«حمّى البحر المتوسّط»... صراع الحياة والموت

من فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

 

يعبّر فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)، لمخرجته الفلسطينيّة مها حاجّ، عن حاجتنا المتجدّدة والمتطوّرة والمتحوّلة إلى تعرّف ذواتنا ومجتمعنا. من هنا، فإنّ الكتابة عن الفيلم تتّخذ عمليّات تحليليّة متعدّدة، إحدى هذه العمليّات هي العلاقة التداخليّة بين الفيلم والمجتمع الّذي أنتجه. وقد أُوِّلت الأحداث الاجتماعيّة لتشكيل الفيلم بحيث تكرّرت الأحداث غير المتوقّعة من ناحية، وكشفت عمّا يريد أن يقوله من ناحية أخرى.

 

وليد وجلال: صراع الحياة والموت

تتحلّى الشخصيّتان الرئيسيّتان في الفيلم بحالتين: الحالة النفسيّة والحالة الإجراميّة. يعبّر وليد (عامر حليحل) عن الحالة النفسيّة الّتي تشكّل الممارسات والمواقف اليوميّة، ونجد ذلك في تعامله مع حالة الاكتئاب الّتي شكّلت المقوّم الأساسيّ لوجوده في الحياة أو عدمه. كما عبّر عن أنّ الحالة النفسيّة لابنه شمس هي أساس معاناته من مرض الحمّى؛ أي أكثر من مجرّد مرض جينيّ. وعلى الرغم من محاولة وليد معالجة هذه الحالة النفسيّة لديه، إلّا أنّ محاولاته بقيت مستمرّة في الدفاع عن هذه الحالة وإنتاجاتها، من خلال ممارسات وأفعال ومحاولة كتابة، وذلك للحاجة الماسّة إلى الحياة – الموت بمقوّمات إنسانيّة/ إجراميّة. من هنا تتداخل شخصيّة وليد مع شخصيّة جلال (أشرف فرح) الّتي تبدو ظاهريًّا مفعمة بالإجرام والمتعة.

 

من فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

 

يستند الفيلم إلى رواية الأحداث والتنبّؤات الفاعلة في المجتمع، والّتي تُعْتبَر من علامات تميُّزه واختلافه عن بقيّة المجتمعات الأخرى؛ حيث يروي الفيلم وقائع يوميّة معيشيّة وعلاقات اجتماعيّة للشخصيّتين في حيفا، بلغة اجتماعيّة ليست فرديّة ولا معزولة عن الفضاءات الاجتماعيّة، وذلك من خلال الإمساك بالخيوط الاجتماعيّة الّتي تحكم العلاقة بين وليد وجلال، من ناحية، والحرّيّة في التعبير واختراق جوانب الحياة الإنسانيّة من ناحية أخرى.

إضافة إلى ذلك، لا يكتفي الفيلم بالحالة النفسيّة أو الإجراميّة فحسب، بل يحتاج إلى التغيّرات المجملة لهاتين الحالتين، ومن ثَمّ يكون تمثيلها. سمات الفيلم هذه تحيله إلى حدثين: الحدث النفسيّ الّذي يعانيه الفرد الاجتماعيّ، متجاهلًا أو قاصدًا تجاهل وقائع يوميّة تحدث، ويعيش الصراع والخداع والتمويه في مجتمع تحت الاستعمار الصهيونيّ. والحدث الآخر الإجراميّ الّذي يكشف ما أخفاه الحدث النفسيّ وما أراد قصدًا أن يخفيه، يقوّضه وينفيه؛ إذ يتجلّى هذان الحدثان خلال الحوار الّذي كان بين وليد وجلال، عندما تعرّفا على بعضهما بعضًا عن قُرب. هذان الحدثان يتطوّران ويتغيّران بظروف الشخصيّتين الرئيسيّتين، وليد وجلال، المتبدّلة والمركّبة. وفي كلا الحدثين يُظهِرُ الفيلم العلاقات ونمط إنتاجها، وهو نمط معرفيّ خاصّ في مجتمع فلسطينيّ تحت الاستعمار، الّذي يُثمر الحالة النفسيّة، ويُنضح الحالة الإجراميّة إذا ما قورنت بالمجتمعات الأخرى.

وليد: أنت جبان، تخاف من الموت.

جلال: الجبان هو الّذي يخاف من الحياة.

 

بين الجريمة والمرض

لا يعبّر الفيلم عن رؤية واحدة لأفراد المجتمع الواحد الّذين يعيشون في ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة متماثلة، وإنّما عن رؤًى متناقضة ومتضاربة حالها حال الشخصيّات. ممّا لا شكّ فيه أنّ الشخصيّتين تعيشان ظروفًا متماثلة ومتشابهة، إلّا أنّهما لا يملكان رؤية واحدة لمفهوم الحياة أو الموت، بل يُنتجان رؤًى مختلفة عديدة نستطيع تعرّفها من خلال التطرّق إلى العمليّات المتناقضة والصراعات داخل الشخصيّتين. كما لا تحتمل هذه العمليّات والصراعات وضعها في بوتقة واحدة.

