«هجوم العمالقة»... النجاة في المعنى

من مسلسل «هجوم العمالقة» (2010- 2023)

 

شكّلت حتميّة الموت محور اهتمام مركزيًّا في حياة البشر، وساهمت في تشكيل وعيهم الفرديّ تجاه قيمة الزمان في الحاضر والمستقبل. تحوّل الوعي الفردانيّ مع مرور الوقت إلى وعي جمعيّ؛ وهو ما أدّى إلى بناء الجماعة، وفي ما بعد الحضارة. حضر الموت وحتميّته في كلّ الموروثات الثقافيّة الحضاريّة للجماعات، باختلاف زمانها ومكانها. كُتِبت القصص، نُظِمت الأشعار وخُلِقت الأساطير بأغلبيّتها حول الموت، حتّى أنّ أقدم نصّ مكتوب اكتُشِف عبر التاريخ يتحدّث عن حلم جلجامش في الخلود. حتّى عصرنا الّذي طغت فيه العقلانيّة على الحضارة، لم تغب فكرة الموت عنه، فجُنِّدت جميع البحوث العلميّة لخدمة هدف بشكل أو بآخر، وهو التحكّم بالموت، أو شكله على الأقلّ، حتّى أنّ ثمّة مَنْ يطمح لإحياء حلم جلجامش مرّة أخرى.

 

«هجوم العمالقة»... البشريّة في مواجهة فنائها

تتصدّر مانغا «هجوم العمالقة» منذ صدورها في عام 2009 قائمة القصص المصوّرة الأكثر انتشارًا، وأكثر مسلسلات الأنيمي مشاهدةً منذ عرضها على الشاشة أوّل مرّة قبل عقد تقريبًا. تدور القصّة الّتي ألفها ’هاجيمي إيساياما‘ في عالم خياليّ، تحاول البشريّة فيه النجاة من عمالقة لا تحمل إرادة إلّا التهام الإنسان، ولذلك يلجأ مَنْ تبقّى منهم إلى داخل ثلاثة أسوار عاتية، تحيل في ما بينهم لمدّة 80 عامًا. تبدأ قصّتنا مع انتهاء هذا الهدوء الّذي يُظهر تحطّم أحد الأسوار من قِبَل عملاق يفوقها ضخامة وقوّة؛ الأمر الّذي يؤدّي إلى التهام جزء آخر ممّن تبقّى من البشر.

 

 

يصرّ إيساياما منذ اللحظة الأولى للقصّة على تذكيرنا بما نحاول التغاضي عنه؛ حتميّة موتنا، وأن لا جدار يحيل بين الإنسان ووفاته، مهما كان طوله وعدد السنوات الّتي قضاها خلفه. ينكشف أبطال قصّتنا الثلاثة: إيرين وميكاسا وآرمين، منذ اللحظات الأولى على حقيقة الحياة بأقسى صورها؛ الموت. تدفع صدمة الواقع أبطالنا إلى البحث عن الحرّيّة، حيث تقودهم للالتحاق بكتيبة المهمّات الاستكشافيّة؛ ركبٍ يحرّرهم من ذلك الموت القادم من وراء السور، ويطمح لاكتشاف حقيقة العالم المليء بالخطر من جديد. مخاطر تُرغم الكتيبة على التضحية بأفرادها باستمرار، ولذلك يشهد إيرين ورفاقه ما كبروا عليه، موت مُحبّيهم الواحد تلو الآخر، وهذه المرّة على أيدي بشر وعمالقة، حتّى دون معرفة السبب.

 

تخلّى عن أحلامك ومُت

نُشِر في نهاية العام المنصرم آخر فصول قصّتنا، وفي آذار (مارس) الأخير نُشِرت حلقات جديدة منه. تُعيدنا الفصول الأخيرة بغالبيّتها إلى نقطة البداية، فالبشر فعلًا في أواخر القصّة على حافّة الانقراض بعد أن فُنِّدت هذه الحقيقة؛ فالعالم الخياليّ الّذي نحن فيه شهد بفعل حرب دامية موتًا جماعيًّا غير مسبوق من البشر. لم يتجنّب إيساياما للحظة واحدة قتل شخصيّات كبرت معنا خلال كلّ تلك السنوات؛ فالموت في عينيه حقيقة لا مجال لقبولها أو رفضها، إنّها الواقع. قُبيل ذهاب قائدة الفيلق ’هانجي‘ إلى حتفها، سألت الجنديّ الأقوى في تاريخ البشريّة ’ليفاي‘ عمّا إذا ما كان القائد الّذي خلّفته ’إيروين‘ يراقبها من مكان ما، مفتخرة بها وبقرارها الأخير.  

