نساء بيروت في عين العاصفة

«بيروت في عين العاصفة» (2021)

 

كتبوا على الجدران: "بِدْنا خُبْز وعِلِمْ وفرح"، قبل أن تُخْتطَف ثورة اللبنانيّين ضدّ طغاة دولتهم الصغيرة، وتتحوّل هذه الشعارات إلى ذكرى فترة سبقت مزيدًا من التهالك والتداعي السياسيّ والاقتصاديّ. يبدو أنّ ستّ الدنيا بيروت لم تبرح مكانها في قلب الحدث، الّذي اختارت المخرجة الفلسطينيّة ميّ المصري توثيقه في فيلمها الوثائقيّ الطويل «بيروت في عين العاصفة» (2021)، والّذي يُعْرَض ضمن أعمال «مهرجان القدس للسينما العربيّة» (2023)، حيث تجوب مع الكاميرا في شوارع العاصمة اللبنانيّة وبيوتها، وأذهان أربع نساء شابّات عشن تجربة الثورة الشعبيّة لأوّل مرّة، شاركن فيها ووثّقنها من خلال عدساتهنّ وكتاباتهنّ وأغانيهنّ، وطبعت على أجسادهنّ بعض الندوب. خرجت كلٌّ منهنّ لتثور ضدّ سجّانها الخاصّ، والتحمت بالشارع لتتحوّل إلى جزء من نهر بشريّ يجتمع معظم مَنْ فيه على ثورة ضدّ سجّان مشترك.

يسير هذا الفيلم عميقًا في دواخل بطلاته وممارساتهنّ وأفكارهنّ ومواقفهنّ، إلّا أنّ شبح الحرب الأهليّة لا يزال هناك، لم يغادر لبنان ولا نفوس اللبنانيّين، وكأنّ بداية الخَلْق اللبنانيّ بدأت في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1990، وليس لأنّها سنة ميلاد إحدى بطلات الفيلم، نويل.

 

بيروت... ستّ الدنيا 

لطالما كانت بيروت في عاصفة الحروب والاقتتال، وعاصفة الثورة والهبّة، وعاصفة الفساد السياسيّ. لم تهدأ هذه المدينة يومًا، تسقط وتنهض وتمضي، تتبدّل الناس ولا تتبدّل بيروت الّتي كتب لها نزار قبّاني، في قصيدته «يا ستّ الدنيا يا بيروت»:

ما زلت أحبّك يا بيروت المجنونة

يا نهر دماءٍ وجواهر

 

ما زلت أحبّك يا بيروت القلب الطيّب

يا بيروت الفوضى

يا بيروت الجوعِ الكافر... والشبع الكافر

 

ما زلت أحبّك يا بيروت العدلِ

ويا بيروت الظلمِ

ويا بيروت السبي

ويا بيروت القاتل والشاعر.

 

كذلك هي بيروت على بُعْد عشرات السنوات من موعد نظم القصيدة، لا تزال الدماء تسيل فيها، ولا تزال جواهرها الظاهرة والدفينة لم تفارق مكانها، لكنّ بريقها يبهت، وتجتاحها ثورة الجوع ضدّ الشبع المفرط، وضدّ الظلم، وضدّ سبي مواردها واحتجازها في أيدي حفنة صغيرة من ورثة الحرب الأهليّة.

هكذا ثارت بيروت محاولةً النهوض من تحت الردم، كما فعلت مدن أخرى في الجوار العربيّ، في ربيع تلاه صيف مُقْفِر. خرج الآلاف إلى الشوارع، صرخوا ضدّ الساسة، وضدّ سرقة خيرات البلاد، وضدّ الغلاء وإفقار الشعب. حاول الشباب والشابّات الثائرين خلق فوضى أمل رافضة لكلّ شيء تربّوا عليه، ضدّ الطائفيّة والطبقيّة، والذلّ، وخطّوا على الجدران بالأسود العريض الصارخ: "حيّ على خير الشَّغَب".  

 

جَمَل وسط بيروت

اختارت المصري بطلات فيلمها من النساء الشابّات اللواتي ما زلن في بدايات العشرينات من العمر: حنين الصحافيّة المسلمة المحجّبة، ولجين الطالبة الجامعيّة العراقيّة، والأختين نويل وميشيل.

