الدراما الفلسطينيّة... التاريخ والهويّة

من فيلم «فرحة» (2021)

 

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا في إنتاج المسلسلات الدراميّة الفلسطينيّة والاعتراف بها؛ وقد غدت وسيلة لصنّاع ثقافة فلسطينيّين لمشاركة قصص شعبهم، وإلقاء الضوء على نضالاته، ونقل تراثه الثقافيّ الغنيّ.

تتميّز بعض المسلسلات بأنّها ليست مجرّد أعمال دراميّة ترفيهيّة، بل هي نوافذ تفتح على ثقافة الشعب الفلسطينيّ وتاريخه وواقعه؛ إذ تعكس قصصًا حقيقيّة وصراعات حقوقيّة تمرّ بها فلسطين المُسْتَعْمَرة، وتسلّط الضوء على تجارب الحياة اليوميّة للفلسطينيّين.

تأسّست صناعة المسلسلات الفلسطينيّة في ظلّ الواقع الصعب الّذي يعيشه الفلسطينيّون، وهي في أغلبها تُسَلِّط الضوء على القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الّتي تواجههم، مثل الاستعمار الصهيونيّ، واللجوء الفلسطينيّ والحياة في المخيّمات، والتمييز والعنصريّة، والهويّة والانتماء، والنكبة، وتوثيق الاعتداءات على الأراضي والحقوق الفلسطينيّة.

يتميّز بعض المسلسلات الفلسطينيّة أيضًا بقوّة السرد والتمثيل الاحترافيّ؛ إذ يشارك فيها مجموعة من الممثّلين الموهوبين الّذين يعكسون الواقعيّة والأصالة في أدائهم، وتعتمد على كتابات ذات خصوصيّة تقدّم تجارب وقصصًا حقيقيّة، وتعمل على إيصال رسائل مهمّة، وصوت قويّ يعبّر عن تجربة الشعب الفلسطينيّ.

يقدّم هذا المقال قراءةً في عدد من الأعمال الدراميّة الفلسطينيّة، ويستكشف أصولها وموضوعاتها وممثّليها البارزين، وتأثيرها الدائم في عالم التلفزيون في الأراضي المحتلّة، ومحاولة المخرجين الفلسطينيّين الحفاظ على موقع الأرض والهويّة الفلسطينيّة على الشاشات العربيّة والعالميّة.

 

مراجعة تاريخيّة

تأخّر انطلاق تلفزيون رسميّ لفلسطين، «تلفزيون فلسطين» في تسعينات القرن المنصرم؛ تبعًا لعوامل الاستعمار والتضييق على الإعلام الفلسطينيّ، بدءًا من سلطة الاستعمار الإنجليزيّ حتّى سلطة الاستعمار الإسرائيليّ. لكن قبل ذلك كان للإذاعة الفلسطينيّة اليد الطولى في تقديم المسسلسلات الإذاعيّة، وعرض الرواية الإذاعيّة الفلسطينيّة في بداية تشكّلها. يذكر الكاتب والمؤرّخ الفلسطينيّ نصري الجوزي المقدسيّ في كتابه «تاريخ الإذاعة الفلسطينيّة، هنا القدس 1936-1948» (2010)، أنّ بداية تشكّل الفرق التمثيليّة الفلسطينيّة عبر الإذاعة الفلسطينيّة كانت في عام 1936، عندما أسّس الممثّل الفلسطينيّ جميل الجوزي الفرقة التمثيليّة الأولى، التابعة لـ «جمعيّة الشبّان المسيحيّة» في القدس، الّتي كان الغرض منها تأدية روايات تمثيليّة، سواء أمترجَمة كانت أم مؤلَّفة أم مقتبَسة من أعمال غربيّة[1]. وعندما تأسّست «محطّة الإذاعة الفلسطينيّة» في القدس، وتكوّنت «فرقة الجوزي الإذاعيّة»، كان لعائلة الجوزي دور بارز في التقديم الدراميّ عبر الإذاعة، وبكورة هذه الأعمال كانت المسرحيّة المؤدّاة «فؤاد وليلى»، وهي من تأليف نصري الجوزي في عام 1936، وتأدية «فرقة جمعيّة الشبّان المسيحيّة»، وعمل آخر تحت عنوان «صباح يوم مشمس»، مقتبس من أعمال الكاتبين سرافين وبدراكسه ألفاريز[2].

بداية تشكّل الفرق التمثيليّة الفلسطينيّة عبر الإذاعة الفلسطينيّة كانت في عام 1936، عندما أسّس الممثّل الفلسطينيّ جميل الجوزي الفرقة التمثيليّة الأولى...

لم تتعدّ مواضيع هذه الأعمال التنشئة الاجتماعيّة، ومواضيع سِيَر العشّاق، والقضايا الاجتماعيّة مثل الإقطاعيّين والتعامل في بيئة الإقطاع، والافتخار بالتاريخ العربيّ وبطولات العرب والمسلمين، والقصص المرويّة عن الحبّ والعشق والفروسيّة؛ وتبيّن فيها مظاهر شهامة الخلفاء الراشدين والتابعين، مثل صلاح الدين الأيّوبيّ وبطولاته ضدّ الصليبيّين[3]. وبمعنًى آخر، فقد كانت الروايات الإذاعيّة تقدّم نموذجًا تربويًّا بالمجمل؛ على أساس عرض صور تمجيد البقعة العربيّة الّتي يترعرع بها الفلسطينيّون خصوصًا والعرب عمومًا. ولم يكن ثمّة مسلسلات تلفزيونيّة، لكن ما كان شائعًا وقتذاك الأفلام السينمائيّة من قبيل «زيارة الملك عبد العزيز» (1935)، و«أحلام تحقّقت» (1939)[4]، ولم تتناول أيًّا من المواضيع الثوريّة، أو مواضيع الاستعمار الإسرائيليّ.