كشفت الفصول الأخيرة عن إيمان إيساياما المتجذّر، فحتّى عند بنائه لعالم خياليّ يستطيع التحكّم فيه، خلق لنفسه حياة ما بعد الحياة الّتي يعيشها الأبطال، وتجلّى ذلك في المشهد الّذي تلا موت ’هانجي‘، حيث استقبلها كلّ مَنْ فارق قصّتنا على مدار كلّ تلك السنوات. وقف على رأس ذلك الوفد ايروين وخلفه جنوده ينظرون نظرة فخر، مرحّبين بخليفته الّتي ظهرت بأبهى صورة لها، سليمة، معافاة، بالرغم من دكّها تحت أرجل العمالقة في المشهد السابق. استقبلوها طالبين إيّاها قصّ قصّتها عليهم؛ لإيضاح ما آلت إليه مساعي إنقاذ البشريّة.  

مات إيروين سابقًا متخلّيًا عن أحلامه في مشهد اعتُبِر بعيون الكثيرين أنّه من أعظم ما قدّمت القصص المصوّرة للعالم، حيث اضطرّ خلال المعركة إلى التضحية بكلّ جنوده لإتمام المهمّة الموكلة إليه، ألا وهي تأجيل موت بعضٍ من فرقة الاستكشاف. من العوامل الّتي جعلت من ذلك المشهد أيقونة عرضه لثلاثة صراعات في داخل ملحمة واحدة: صراع مع الذات، المجموعة والعالم. كانت أولى المعارك الّتي خاضها إيروين بمدى تعلّقه بحلمه الفرديّ مقابل التخلّي عنه، والانضمام إلى حلم البشريّة جمعاء؛ أي التحرّر من ذلك الموت بالنجاة من الموت المحقّق خارج جدران سجن البشريّة لذاتها.

اندلعت الحرب الثانية مباشرة بعد قراره بضرورة انتصار المجموعة على الفرد، وكانت مع المجموعة ذاتها، الّتي سبق أن تولّى حمايتها ودفعها قُدمًا للبحث عن الحرّيّة من الموت. تمحور الصراع حول كيفيّة إقناع الجُند وهم على مشارف الموت باختيار موت أقسى، والتضحية بحياتهم من أجل الجماعة؛ بكلمات أخرى أن يتحوّلوا إلى طُعم أمام مرمى صخور، من دون حتّى أيّ ضمان لنجاح مهمّة إنقاذ بعضٍ من البشر. كبداية، قصّتنا أيضًا وصلت حرب إيروين الثانية ذروتها منذ بدايتها، فمع إعلان المهمّة الّتي أُطْلِق عليها ’المهمّة النهائيّة‘ لم يُجمّل القائد الواقع القاسي، ولم يُخفِ أنّ المهمّة تقضي بالتضحية بالكلّ من أجل احتماليّة ضئيلة لوجود أشخاص ممّن تبقّوا قد يشهدون فجر البشريّة الجديد. فورًا تعالت الأصوات الرافضة للمهمّة تتساءل عن معنى الاستمرار في لحظات انهزام الجماعة الأخير، والفارق الّذي سيُحدثه قبول المهمّة أو رفضها ما داموا سيقابلون الموت.

 

 

تكمن عظمة خطاب إعلان المهمّة الأخيرة في قدرته على خلق ضبابيّة بين الحدود الفاصلة ما بين حروبنا الإنسانيّة الثلاث، حتّى حربنا الّتي نخوضها ضدّ حقيقة العالم وقسوته، حربنا ضدّ حتميّة الموت. في حربه الثانية لم ينفِ إيروين قناعته بأنّ حربه الإنسانيّة مع العالم خاسرة لا محالة، وبأنّه لا مجال للتغلّب على ما لا يمكن التغلّب عليه. إنّ خلط الحروب ببعضها بعضًا، وانشغاله بحربه الثالثة الّتي لطالما شغلته في ظلّ فقدانه جميع رفاقه تحت ظلّها، أنارت له طريقة تساهم في تغلّبه على العالم، حتّى في أحلك اللحظات، حين اتّخذ إيساياما طريقًا مختلفة لحلّ تلك المعضلة، والتغلّب على الواقع، وذلك عن طريق منح المعنى لموتهم.

