سجون نختارها وسجون تختارنا

من فيلم «ب 19» (2022)

 

عُرِض فيلم «شرف» (2021) لأوّل مرّة في الدورة الافتتاحيّة لـ «مهرجان البحر الأحمر» 2021، بعد ذلك بعام تقريبًا شَهِدَ «مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ» العرض العالميّ الأوّل لفيلم «ب 19» (2022) ضمن الدورة 44. الفيلم الأوّل لمخرج مصريّ يعيش في برلين، والثاني لمخرج مصريّ أيضًا، لكنّه يعيش في مصر. ومن بين العديد من العناصر المشتركة بين الفيلمين، مشاركتهما ضمن الدورة الجديدة من «مهرجان القدس للسينما العربيّة»، الّتي انعقدت على مدار ستّة أيّام؛ 11-16 تمّوز (يوليو) 2023.

إضافة إلى ذلك، يتّخذ كلا الفيلمين من مفهوم السجن مسرحًا للأحداث – سواء كان ذلك بالجبر أو الاختيار - والعلاقة الجدليّة بين الفرد والجماعة في ما يشكّل وضع المجتمع ككلٍّ، حين ينتج ’حيوانات جماعيّة‘ كما تصفها دوريس ليسنج في روايتها «سجون نختار أن نحيا فيها» (1986): "لا يشعر بالسعادة في العزلة سوى قلّة ضئيلة من البشر، ويظنّهم جيرانهم غريبي الأطوار أو أنانيّين، أو ربّما أسوأ من ذلك".

 

سجون نختارها

كان «ب 19»، من تأليف أحمد عبد الله السيّد وإخراجه، الفيلم المصريّ الوحيد المشارك في الدورة الأخيرة من «مهرجان القاهرة السينمائيّ»، حاصدًا ثلاث جوائز: «جائزة الاتّحاد الدوليّ للنقّاد - الفيبرسي»، و«جائزة أفضل فيلم عربيّ»، بجانب «جائزة أفضل إسهام فنّيّ» الّتي حصل عليها مدير التصوير مصطفى الكاشف.

مع بداية الفيلم الّذي تتوزّع بطولته على سيّد رجب، وناهد السباعي، وأحمد خالد صالح، نستمع لصوت منبعث من الراديو بأغنية محمّد عبد المطّلب، أحد أشهر أساطين الأغنية الشعبيّة، «في قلبي غرام»، وهي نفس الأغنية الّتي ينهي بها المخرج أحداث فيلمه. ربّما تبوء فكرة البحث عن أحداث في السيناريو بالفشل، ومن ثَمّ لن يجد عشّاق الإثارة والدراما من المشاهدين بغيتهم في فيلم كهذا، على أنّ الدراما والإثارة هنا تأتيان من منظور مختلف هو ذاتيّ بامتياز؛ حيث الصراع داخليّ أكثر ممّا هو واضح للعيان، ليس هناك أفراد تتعارك – رغم انتهاء الفيلم بعراك عابر - ولا عصابات أو شرطة وخلافه؛ فالصراع كافكاويّ إلى حدّ كبير.

 

 

يعمل سيّد رجب حارسًا لفيلّا قديمة مهجورة منذ ربع قرن تقريبًا، وهو يُقَدَّم هكذا بصفته المهنيّة دون اسم. يعيش هذا الحارس المسنّ في عزلته الّتي اختارها، ولا نعرف السبب لذلك، مكتفيًا من الدنيا بعائلة حيوانيّة مختارة من القطط والكلاب، يرعاها ويطعمها، وينعم أثناء ذلك بسماع الراديو وشرب كأس صغيرة. يأخذنا المخرج في لقطات تشكيليّة للتعرّف على هذا العالم خلال ما يقارب ثلث ساعة، حتّى يظهر ’نصر/ أحمد خالد صالح‘، بلطجيّ وصاحب سوابق دخل السجن منذ ثلاث سنوات ’ظلمًا‘، الأمر الّذي سنعلمه لاحقًا، ولم يكن أمامه في محاولة أولى للعيش، سوى الإطاحة بوالده بوّاب العقار المجاور، وشحنه إلى البلد، ولحسن حظّ الحارس سيكون صاحب الخطوة التالية لنصر، الّذي يرى أنّه أولى بالإيواء في حجرة صغيرة من الفيلّا، بدلًا من الكلاب والقطط، إذ يقول له في مشهد لاحق: "اعتبرنا زيّ الكلاب يا أخي".