تروي الأختان كيف نشأتا في عائلة عانت ويلات الحرب الأهليّة، وتربّتا لأمّ شاعرة ناقدة وأبٍ قرّر مع شريكته للحياة الانطلاق من نقطة الصفر بانتهاء الحرب الأهليّة، وتربية الأمل في أولادهما الأربعة بأنّ البلد لكلّ الناس، فتعزّزت الجرأة لدى ميشيل ونويل، والسعي من أجل العدالة الإنسانيّة والمدنيّة، وضدّ الأحزاب السياسيّة، وتحوّلتا في أوّل فرصة إلى صوت عالٍ مبدع من أصوات الثورة.

 

 

"لا تِلْعَبوا دور الضحِيِّة، شوفوا شو فيكُنْ تِعْمَلوا"، كانت هذه الجملة من العائلة كفيلة لتفجّر لدى الشابّتين نبع نشاط فيّاضًا، فيه ثورة الجيل الجديد المعبَّر عنها بالفنّ الساخر الناقد، ولم يتوقّف رفضهما للواقع عند تأليف الأغاني وتقديمها، بل طبّقتا مقولة العائلة و’فعلتاها‘. مارستا فعلهما الثوريّ على الأرض، ليس بالتظاهر فقط، بل ارتقتا بالنضال عندما قرّرتا النزول إلى وسط بيروت راكبتين على جَمَلَين، وغنّتا بلغة الراݒ «عَ الجَمَل بوسط بيروت» ردَّ فعل مناقض ومناهض لكلّ ما يعرفه وسط المدينة، وكلّ ما يجسّده من حالة اجتماعيّة يُظْلَم فيها مئات آلاف البشر:

أنا بدّي كزدر ع الجمل بـ وسط بيروت

تطلع فيّي الدَرَكي وما حب جَمَلي من الأساس

بس مش حاطّة السنتيور[1] جاوبني بحماس

جَمَلك رح ياكل زَبِطْ[2] وما تجربي تقنعيني

قللي بشواربه السود وبضحكته اللئيمة

قلتله حضرة الدَرَكي اللي بتقوله عَ الراس

أصلًا مين بسترجي يقلّك لأ مَ في عَ جنبك رصاص

عطيت الزَبِطْ للجمل شافوا ورقة ما فهم شو هيّ

قام لَعْوَسه عَ مهلُه بَلَعُه بكل شهيّة

قلتلّه حضرة الدَرَكي زي ما حضرتك طلبت

جَمَلي نفّذ الأوامر وأكلُه للزَبِطْ!

 

في هذا الفعل، وما سبقه من مشاهد أرشيفيّة حول مشاركة النساء في التظاهرات، ورفع شعارات مثل: "شدّوا الهمّة الهمّة قويّة... ثورتنا ثورة نسويّة"، لا يتوقّف اختيار المصري لشخصيّاتها عند حدود البحث عن الحالات المثيرة، بل ينسج هذا الاختيار علاقة بثورات سابقة عرفنا فيها قوّة النساء، في حالة مِنَ التناصّ (Intertext)، فإنّ إعداد كليب برسوم متحرّكة بالأبيض والأسود بطلته طفلة (في الدقيقة 36)، يعيد إلى الأذهان الفيلم الإيرانيّ الملهم «بيرسوبوليس» (2007) المأخوذ عن سيرة ذاتيّة؛ وبطلته الطفلة مارجان الّتي تعرّفت خلال سنوات مراهقتها الأولى إلى معاني الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، وتمرّدت عليها ورفضتها. هكذا جعلت المصري ثورة النساء همًّا موحِّدًا يتعدّى الحدود السياسيّة، وجعلت بطلاتها بنات العالم لا بنات لبنان وحده.

 

في بيتنا دكتاتور

وصلت لجين المولودة في العراق إلى لبنان طلبًا للعلم، التحقت بالجامعة في بيروت، وبقيت فيها ستّ سنوات حتّى وصلتها جائحة كورونا. تجوب لجين مع الكاميرا والسيناريو في رحاب العاصمة اللبنانيّة، توثّق وتعيش حالة مزدوجة من الثورة.