لا معنى لحياة الفرد فينا، إذا لم يكن معنًى لموته، هكذا ادّعى إيروين وهو يدعو الجُند إلى مقابلة الموت، فحسب مقولته لا معنى لكلّ الّذي نعيشه خلال أيّام حياتنا، لا أحلامنا ولا آمالنا البشريّة، كلّ جهودنا لا معنى لها ما دمنا سنفنى جميعًا في يوم ما، زوالنا حتميّ، خاصّة كلّما اشتدّ واقعنا تركيبًا وصعوبة، هكذا قيل للجنود، حتّى أنّه قد قيل لهم أن قد لا يكون ثمّة معنًى لولادتنا منذ الأساس. لكن رغم ذلك، نجح إيروين في الانتصار في حربيه، من خلال آخر أجزاء خطاب إعلان مهمّتهم الأخيرة: "هل سنقول إنّه لا معنى لحياتنا ولزملائنا الّذين قضوا نحبهم؟ هل كانت حياتهم بدون معنًى؟ كلّا، لم تكن كذلك! نحن الأحياء مَنْ يمنح القيمة لحياتهم. سقط الشجعان والضعفاء، ومَنْ سيتذكّرهم نحن الأحياء، وسنموت مؤتمنين الأحياء من بعدنا على إيجاد المعنى في حياتنا، تلك هي الطريقة الوحيدة الّتي يمكننا فيها الثوران على هذا العالم المجحف: "اغضبوا يا جنودي! اصرخوا! قاتلوا!".

 

الزمن والمعنى

يُعْتبَر الزمان في قصّة «هجوم العمالقة» عاملًا مركزيًّا ومحرّكًا أساسيًّا لسيرورة الأحداث وذروتها، ويعود السبب إلى انكشاف المستقبل لإيرين. إنّ أزمة انكشاف المستقبل ببشاعته أدّت إلى فقدان بطل قصّتنا لمعنى حياته؛ فتحوّل تدريجيًّا إلى جسد منقاد بلا أيّة رغبة في تغيير الواقع، فاقدًا لقيمة تضحيات رفاقه الّتي تمحورت أنّ التغلّب على المستقبل من خلال ربطه بخلق معنى الماضي، والّتي ساهم كلّ الجند فيها من خلال التضحية بأنفسهم. عايش كلّ أفراد عالم إيساياما الخياليّ الموت، فكلّما زادت قوّة الفرد، أصبحت قسوة الموت لعنة عليه؛ فالناجي بنفسه أو الملتجئ إلى الما وراء، ينجو من الموت، وليس من وداع رفاقه وأحبابه، مودّعين الحياة بأقسى الطرق.   

في كتاب «إنسان يبحث عن معنى»، يعترض النمساويّ فيكتور فرانكل على طروحات المدارس النفسيّة النمساويّة الّتي سبقته، وأعادت أصل الإنسان إلى ’إرادة الجنس‘ أو ’إرادة السلطة‘، الطرح الّذي كان مقبولًا لسنوات عديدة في مدارس علم النفس. قدّم فرانكل طرحه البديل بواسطة قصّة ماضيه في معتقلات النازيّين، الّتي أُرْغِم على العمل فيها مرسلًا أقرانه إلى أفران الموت، فهنالك كما يقول سقطت كلّ إرادات الحياة الّتي نظّر إليها مَنْ سبقوه، ففي ظروف قاسية كتلك الّتي عايشها، من غير الممكن البحث عن إرادة الجنس أو السلطة أو القوّة، هناك لا مجال للإنسان إلّا البحث عن المعنى لينجو. إنّ النجاة بالمجمل، وتحديدًا في ظلّ ظروف ظالمة مثل العيش تحت النظام النازيّ، الّتي يفقد فيها الإنسان حقّه في الاختيار أمام القوّة، ويُعاق لتطوير قدراته على تحقيق ذاته المادّيّة، تحديدًا، هناك يجب أن يتمسّك الإنسان في سبيل خلاصه الوحيد، إرادة المعنى.  

