سينما بلا تدخّلات خلّاقة

من فيلم «لعبتي» (2023)

 

لو توقّف عناصر السينما الجماليّة على أساليبها التقنيّة، وجودة صورتها وأدواتها الوظيفيّة، ومواضيعها العامّة فقط، لتوقّفت عن طرح الأسئلة فيها وعليها. ذلك سيجعل عمل صنّاع السينما في نقل الواقع أكثر سهولة دون تدخّلات خلّاقة، أو شعور بالرغبة الملحّة في تغيير مجريات الواقع المملّ. سيصبح صانع الأفلام مجرّد مصوّر مناسبات اجتماعيّة، يعمل على سطح الصورة، ويشتغل على إرضاء زبائنه بأيّ طريقة ممكنة. وعليه، لن تكون جودة الصورة، أو عنوان العمل، أو موضوع الفيلم وجماليّاته التقنيّة، كافية لينطق الفيلم بالشيء الّذي يريد قوله عن هذا العالم. 

من خلال هذه الفكرة أريد أن أقدّم لمقولة عبّاس كيارستامي عن طبقات السينما، صانع الأفلام الإيرانيّ الّذي استطاع تعليق لوحاته الفنّيّة في جميع منازل العالم على اختلاف تصاميمها ولغات أهلها، ومشاعرها وقصصها وسرديّاتها. يرى كيارستامي السينما بوصفها "الصورة الّتي لا تكون محصورة ضمن حدود ما تراه". لا يؤمن كيارستامي بسينما محصورة في إطار (Frame)، وإنّما السينما الّتي تملك "طبقات عديدة مختلفة"، وهذه الطبقات الّتي تنتجها الصورة هي الشرط الحيّ للعمل الفنّيّ السينمائيّ. بالنسبة إليه، السينما لوح كتابة قديم تداخلت فيه بقايا النصوص على مرور الأزمنة، ولسنا حين ننظر إلى هذا اللوح، شاهدين على صورته فقط، بل على طبقات من المعنى الّتي "أحيانًا ما تغمر الصور الّتي نراها، فلا نفكّر إلّا في هذه الطبقات. تلك هي السينما"[1].

 

«لعبتي»... أسئلة اللجوء الهويّاتيّة 

تنوّعت الأعمال السينمائيّة المعروضة ضمن أعمال «مهرجان القدس للسينما العربيّة» لهذا العام، بالمواضيع وجهات الإنتاج أو مدّة الأفلام. ومن بين تلك الأعمال، لفتني في سلسلة الأفلام القصيرة المشاركة فيلما «غدًا يأتي الحبّ» (2021) و«لعبتي» (2023)، اللذان اجتمعا في ثيمة الطفولة، حيث لعب الأطفال في كلا الفيلمين أدوارًا رئيسيّة، لا تعني بالضرورة أنّهم كانوا فيها أبطالًا، وإن أظهرت هذه الأفلام ذلك، بل كانوا موضوعات للأفلام الّتي تتحدّث عنهم. قد تبدو هذه الفكرة جاحدة في حقّ فيلم يحاول أن يتعاطف أو أن يعبّر عن الأطفال المنكوبين، أو من خلفيّات منكوبة، ولذلك أودّ أن أبدأ بالحديث عن الفيلم الروائيّ القصير «لعبتي»، للمخرج مازن حاجّ قاسم من الدنمارك. يتحدّث الفيلم الّذي أُنْتِج في عام 2023 عن تدخّل السلطات الحكوميّة في بعض البلدان الأوروبّيّة في المهاجرين أو المواطنين الأوروبّيين، واحتجاز الأطفال عن أهاليهم في حال مخالفتهم للوائح تربويّة معيّنة.

ينطلق الفيلم من زيارة دوريّة يقوم بها طفلان؛ طفل من خلفيّة لجوء عربيّة وطفلة إسكندنافيّة من عائلة أوروبّيّة. في حين ينتظرهما أهلهما في مركز اللقاء الحكوميّ. يلتزم المخرج مازن حاجّ قاسم بنقل مشهد واقعيّ يخصّ هذه القضيّة، ويبدو من خلال دقائق الفيلم الثماني، أنّ ما يريد الفيلم قوله هو أنّ هؤلاء الأطفال أصبحوا مختلفين عن أهاليهم، ويرفضون العودة إليهم، فهم بالتالي يعيشون حياة أفضل في المركز الحكوميّ المختصّ.

