الفلسطينيّان لاما... رحلة في السينما المصريّة

الأخوين لاما، وملصقات لأفلامهما.

 

يمثّل عقد الخمسينات أعوام الذروة في حياة سيّد الإثارة والتشويق، المخرج الأمريكيّ ألفريد هيتشكوك (1899 - 1980)، وربّما ولكثرة انشغاله، لم ينتبه إلى حادثة مثيرة وقعت أوائل العقد في مصر، على بُعْد آلاف الأميال من هوليوود، وكانت على الطريقة الهيتشكوكيّة؛ حين أطلق مخرج سينمائيّ النار على زوجته ثمّ انتحر.

انشغلت الصحف والمجلّات طويلًا بذلك الحادث، وظهر العديد من الروايات والشهادات حول ملابسات القضيّة، كان من بينها خطاب أخير تركه الأب لولده يخبره فيه عن استعداده لسفر طويل، وأنّ عليه الاعتماد على نفسه، ومن خلاله نتعرّف إلى دوافعه لارتكاب الجريمة: "أحببت أمّكم، وماتت، وبعدها كان عندي فراغ في الحياة، فتزوّجت هذه المرأة الشرّيرة الّتي أفسدت عليّ حياتي...". لم يكن هذا الأب إلّا إبراهيم لاما؛ الضلع الأوّل للأخوين لاما، وهما من أشهر الأسماء الرائدة في التاريخ السينمائيّ العربيّ.   

سبعة عقود مرّت على حادثة لاما المأساويّة، وخلال هذه الفترة، تناقلت قصّة الرجل وتحوّرت بمختلف الطرق والأساليب؛ ليضيع توثيقها الحقيقيّ، والنتيجة بعض من المعلومات القليلة المتناثرة هنا وهناك، والمتضاربة في بعض الأحيان، إلّا أنّها كانت الأقرب إلى الواقع، ويجب عليك في كلّ الأحوال سدّ الثغرات وفكّ الأحجيّات طوال مرحلة البحث، بالضبط كما هو الحال مع لعبة البازلت أو الكلمات المتقاطعة. وتبقى حقيقة لا مجال للشكّ فيها، وهي الريادة التاريخيّة للأخوين لاما في صناعة السينما المصريّة في مراحلها الأولى، منذ ما يقارب المئة عام.

 

من الفوتوغرافيا إلى السينما

وُلِد الأخ الأكبر إبراهيم في عام 1904، ولحق به بدر بعد ثلاث سنوات. والدهما هو عبدالله إبراهيم سعيد الأعمى؛ أحد المهاجرين الفلسطينيّين وقد رحل إلى تشيلي في 1809، وهناك تزوّج سارة، وبدأ مشروعه بافتتاح محلّ لبيع أدوات التصوير. وبحسب سجلّات «مكتب الرعاية» ببيت لحم، أنجبت له "عيسى، وبطرس/ بدر، وإبراهيم". بدأ تسجيل العائلات في عام 1620م، ويشمل تواريخ "الولادة؛ التعميد؛ التثبيت؛ الزواج؛ الوفاة"، إذ حرص العديد من عائلات المهاجرين على إجراءات الطقوس الكنسيّة لأطفالهم؛ فعلى سبيل المثال، يُذْكَر تاريخ التثبيت للطفل "بطرس أو بدر لاما" يوم 26 من نيسان (أبريل) 1914.

’الأعمى‘ هو الاسم الأصليّ لعائلتهما، إحدى أكبر عائلات مدينة بيت لحم في فلسطين، ومع نطق الاسم باللغة الإسبانيّة – المتداولة في تشيلي - خُفِّف ليصبح ’لاما‘، وهناك روايات حول أصل الاسم ذكرت أنّه خُفِّف من ’لامورس‘، وأنّ إبراهيم اسمه الأصل ’أبراهام‘، وهي روايات تنسب اليهوديّة إلى الأخوين، ويبدو أنّها من موقع تنافس أو عداء للأخوين.

مُنِحَ الأخوان لاما «وسام القدس للثقافة والآداب والفنون»، في احتفاليّته الأولى الّتي عُقِدَتْ في القاهرة عام 1990، "تقديرًا للإسهام الإبداعيّ في مسيرة الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة"، وقد كان المانحان القائد الفلسطينيّ ياسر عرفات، بصفته رئيس الدولة ورئيس اللجنة التنفيذيّة، وأيضًا الشاعر  محمود درويش، بصفته عضو اللجنة التنفيذيّة ورئيس المجلس الأعلى للثقافة.

 

المصدر: المتحف الفلسطينيّ. 