ربّما يتشابه الحارس هنا مع «دون كيخوتة»، بطل رواية «دون كيخوتة» الّتي كتبت على جزئين بين عامي 1605-1615، الّذي قضى حياته مصارعًا طواحين الهواء، في ما مكث الحارس مهدرًا حياته في حراسة عقار متداعٍ لم يكن ملكًا لأحد سوى الأشباح، فكلّ الورثة القدامى ماتوا، وانقطعت الخيوط تمامًا عن الورثة. هكذا يخبره المحامي القديم للعائلة المالكة، ويفاجئه أيضًا بأنّ المرتّب الشهريّ الّذي واظب على صرفه من مكتب البريد، لم يكن إلّا من المحامي شخصيًّا بحكم العِشْرَة بينهما.

لم يَسْعَ المخرج إلى تقديم حكاية كاملة، أو شخصيّات لها خلفيّة تاريخيّة، التواريخ كلّها مبتورة تقريبًا، لا تكاد الملامح الواضحة للشخصيّات ودوافعهم تظهر، ولذلك كثيرًا ما تحتاج أفلام السينما المستقلّة إلى مُشاهد مختلف، يستطيع نظم الإشارات بعضها بعضًا، مكوّنًا ما تُغُوفِل عنه. هناك إشارة غاية في الرهافة والتخفّي في الوقت ذاته في المشهد قبل الأخير، إذ يقف الحارس ليساعد جارته الطبيبة في تحميل الحقائب للذهاب إلى المصيف بصحبة والدتها المسنّة – ظهور خاصّ للفنّانة منحة البطراوي الّتي تعدّ من أشهر الأسماء في السينما المستقلّة - يتّضح من هيئة الأمّ أنّها تعاني من ألزهايمر، غائبة عن الوعي تقريبًا، وحين تصطدم عيناها مع الحارس ترتسم على وجهها ابتسامة ولهفة، في ما يقف الحارس خجلًا مثل عاشق مراهق.

 

سجون تختارنا

"هذه قصّة خياليّة، تقع أحداثها في عالم من وحي الخيال، لنا أن نسعد بأنّ الواقع أجمل وأكثر إشراقًا"، هكذا يصدّر سمير نصر فيلمه «شرف»، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب المصريّ صنع الله إبراهيم، أحد أشهر جيل الستّينات في الرواية المصريّة. لم يبتعد نصر كثيرًا في فيلمه عن الرواية المكتوبة، خاصّة أنّ سيناريو الفيلم تأليف مشترك بين المخرج ومؤلّف الرواية، حتّى أنّ ثمّة مجموعة من العناوين تتوالى على مدار الفيلم، كأنّها فصول للرواية.

صدرت الرواية لأوّل مرّة عن «سلسلة روايات الهلال» في شهر آذار (مارس) 1997، وهي من أقوى فترات القبضة الأمنيّة لحكم الرئيس السابق حسني مبارك. تأتي الرواية في نحو 600 صفحة من القطع المتوسّط، ولذلك كان من الصعب تحويل هذا العمل الملحميّ إلى مشاهد لن تتجاوز مدّة عرضها ساعة ونصفًا على الأكثر.

وربّما وسط زخم الحكايات في الرواية، يُسْقِط أحد التفاصيل، مثالًا على ذلك، مشهدًا يُبْدي فيه ’شرف‘ معرفته الفائقة بحذاء رياضيّ يرتديه أحد المساجين الأغنياء. قد يرى البعض مشهدًا كهذا لا دلالة أو ضرورة له، لكنّ مَنْ قرأ الرواية يعلم أنّ إشكاليّة البطل بدأت مع تطلّعه الوحيد في الحصول على حذاء نظيف من الماركات الثمينة، بدلًا من أحذيته الفقيرة، فيُوقِعُه حظّه العسر في طريق أحد الأجانب، وحين يذهب معه إلى البيت يكتشف مثليّته الجنسيّة، الأمر الّذي ينتج عنه مشاجرة تنتهي بقتل الأجنبيّ ليجد الشابّ نفسه في السجن، وتنقلب حياته رأسًا على عقب.

استقى صنع الله إبراهيم مادّة روايته، من سنوات عديدة قضاها في السجون المصريّة معتقلًا سياسيًّا أو معتقل رأي، وضمّت عددًا ضخمًا من الحكايات والشخصيّات، كانت بمنزلة شهادة على هذه الفترة من ثمانينات القرن الماضي، حين كان المجتمع المصريّ يمرّ بآثار ما بعد التحوّل عقب عصر الانفتاح الساداتيّ. كان الاكتفاء ببعض هذه الشخصيّات هو ما يناسب الفيلم تمامًا لطرح الحالة ورصدها، وهو ما نتبعه في رحلة شرف القصيرة داخل جدران السجن، وانتقاله من المستوى الشعبيّ إلى المستوى الملكيّ، حيث الراحة والرفاهيّة والطعام الحقيقيّ، بدلًا من خلطات السجن.