إنّ النجاة عن طريق المعنى، كما عرضها فرانكل، مربوطة بعاملين مركزيّين: البحث والإرادة، يُشكّل عامل الزمن فيها محورًا مركزيًّا؛ فحسب فيلسوف المعنى تُوجَّه إرادة الإنسان إلى مستقبله أو شكله على الأقلّ، بالمقابل توجّه عمليّة البحث من خلال ماضي الفرد الكامن فيه، وفي كلّ سرديّة حملها معه خلال حياته، وبين هذين الواقعين يعيش المعنى هنا في الحاضر، ومع اشتداد الظروف تشتدّ الحاجة إلى إيجاده.

 

الذات من أجل الجماعة

تتشابه فلسفة البحث عن المعنى مع مقولة خطاب المهمّة الأخيرة لإيروين؛ ففي نظره، نحن الأحياء مَنْ يمنح قيمة الحياة لمَنْ فارقونا، ونحن المفارقون مستقبلًا، مَنْ نأتمن من بعدنا إيجاد المعنى لحياتنا، من خلال إيجاد المعنى لحياتهم، وهكذا دواليك. إنّ فرانكل كإيساياما لم ينكر قسوة الحياة الّتي نعيش بها، كلاهما يحمل في جعبته ذكريات ماضٍ قاسٍ، وهذا تحديدًا هو ما يدفعنا قُدمًا نحو إرادة المعنى. كلاهما رأى أنّ الأحداث المفصليّة، وتحديدًا تلك القسوة الّتي تقود الإنسان إلى الموت الانفعاليّ داخل الأزمات، أو ما وُصِف حسب فلسفة المعنى الشعور بالبلادة، لا يمكن التغلّب عليها إلّا من خلال معنًى نسبيّ للفرد أو ’التسامي بالذات‘ الخادم لاستمرار الجماعة. ولذلك؛ قيل في تلك الفلسفة إنّ كلّ محاولات النجاة الفرديّة إذا لم ترتبط بالنجاة الجماعيّة هي محض وهم، وفقط بتلك الطريقة يستطيع الإنسان أن ينجو أمام حربه الخاسرة أمام العالم.  

 

 

نجاتنا عن طريق المعنى الّتي عرضها إيساياما في قصّة «هجوم العمالقة»، الّتي نظّر إليها مسبقًا دعاة العلاج عن طريق المعنى، ما هو إلّا بمنزلة طريق يدلّنا على ما فقدناه في شكل حياتنا الحديث؛ ففي عالم تربّعت على عرش الأفكار حول الموت أنّه الخطّ النهائيّ لسباق الفرد في الحياة، ينقص من قيمة المستقبل عنده، تُبيّن لنا تجارب عديدة من حولنا أنّ التغاضي عن شكل المستقبل، الّذي نتركه للقادمين بعدنا، سيؤدّي بنا إلى هلاك هويّتنا الجمعيّة.

إنّ قصّة إيساياما الّتي وُلِدت في اليابان، الشعب الّذي عانى واحدة من أكثر الانهزامات القيميّة والاجتماعيّة في تاريخنا الحديث، هي تذكير لشعبه وباقي الشعوب الّتي خسرت الحروب، وانهزم فيها القائد والأسطورة، بضرورة النجاة عن طريقة نبش الماضي والنظر في إرادة المستقبل. إنّ سعي الشعوب نحو الحرّيّة من الموت القادم من خلف السور، وخاصّة مع توالي هزائمنا، وتغييب قيمة تضحيات من سبقونا في ذاكرتنا الجماعيّة، والتغاضي عن المسؤوليّة الواقعة على عاتقنا، بخلق واقع أفضل للآتين بعدنا، حتّى لو لم نحظَ بفرصة لمشاهدته. خلال العقد والنصف الماضيين، جدّد إيساياما دعوة فرانكل لتذكيرنا، حتّى في أحلك اللحظات علينا، بأنّ ثمّة مَنْ سيقف يومًا ويحاسبنا، سيسألنا عن جهودنا الّتي بذلناها لكي يحصل ما حصل، ومدّة استمراره. فقط بهذه القناعة، وبأنّنا سنقف يومًا غيابيًّا في محكمة التاريخ، سننجو ونتحرّر من سطوة عالم خالٍ من المعنى.

 


 

معتصم زيدان

 

 

 

طالب ماجستير في «قسم الإعلام» في «جامعة حيفا»، حاصل على البكالوريوس في «الفلسفة والإعلام»، ومهتمّ بالخطاب الثقافيّ عند الشعوب والفئات المقموعة.