 

يبدأ معظم التأريخ لحياة الأخوين لاما برحلة الإسكندريّة الشهيرة، الّتي أبقتهما في مصر نحو ربع قرن. لقد كانا في طريقهما إلى فلسطين منطلقين من تشيلي، وفي حوزتهما الإرث الفوتوغرافيّ للوالد بجانب تحديثاتهما الخاصّة، وهذا مكّنهما من افتتاح أستوديو صغير للتصوير الفوتوغرافيّ بجوار مسرح «الهامبرا» بمنطقة محطّة الرمل؛ ملتقى تجمّع الفرق الأجنبيّة وحفلات لا تنتهي من الباليه والغناء والاستعراض.

تختلف الروايات في تحديد عام قدوم الأخوين إلى مصر؛ ذكر البعض أنّهما نزلا بميناء الإسكندريّة في عام 1924، وهو ما يجعلنا نتساءل عمّا يقارب الثلاث السنوات منذ هذا التاريخ حتّى ظهور أوّل فيلم للأخوين، خاصّة أنّ المتابع لسيرة حياتهما في ما بعد سيجد أنّها تعتمد على وتيرة سريعة للإنجازات المتوالية، فضلًا على أنّهما من البداية كانا يمتلكان المعدّات اللازمة لبدء العمل، الّتي حتّى إذا احتاجت إلى إمدادات فلن تحتاج إلى كلّ هذا الوقت. وتخبرنا المراجع القليلة أنّهما مارسا العمل السينمائيّ قبل وصولهما الإسكندريّة، حتّى لو لم يكن بشكل احترافيّ؛ لتبقى هذه الفترة القصيرة من حياتهما السينمائيّة مبهمة تمامًا.

من هنا، قد يكون  التاريخ الأقرب إلى الصواب هو وصولهما الإسكندريّة في عام 1926، وسرعان ما يتطوّر محلّ التصوير ليصبح أستوديو سينمائيًّا، يُعَدّ ثالث أستوديو ينشأ في الإسكندريّة، أرشيف «دار الهلال». اتّخذ الأخوان فيلّا بفيكتوريا مقرًّا للشركة الجديدة «كوندور فيلم»؛ ليكون باكورة إنتاجها فيلم «قبلة في الصحراء» (1927). في مذكّراته، يروي السيّد حسن جمعة – واحد من روّاد الصحافة الفنّيّة في مصر - كيف تفاجأ أثناء سيره في أحد الشوارع بإعلان وجود شركة جديدة للإنتاج السينمائيّ في الإسكندريّة، وحين سأل وعرف أنّها "مثل «مترو جولدين ماير» و«باراماونت»... حطّيت ديلي في أسناني، وجريت لا ألوي على شيء إلّا محطّة الرمل، أركب منها ترام فيكتوريا".

وفي مقال بعنوان «عندما نشأت صناعة السينما في مصر»، يصف جمعة ما رآه في هوليوود مصر، ويتساءل: "ما الفرق بيننا وبين هوليوود؟ يفعلون هناك حسبما رأيت صورهم مثلما أرى الآن. وإذن، فقد تحقّق أمل الهواة بمصر... الهواة الّذين كانوا يحسبون أنّ هوليوود شيء بعيد المنال، ها هي نفسها تأتي إليهم".

 

السينما تودّع صمتها

لا شكّ في أنّ عام 1927 شهد أحد الانتصارات المهمّة للفنّ السابع، وذلك بعرض أوّل فيلم ناطق في تاريخ السينما العالميّة «مغنّي الجاز - آلان كروسلاند»، وبعد أن عرف الصوت طريقه إلى الأفلام، احتاجت السينما إلى بعض من الوقت لتوديع عصرها الصامت؛ فقد بقي عدد من سينمائيّي العالم موالين له لسنوات، وعلى رأسهم السينمائيّ الخالد تشارلي شابلن ونهايته ممثّلًا، حين تكلّم أمام الكاميرا لأوّل مرّة.

لن يعرف الصوت طريقه إلى السينما المصريّة إلّا أوائل الثلاثينات، لكن في هذا العام ظهر الفيلم الروائيّ الطويل في مصر، من خلال فيلمين: «ليلى» (1927)، البطولة والإخراج لعزيزة أمير، بمشاركة الفنّان إستيفان روستي، وفيلم «قبلة في الصحراء» (1927)، تأليف إبراهيم لاما وإخراجه، أمّا البطولة فلأخيه بدر لاما. كان ثمّة شبه تكتّل صحافيّ وإعلاميّ – ربّما غير مقصود - لصالح الفيلم الأوّل عن الثاني الّذي كان نصيبه من الهجوم يفوق كثيرًا كتابات المدح، وكثرت المقارنات حينئذ بين الفيلمين: "لم يكن التشديد في فيلم «ليلى» كبيرًا، وقد كان أخفّ وقعًا وإساءة، ثمّ يكون هذا السماح الزائد واللين النهائيّ لذلك الأجنبيّ الّذي استغوى أبناءنا، واستخدم مصريّتنا وبلادنا لينهبنا وليسيء إلينا، ألم يعش أبراهام لاما [لاحظ الاسم المكتوب] في مصر مدّة كافية يفهمنا فيها؟"[1].