 

 

يقدّم لنا حاجّ قاسم العائلة العربيّة في شكلها التقليديّ المتديّن، الّذي يبرّر ممارسات الحكومات الإسكندنافيّة في أخذ الأطفال من أسرهم؛ إذ يقدّم لنا أمًّا عربيّة مكسوّة الرأس بغطاء [المعروف بمحكيّات العربيّة المعاصر بـ ’الحجاب‘]، ضعيفة وصامتة غير قادرة على التدخّل، وأبًا مسلمًا بلحية عملاقة، لا يستطيع التحكّم بغضبه، وابنهم الّذي يتحدّث إليهم بلغة البلد المضيف وباقتضاب، مع نيّته بالهرب من هذا اللقاء. لم يخطئ المخرج في اختياره لهذه الشخصيّات، فهذه عائلة عربيّة موجودة فعلًا في أوروبّا، وتعكس شريحة، كبيرة أو صغيرة، من شرائح اللاجئين، العرب تحديدًا. لكنّ مازن حاجّ قاسم نقل صورة من صور الواقع دون أيّ تدخّل خلّاق في بنيته الجماليّة، أو الفكريّة/ النقديّة، وإنّما بتدخّل ثقافيّ يعتمد على افتراضات ثقافيّة معيّنة تعكس سرديّة مهيمنة حول هذه العائلة؛ أي افتراض أب متديّن عنيف، وأمّ خاضعة صامتة.

ينجم التدخّل الخلّاق عن الأسئلة الصعبة الّتي يطرحها فيلم سينمائيّ ما على مشاهديه، فما الحاجة من فيلم يخبرنا أنّ الأطفال المنتزعين من أسرهم ’السيّئة‘ في أوروبّا، يعيشون حياة أفضل في المراكز الحكوميّة، دون التشكيك في تلك السرديّة؟ هل نفكّر بصوت الطفل أم عوضًا عنه؟ ذلك ما حاول الفيلم فعله دون أن ينجح تمامًا.

 

واقع مسكوت عنه

يقدّم ركان ميّاتي في فيلمه الصامت «غدًا يأتي الحبّ» قصّة عن زواج القاصرات من اللاجئات السوريّات في لبنان، أو في مكان آخر، ويعتمد في ذلك على مجموعة من اللقطات الّتي تعبّر عن مفاهيم مثل الأرض، البنت، الأمّ، الذكورة، الطريق، الحزن، الحياة. يبدو فيلم ركان ميّاسي منفتحًا على نقل صورة من صور الواقع مع تدخّل فنّيّ في طرح هذا الواقع المسكوت عنه، عبر اختيار غياب الحوار عن الفيلم عنصرًا جماليًّا، وبالتالي تحويل غياب الحوار إلى حضور للمعنى.

من جهة أخرى، اعتمد ميّاسي على الكوادر العريضة، القادرة على تصوير الطبيعة، وتقديم أبطال مأساة الفيلم في ألوان ومواضع مختلفة، بكوادر ثابتة في أغلب الأحيان. ساعد ذلك على تمكين ظهور عناصر شعريّة في مشاهد الفيلم، مشكّلةً في ما بينها من ألوان ولقطات ما يمكن أن يُسَمّى ’الشعريّة الطوبوغرافيّة‘ (Topopoetics)[2] الّتي نلاحظ فيها ما قد نسمّيه بـ ’لغويّة المشهد‘ (Landguage)؛ أي استخدام الكادر نفسه لينوب عن اللغة ويعبّر عنها.

 

 

من المثير أيضًا اختلاف عناوين الفيلم بين اللغتين العربيّة والإنجليزيّة، فمن «غدًا يأتي الحبّ» إلى «Trumpets in the sky»، وكأنّ المخرج يتحدّث بعنوانين مختلفين إلى جمهورين مختلفين، وبصوتين مختلفين. كأنّ الأوّل فيه صوت ضعيف حالم يريد أن يُرَمْنِس الواقع ويفكّر في احتمالاته المستقبليّة، بينما الثاني صوت حزين ينقل واقع المرأة من خلال التركيز على الفروقات الجندريّة، عبر الإشارة إلى الأبواق الاحتفاليّة المنتصبة في السماء، أو مزامير الأعراس والدبكات الأهليّة، الّتي تظهر في الفيلم أيضًا من خلال احتفال الرجال بزواج أحدهم من طفلة حزينة تريد أن تلعب على أرجوحة.

 


إحالات

[1]  أمين صالح، عبّاس كيارستامي: سينما مطرّزة بالبراءة، (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2022).

[2] Sten Pultz Moslund, “The Presencing Of Place in Literature” in Geocritical Explorations Space, Place and Mapping in Literary and Cultural Studies”, ed. Robert Tally, (New York: Palgrave Macmillan, 2011), 31.

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».