وُلِدَت لجين لعائلة فيها 7 بنات، وقرّرت في مرحلة ما أن تثور على كلّ أمر خضعت له مُرْغَمة، بدءًا من الحجاب، ثمّ التزام البيت، ثمّ منع الالتحاق بالجامعة. تروي لجين قصّتها بصورة مجازيّة بعض الشيء؛ فتصف البيوت بأنّها نموذج مصغّر عن دولة الدكتاتور، فهناك الدكتاتور، وأعوانه، وسلطته التشريعيّة والتنفيذيّة، ومخابراته كلّها داخل جدران البيت، وهناك الشعب. هكذا تصبح ثورة اللبنانيّين ثورة عربيّة جامعة لكلّ مَنْ كان في المدينة، هي ثورة من أجل التحرّر الذاتيّ ولتحرير النفس والعقل من قمع يطاردهما. تنجح المصري مرّة أخرى في أن تنسج حكاية عربيّة، عندما تقول بطلتها لجين إنّها عندما تعرّضت لاعتداء القوّات الأمنيّة أصيبت في قدمها، ووجدت نفسها محمولة: "كتير بنات حملوني وصاروا يركضوا فيني"؛ وهو مشهد نألفه في فلسطين كثيرًا في مواجهة الشباب الثائر ضدّ الاستعمار، جريحًا كان أو شهيدًا، محمولًا يعدو جسده نحو الشفاء والخلاص.

لا تظهر فلسطين مجازًا فقط في هذا الفيلم، قاصدةً أو لا، إذ تصوّر لنا المخرجة مقطعًا من التظاهرات نسمع في خلفيّته صوت محمّد عسّاف وهو يغنّي «علّي الكوفيّة»؛ لنفهم منه أنّ المقاومة خيار، وأنّها مقاومة من أجل الحقّ والعدل، أيًّا كان عدوّك.

 

 

"بِكْتُبْ عَنْ هِجْرِةِ الفَلَسْطينيّين مِنْ لُبنان"، تقول حنين وهي تتجوّل برفقة الكاميرا في مخيّمات اللاجئين وشابّ يروي قصّة الهجرة عبر البحر. هكذا تشدّ المخرجة خيوط نسيج حاكته سابقًا، وجعلت قضيّة اللاجئين حاضرة في قلب حكاية الثورة، فلا العدل قابلًا للتجزئة ولا الحرّيّة. لا يضع الفيلم أمامنا مكانة الفلسطينيّين في لبنان، ولا يدخل المخيّمات في محاولة لإقحام التعاطف مع سكّانها، لكنّ المخيّمات تحضر عندما تقول حنين: "بَعِدْني عَمْ بَكْتُب". إصرارها هذا يأخذ أبعادًا لنا الحرّيّة في فهمها.

لشخصيّة حنين ميزة تجعلها تقف في مكان خاصّ في هذه الحكاية السينمائيّة. تعرف حنين وتعترف بأنّ حجابها كان نبتة غريبة في شارع الثائرين، تصارح الكاميرا بهذه المعلومات، وترتقي بصراحتها لتقول عن نفسها وسط تطوّرات الغضب الشعبيّ: "في النهار بلبس شخصيّة القويّة، وبالليل شي تاني، زي الطفل".

 

ثورة النساء 

إذن، هي ثورة النساء المتنوّعات، قد تكون هذه سنّيّة وتلك شيعيّة، والأخرى كاثوليكيّة أو ربّما مارونيّة، لا نعلم. ما نراه هو بيروت المكان والثورة بوصفها فكرة تلتحم فيها النساء، ويجتمع عليها الكبار والشباب. أمّا العاصفة فهي مجاز لحالاتنا الشخصيّة نفسيًّا وجسديًّا وفكريًّا، ورغبتنا في الانقلاب على السياسيّين هو مجاز لرغبتنا في الانقلاب على شخوص أخرى من عوالمنا الشخصيّة الحميمة، قد تكون الثورة الشعبيّة الجامعة شرارتها الأولى.

كان جميلًا هذا الصوت الرباعيّ النسائيّ، فالفيلم يمنح الشرعيّة الكاملة لصوت النساء؛ فهنّ وقود هذه الثورة، في حين أنّنا لا نسمع أصوات الرجال مباشرة؛ فهم يجيدون اعتلاء المنابر، وإسماع أصواتهم بما يكفي من مساحات ميدانيّة وافتراضيّة.

 

 

* تُنْشَر هذه المادّة في ملفّ خاصّ بالشراكة مع «مهرجان القدس للسينما العربيّة»، ضمن نسخته الثالثة المنعقدة بين 11-16 تمّوز (يوليو) 2023 في العاصمة الفلسطينيّة، القدس المحتلّة.

 

 

 


إحالات

[1] حزام الأمان بالفرنسيّة.

[2] مخالفة شرطة المرور.

 


 

سماح بصول

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في«الأدب المقارن»  والماجستير في «ثقافة السينما».