 

إعلان لفيلم «شبح الماضي»، بطولة بدر لاما ونادرة | السينما. كوم

 

وفي مجلّة «الصباح»، 2 تمّوز (يوليو) 1928، نقرأ رأي عزيزة أمير نفسها في الفيلم: "لا أعدّ هذه الأفلام مصريّة؛ فالمسألة أنّ نفرًا من الأجانب أرادوا أن يسيئوا إلى مصر. وإنّي لمندهشة كيف قبِل بعض ممثّلينا وممثّلاتنا أن يساعدوهم على ذلك..."[2]. بعد أيّام، جاء ردّ إبراهيم لاما مدافعًا: "نحن براء من كل التّهم الّتي وجّهتها إلينا هذه الصحف؛ فلم نكن لنقصد من إخراج روايتنا التشنيع بمصر، ولم يكن يخطر ببالنا عند إخراج هذه الرواية إظهار أيّ نوع من الحياة الّتي يحياها سكّان مصر".  

ذكر المؤرّخ جورج سادول في موسوعته الأشهر «تاريخ السينما في العالم» الريادة في الفيلم الروائيّ الطويل لفيلم «قبلة في الصحراء»، ولم يأتِ على أيّ ذكر للفيلم المنافس «ليلى»، وكان الصراع على الريادة – سواء وقتذاك أو في ما بعد تاريخيًّا - يدور حول الأسبقيّة في عمل فيلم روائيّ طويل، ولذلك لا يتوقّف الكثيرون أمام ريادة حقيقيّة قبل ذلك بقليل؛ فقد سبقهما السينمائيّ محمّد بيّومي بفيلم روائيّ قصير «برسوم يبحث عن وظيفة» (1923)، يُعْتبَر هو الميلاد الحقيقيّ للفيلم المصريّ.

 

نحو شكل فيلميّ

واكب ظهور اسم الأخوين لاما بداية مرحلة جديدة في تاريخ السينما المصريّة، يقول عنها علي شلش: "هي مرحلة الإنتاج المحلّيّ المصريّ البحت، الّتي جاءت في وقت كان الرأي العامّ فيه – بعد ثورة 1919 - قد تعبَّأ تمامًا، وتشبّع بفكرة مصريّة الحياة للمصريّين في مواجهة الاحتلال الأجنبيّ وامتيازات الأجانب...". وفي إحدى حفلات «شركة مصر للتمثيل والسينما»، ألقى طلعت حرب (1867 - 1941)؛ مؤسّس «بنك مصر» خطبة عن القوّة الّتي تحملها تلك الصناعة الناشئة: "إنّ صناعة السينما صناعة واسعة الأطراف، متعدّدة النواحي، وإنّ الحكمة تقضي علينا بالتدرّج فيها، فنأخذ بالبسيط من عناصرها أوّلًا، حتّى إذا أتقنّا صنعه، انتقلنا إلى تركيب مزيج وسط من هذه العناصر".

تتراوح حصيلة لاما في الإخراج نحو ثلاثين فيلمًا، قد تزيد أو تنقص قليلًا، وقد صوّر بعضها. ربّما لم تقدّم هذه الأفلام قيمة فنّيّة وسينمائيّة مبهرة رغم ريادتها المؤكّدة، إلّا أنّ سجلّات تلك الأفلام شهدت على بدايات الظهور لنجوم لامعة في ما بعد، مثل أنور وجدي، وفاطمة رشدي، وعبد السلام النابلسي، وليلى مراد غناءً، وغيرهم. ولا شكّ في أنّ بدر لاما نفسه يُعَدّ واحدًا من الصنّاع الأوائل لما سيُعْرَف بعد ذلك في السينما بـ ’الفتى الأوّل‘. 19 عامًا قضاها بدر في العمل السينمائيّ، أدّى خلالها بطولة 22 فيلمًا من إخراج شقيقه الأكبر، عدا فيلم واحد من إخراج المخرج الكبير نيازي مصطفى «رابحة» (1945)، وشاركته البطولة النسائيّة الفنّانة كوكا.