 

 

إذ حاول وليد البحث عن وضع جديد لاستيعاب الصراع في الظروف النفسيّة، وهو الموت، في حين كان جلال مهدّدًا بالموت، ويحاول البحث عن وضع جديد لاستيعاب الصراع في الظروف الإجراميّة، وهو الحياة. لم تجد الشخصيّتان حلولًا للصراع، وإن وجدوا الحلول فقد كانت مؤقّتة تُخفي ما كان وما هو كائن، وتعجز عن إخفاء ما سيكون - في حالة وليد، لجأ إلى مستشارة نفسيّة لمعالجة وضعه النفسيّ، وفي حالة جلال، طعن المدين منه بالمال لمعالجة وضعه الإجراميّ؛ بكلمات أخرى، كانت الحلول غير مضمونة لأنّ الأحداث النفسيّة والإجراميّة بالنسبة إلى الشخصيّتين تتحوّل إلى ما قد لا تتوقّعه الحلول نفسها.

إزاء هذا الصراع، استطاع الفيلم أن يعكس التعدّد في الرؤى داخل المجتمع الحيفاويّ والمجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948، وأسمعنا صوت التناقضات لدى المجموعة الاجتماعيّة بلغة وآليّات خاصّة به لتشكيل معنى الوجود أو عدمه.

 

الاستعمار وخلق التأزّم النفسيّ 

يكشف الفيلم، في ما يكشف، ما أخفته وبطّنته دولة الاستعمار الصهيونيّ في حياة المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة؛ فهي لم تكن مسؤولة عن الحالة النفسيّة للفلسطينيّ فقط، بل مسؤولة أيضًا عن الحالة الإجراميّة في المجتمع الفلسطينيّ. وبالتالي يكشف الفيلم ما خَفِيَ بفعل الاستعمار، وما لم يستطع أفراد المجتمع الفلسطينيّ رؤيته أو رؤيته دون إدراكه، وذلك نتيجة لسطوة الاستعمار وأفكاره السائدة عن المجتمع الفلسطينيّ.

كما أظهر الحالات المختلفة الّتي قد تحدث داخل المنظومة العائليّة، مثل العلاقة بين الشريكين، وتبدُّل الدور النسويّ والذكوريّ. وبهذا، يطرح الفيلم رؤية تعبيريّة مغايرة عن هذه المنظومة، مع تبيان قدرتها على الاحتواء أو عدم قدرتها على ذلك، وهذا يعتمد على الظروف الفكريّة الموجودة مكوِّنًا من مكوّنات الرؤية العامّة للمنظومة العائليّة خاصّة، والاجتماعيّة عامّة.

علاوة على ذلك، يوضّح الفيلم ثنائيّة الموقف الوطنيّ الفلسطينيّ لدى أفراد المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة، الموقف الأوّل يمثّله وليد، وهو الملتزم بالمفاهيم والمبادئ الوطنيّة، نشاهد ذلك من خلال رفض وليد أن تكون القدس عاصمة ’إسرائيل‘، كما ورد على لسان ابنه شمس الّذي سمع ذلك من معلّمة الجغرافيا ’رندا‘. ونشاهد أيضًا رفض وليد استخدام اسم شارع ’تيوسيون‘ في حيفا، كما ورد على لسان جلال وصحّحه وليد بأن يستخدم الاسم الفلسطينيّ شارع ’الجبل‘.

 

من فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

 

من الممكن اعتبار أصحاب هذا الموقف أنّهم نجوا من سطوة الاستعمار المعرفيّة، على خلاف الموقف الثاني الّذي يمثّله جلال وهو المهتمّ بالقضايا الاجتماعيّة المختلفة، وغير مكترث بالمسمّيات والمبادئ الفلسطينيّة.

وبناء عليه؛ يعبّر الفيلم عن المجتمع الحيفاويّ بخاصّة، والمجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عمومًا، عن الواقع الاجتماعيّ، النفسيّ والإجراميّ، متضمّنًا إرادة لتغيير هذا الواقع. ثمّ اتّضحت - في نهاية الفيلم – الرؤية، وأصبحت أكثر شمولًا وعمقًا، وأرحب إنسانيّة؛ فقد تعرّشت الإنسانيّة فوق المعايير النفسيّة والإجراميّة، حيث أعطت الإنسانيّة دفعة قويّة وجريئة نحو قرار الحياة أو الموت. وهنا نتساءل عن أثر هذا التحوير والتحوّل في كلٍّ من الشخصيّتين وليد وجلال، جلال الّذي آثر على نفسه الموت في سبيل إبقاء وليد في الحياة، ووليد الّذي بقي في صراع الحياة والموت.

 


 

لبابة صبري

 

 

 

محاضرة في «جامعة بيت لحم»، وباحثة متخصّصة في سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الفنّ والأدب والمسرح، تعدّ رسالة الدكتوراه حول أنثروبولوجيا ممثّلي «مسرح الحكواتيّ» في القدس.