن في تمرير النزعات الاستشراقيّة ما بين سطور الفنّ المؤدلج، خاصّة في بيئة التمويل الإسرائيليّ والأوروبّيّ، وفي بيئة الاستشراق الجديد الّذي يُوَظَّف تفسيرًا يلقي اللوم على العرب وثقافتهم، تفسيرًا لعدم تقدّمهم في مسار بناء أوطانهم في زمن العولمة، ووراء فشل الانتفاضات العربيّة. من المفيد هنا الرجوع إلى نقد غالب الهلسا لصورة الآخر العربيّ في الأدب الفلسطينيّ الّذي يقدّس ’فَلَسْطَنَة‘ الهويّة الوطنيّة القُطريّة، ويشيطن الآخر العربيّ، جاعلًا إيّاه الرجل الغنيّ الجشع الّذي تواطأ مع الاستعمار وضيّع الوطن.

تتشابه صورة هذا الآخر العربيّ مع صورة الآخر الذكَر في العمل النسويّ المعاصر. يكفي الرجوع إلى الشخصيّة الّتي يمثّلها هنري أندراوس في فيلم «برّ بحر» (2016)، لنجد أنّ المخرجة ميسلون حمّود قد صنعت فرانكشتاين يكدّس أسوأ نزعات الذكوريّة في شخصيّة واحدة يصعب تصديقها. هو الذكر الضعيف، موضع السخرية، المتخلّف، المنافق اجتماعيًّا، الّذي يدّعي التديّن، الفاشيّ الإسلاميّ، الظلاميّ، الكاذب، المهووس بالجنس، الممارس للخيانة، المغتصب، السهل الإسقاط والابتزاز جنسيًّا.

 

الرجل الأخ

الإنجاز السرديّ لدى فيلم «أرواح إينشرين»، يكمن في قدرته على تعدّي كلّ تلك الإشكاليّات ببراعة وسلاسة، فمن الناحية الأولى يقدّم هذا العمل علاقة تشارك بين المرأة والرجل، بل علاقة حبّ فريدة لاجنسيّة بين أخت وأخ، بالإضافة إلى علاقة الحبّ اللاجنسيّة بين الرجلين الصديقين بادريك وكولم. علاقة تبتعد عن ثنائيّة القامع والمقموع، وتتسامى عن جعل التصنيف الجندريّ أساسيًّا، لكي تفسح المجال لرؤية شخصيّة الرجل البسيط والمرأة المتعلّمة، الّتي أتاحت لها ثقافتها ونضوجها الاعتراف بأنّ البسطاء أيضًا معقّدون وأذكياء بطريقة خاصّة.

تملك هنا الشخصيّة النسويّة الكثير من السلطة في حياتها، بما فيها سلطة حماية أخيها والدفاع عنه، وكذلك سلطة الرحيل وبدء حياتها الخاصّة بعيدًا عنه، وهنا هي لا تحرم نفسها من الرحيل بسبب القمع الذكوريّ، بل بسبب خياراتها وحساباتها ومشاعرها هي.

من الناحية الثانية، يبتعد هذا العمل عن النخبويّة ودورها في الاستقطاب الثقافيّ بين النخبويّين والشعبويّين. وذلك عن طريق رفض شيفون نخبويّة كولم القاسية، والفظّة، والمدمّرة للذات. لم يتّخذ الفيلم الطريق الكسول السهل بمقارنة شيفون المثقّفة بأخيها الجاهل، بل عقد المقارنة بين شيفون العبقريّة الخفيّة بكولم الّذي يريد أن يصبح عبقريًّا يتذكّره التاريخ. هي لا تدحض نخبويّة كولم فحسب، بل تريه أنّ مستوى ثقافته وعلمه الّذي يفتخر به ليس قويًّا بقدر ما يعتقد، عندما تفاجئه هو والجميع في القرية، وتخبره أنّه جانَب الدقّة وأخطأ بشأن تفاصيل متعلّقة بتاريخ الموسيقى السيمفونيّة في أوروبّا. من هذا المنطلق، قدّم هذا العمل شيفون بوصفها شخصيّة نسويّة فاعلة وديناميكيّة، بدلًا من تقديمها ضحيّة عاجزة، الّتي تنتظر أن تصبح مادّة استقطاب بين النخبويّين والشعبويّين.

 

الإيرلنديّ بحسناته وسيّئاته

يُظهر هذا العمل، من الناحية الثالثة، الحياة اليوميّة الإيرلنديّة بصدق وأمانة، بحسناتها وسيّئاتها، على نحو يتحدّى صورة الإيرلنديّ بصفته آخر، يناقض الحضارة الإنجلو-سكسونيّة، كما أشار إدوارد سعيد في كتاب «الثقافة والإمبرياليّة»؛ إذ يظهر مثل هذا التحدّي عندما ينتقد بادريك نخبويّة كولم، ويتساءل لماذا بات يتحدّث مثل البريطانيّين.

 

 

من خلال تصوير هذه الحياة اليوميّة، تكسّر كلّ من النساء الإيرلنديّات والرجال الإيرلنديّين في هذا العمل الصورة النمطيّة، بتقديم شخصيّات إنسانيّة معقّدة، في ذات الوقت الّذي لا يتسوّل فيه العمل القبول والاندماج من قِبَل الآخر المهيمن الغربيّ والبريطانيّ. هنا تصبح علاقة المرأة بالرجل متحرّرة من الخضوع لتصنيف حضاريّ هرميّ مسبق؛ وهو ما يتيح كشف الضعف الداخليّ (Vulnerability) لدى ذِكْر بلدان الهامش وطبقاته، غير الممتثل للمعايير الحضاريّة الغربيّة، وذلك بدلًا من احتقار الضعف الخارجيّ (Weakness) لهذا الذكَر، من منظور التمدّن لدى المجتمع الرأسماليّ القائم على عبادة النجاح والمنافسة الشرسة.

ليس المطلوب هنا أن يُنْتِج الفنّ قصصًا تتحدّث عن واقع ورديّ غير موجود، وبناء سرديّة رسميّة تمحي أصوات المهمّشات والمهمّشين؛ فالصفة التوثيقيّة للفنّ الّذي يتحدّث عن القمع مهمّة جدًّا من أجل كشف الانتهاكات ورفع الوعي بشأنها. لكن في ذات الوقت، فإنّ موجات الأدلجة في الفترة الليبراليّة المتأخّرة، الّتي باتت هي السرديّة الرسميّة، والّتي حوّلت كلّ قصّة إلى قصّة قامع ومقموع، أدّت بنا إلى تقدير فرادة أعمال مثل «أرواح إينشرين»، وقدرتها على تقديم إمكانيّات ومسارب سرديّة جديدة وغير متوقّعة، لم نكن نعلم بوجودها. 

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.