المحطّة التالية في حياة الأخوين، والانطلاقة الكبرى، ستكون في القاهرة، تحديدًا من الفيلّا رقم 18، شارع شكور باشا، في حيّ حدائق القبّة؛ المقرّ الجديد لشركتهما. ونلاحظ أنّ طابع الفروسيّة قد غلب على معظم أفلام لاما منذ البداية تقريبًا، حتّى أنّه يبدأ فيلمه الأوّل بعبارة "فيلم الحبّ والفروسيّة والمغامرات"، وهو ينتقل في هذه الفروسيّة بين ثيمات عدّة، يمكن بطلها أن يكون شابًّا بدويًّا صحراويًّا في «قبلة في الصحراء»، أو شخصيّات تاريخيّة يُخَصَّص لها أفلام منفردة، مثل «معروف البدوي» (1935)، و«قيس وليلى» (1939)، و«صلاح الدين الأيّوبيّ» (1941)، و«كليوباترا» (1943).  

 

نهاية مبكّرة

في عام 1947، أنتجت «شركة لاما» فيلم «البدويّة الحسناء»، آخر أفلام بطلها الأثير، بدر، الّذي رحل قبل عرضه في السينمات، وهي المرّة الأخيرة أيضًا الّتي تشاركه البطولة زوجته بدريّة رأفت، أو جوزفين سركيس، وبعدها تنقطع لفترة طويلة عن الشاشة، ويكون آخر أفلامها قبل أن تعتزل نهائيًّا «اللقاء الأخير» (1953).

نشرت «جريدة الأهرام» تحت عنوان «فقيد السينما المصريّة»: "قطفت يد المنون أمس الأوّل زهرة شباب النجم السينمائيّ الكبير الأستاذ بدر لاما، الّذي كان صديقًا وحبيبًا لكلّ مَنْ اختلط به من أهل الوسط الفنّيّ، كان أحد أركان النهضة السينمائيّة وواضعي حجر الأساس لها، بعد حياة كانت على قصرها حافلة بمجهود محمود في خدمة السينما. بدأت الجنازة سيرها في فيض من دموع الشعب الحزين لهذه الخسارة الفنّيّة الكبرى، من السرادق المقام لذلك بـ «ميدان باب الحديد» حتّى وصلت إلى «ميدان الأوبرا»، حيث استقلّ حضرات المشيّعين المركبات إلى المقابر، حيث تبادل الخطباء والشعراء كلمات التأبين، وأُودِع الفقيد العزيز مقرّه الأخير". ونشرت جريدة «أخبار اليوم» في الصفحة الثانية خبرًا بعنوان «بدر لاما في ذمّة الله»، في 12 نيسان (أبريل) 1947.

 

 

يشير بعض الآراء إلى أنّ وفاة بدر لاما هي الّتي حفّزت إبراهيم على تسليم راية البطولة إلى نجله سمير بديلًا لعمّه، إلّا أنّ سنوات عمل الأخوين تخبرنا عكس ذلك تمامًا؛ إذ حلّ الابن ضيفًا دائمًا في عدد كبير من الأفلام منذ صباه، عبر مراحل عمريّة متوالية. على أيّ حال لم يدم ذلك السجال طويلًا؛ فسرعان ما يأتي عام 1951 يحمل معه الجزء الثاني الأخير من حياة الأخوين لاما؛ حيث تنتج الشركة آخر أفلامها «القافلة تسير» (1951)، بطولة سمير لاما وشادية، ثمّ يشبّ حريق في أحد أجزاء الأستوديو بسبب تماس كهربائيّ ملتهمًا تراث الشركة، ويدخل إبراهيم لفترة طويلة في حالة من الإحباط يزيدها تراكم الديون عليه.

حسب روايات لأبناء عمومة لاما وبعض الأهالي والمعاصرين، فإنّ الأخ الصغير بدر كان رومانسيًّا، وأكثر رقّة من أخيه الكبير إبراهيم الّذي كان حادّ الطباع وعصبيًّا، حتّى أنّ الأمر كان يصل به في بعض المرّات إلى استخدام مسدّسه أثناء عراك أو مشادّة، ومن الواضح أنّ الرصاصات السابقة لإبراهيم إمّا أنّها لم تخرج من الأساس، وإمّا ضُرِبَت في الهواء بغرض التهويش والتخويف، ما عدا ثلاث رصاصات خرجت لتصيب الهدف تمامًا. حدث ذلك مساء 14 أيّار (مايو) 1953 داخل شقّة لصديقة مشتركة، حين جلس إبراهيم وزوجته - أو طليقته - يتعاتبان على خلافاتهما الأخيرة، ربّما علت أصواتهما، لكنّها لم تكن أعلى من صوت الرصاص الّذي أنهى به الزوج مناقشته الأخيرة برصاصتين – في الرأس والقلب - واحتفظ بالرصاصة الأخيرة لتفجير رأسه.

 


إحالات

[1] أحمد الحضري. تاريخ السينما في مصر. ج1. (القاهرة: هيئة الكتاب، 1989). 

[2] مرجع سابق.

 


 

وائل سعيد

 

 

 

كاتب وناقد سينمائيّ مصريّ، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة، مدير تحرير «مجلّة الكرمة».