 

من فيلم «شرف» (2021)

 

الشبح الكافكاويّ كان له دور مهمّ؛ فالسجن المطروح غير محدّد المعالم. علاوة على ذلك، يتكوّن ضبّاط السجن ومعاونوهم من خليط يجمع عددًا من الجنسيّات العربيّة، وهو ما أدّى إلى كوكتيل من اللهجات حرص المخرج - كما صرّح في حديث سابق - على أن تكون مخفّفة إلى أقصى درجة، وهو ما سمّاه ’اللهجة البيضاء‘، ولا سيّما أنّ فريق العمل أيضًا يتكوّن من أكثر من جنسيّة.

أجاد السيناريو في اقتطاع شخصيّات من الرواية ورصّها كالبازلت لتكوين المشهد الكلّيّ للفكرة، حيث جميع السجون العربيّة تُعَدّ متشابهة تمامًا في قوانينها، ما دامت الأنظمة كلّها في المنطقة تتشابه في القبضة الأمنيّة، وغطرسة السلطة وفسادها. لكن، بالرغم من ذلك، لم تَخْلُ الدراما المطروحة من مستويات متعدّدة من الخطابيّة المباشرة والزاعقة في بعض الأحيان، والّتي لم تكن في صالح العمل، وهي نفس السمة الّتي تتكرّر في بعض أعمال صنع الله إبراهيم.

 

أهو ده اللّي صار

رغم أنّ الفيلمين يعرضان عالمًا مليئًا بالبؤس، فقد اتّفقا – بالمصادفة - على نهاية واحدة، ربّما تحمل بصيصًا من الأمل، لكنّها كانت سببيّة على أيّ حال في الحالتين؛ وذلك من خلال الاستعانة بأغنية قديمة، كانت هي نفس أغنية البداية في فيلم «ب 19»؛ أي «في قلبي غرام» للمطرب الشعبيّ محمّد عبد المطّلب. ربّما تشير الأغنية إلى علاقة ما قديمة بين الحارس والجارة المسنّة، وهي ما يفسّر الرغبة في انعزاله عن الحياة في مقابل أن يكون بجوارها.

النهاية في الفيلمين مغلقة؛ فالدائرة أكملت لفّة كاملة، ثمّ عادت إلى نقطة الصفر من جديد، وفي أثناء ذلك حدث تحوّل جذريّ للشخصيّتين...

أمّا ’شرف‘ فيكتشف في النهاية أنّه مكث على أمل الخلاص في انتظار ’جودو‘ المحامي، الّذي لم يحضر منذ الجلسة الأولى، وهنا ينتهي البطل منهزمًا بعد أن خذله فقر الأسرة في تدبير فرصة للنجاة. كذلك يكتشف أنّ عليه الإقرار بأنّ مستقبله لن يخرج عن السجن، وبالتالي عليه مواجهة شريعته القاسية، وسيدفع الكثير مقابل ذلك، وبالتالي يقول لسان حاله: "أهو دَه اللّي صار وأدي اللّي كان... ملكش حقّ تلوم عليّا"، مردّدًا كلمات أشهر الأغنيات الوطنيّة لموسيقار الشعب سيّد درويش.

ثمّ إنّ النهاية في الفيلمين مغلقة؛ فالدائرة أكملت لفّة كاملة، ثمّ عادت إلى نقطة الصفر من جديد، وفي أثناء ذلك حدث تحوّل جذريّ للشخصيّتين، صحيح أنّ كلًّا منهما سيعود لممارسة حياته بنفس الطريقة، لكنّها لن تعود كما كانت بأيّ حال من الأحوال؛ فقد ذاق كلاهما طعم الجريمة، وتورّط في الخطيئة.

 

 

* تُنْشَر هذه المادّة في ملفّ خاصّ بالشراكة مع «مهرجان القدس للسينما العربيّة»، ضمن نسخته الثالثة المنعقدة بين 11-16 تمّوز (يوليو) 2023 في العاصمة الفلسطينيّة، القدس المحتلّة.

 

 


 

وائل سعيد 

 

 

 

كاتب وناقد سينمائيّ مصريّ، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة، مدير تحرير «مجلّة الكرمة».