في هذا الوقت، بدأت الرقابة الإنجليزيّة واليهوديّة على المحتوى الدراميّ المقدّم عبر الإذاعة الفلسطينيّة، إلى درجة أنّ العصابات الإنجليزيّة واليهوديّة انهالت على القسم العربيّ من الإذاعة؛ للضغط على المقدّمين لإيقاف بثّ هذه السلسلة الحماسيّة من العروض، الّتي تمجّد بطولة العرب وتسامحهم، وتُعلي شأن صلاح الدين الأيّوبيّ أمام خصمه الصليبيّ ريكاردو قلب الأسد[5]، واعتبروا أنّها حملة على الغرب، وتمجيد صارخ للعرب والعروبة والمسلمين، وفرضوا رقابة على المحتوى الفلسطينيّ حينها. ومع بداية نكبة 1948، توقّف بثّ الإذاعة كلّيًّا لتنتقل إلى الأردنّ، ويُعاد البثّ بعد عام 1959 من عمّان، دون بثّ أيٍّ من المسلسلات الإذاعيّة حينها[6].

شكّلت النكبة ضربة قاسية للعمل الإعلاميّ الفلسطينيّ، ولا سيّما بعد سيطرة العصابات الصهيونيّة على مراكز الإعلام الصادر من الأراضي المحتلّة. توقّف البثّ الإذاعيّ، لكن محاولات خجولة لاستعادة «إذاعة فلسطين» بدأت في عام 1964؛ عبر "إنشاء محطّة إذاعيّة في القاهرة باسم «صوت فلسطين» صوت «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»"[7]. استعادت الأفلام السينمائيّة إنتاجها مع مواضيع جديدة وحماسيّة، وكان أهمّها «لا للحلّ السلميّ» (1968)، و«على طريق الثورة» (1971)، وفيلم «حرب الأيّام الأربعة» (1973)، وفيلم «عمليّة الخالصة» (1974)[8]. وقد كانت مواضيعها عن الفدائيّين والثوّار الفلسطينيّين، والقوّات العربيّة في المعارك ضدّ العصابات الصهيونيّة.

لنتجاوز حقبة من هشاشة الإعلام التلفزيونيّ الفلسطينيّ، الّذي لم يكن قادرًا على النهوض بفعل الاستعمار وعوامل مؤسّساتيّة داخليّة، ونصل إلى عام 1993 حين بدأ التلفزيون الفلسطينيّ بالبثّ من مدينة رام الله[9]، وبدْء الدورة الإنتاجيّة الّتي تطوّرت بعد «اتّفاقيّة أوسلو»، الّتي بدأت بعدها مرحلة جديدة من الإنتاج التلفزيونيّ والدراميّ، ركّزت على واقع النضال الفلسطينيّ، وإعادة لملمة شعث الهويّة الفلسطينيّة.

 

دور المؤسّسة الرسميّة

يذكر الكاتب والسيناريست الفلسطينيّ، رياض سيف، في مذكّرات تطوير الأعمال الدراميّة الفلسطينيّة، أنّ اللجنة المنبثقة عن ورشة «الدراما التلفزيونيّة: إعلام الشعوب النافذ»، الّتي اجتمعت في تاريخ 17 نيسان (أبريل) 2012، والمكوّنة من: يوسف الديك، وبثينة حمدان، وأنيس البرغوثي، وعبد السلام أبو ندى، وجورج خليفي. وبعد مناقشة التوصيات المقدّمة من المجموعات الخمس، الّتي تشكّلت مع نهاية الورشة، والّتي أدارها كلٌّ من: رياض سيف، ونبيل الشوملي، ونادرة عمران، ومحمّد القبّاني، وزهير النوباني، اتّفقت على إقرار التوصيات التالية وإعلانها رسميًّا:

1. توصي اللجنة بتأسيس «الصندوق الوطنيّ لدعم الدراما» (سواء: تلفزيون، مسرح، سينما، إذاعة)، بمجلس أمناء يضمّ جهات رسميّة، والقطاع الخاصّ، والجهات المموّلة، ومؤسّسات المجتمع المدنيّ العاملة في هذا القطاع، وشخصيّات فنّيّة اعتباريّة. كما كانت التوصية أيضًا بأن تُنْتخَب «الجمعيّة العموميّة» من المؤسّسات العاملة في هذا المجال، ويضع مهتمّون في هذا القطاع آليّات ونظامًا داخليًّا حول آليّات عمل هذا الصندوق.

2. التوصية للجهات الرسميّة والمحلّيّة بشراء الأعمال الدراميّة الفلسطينيّة بمختلف أنواعها طبقًا لجودتها؛ من خلال لجنة تقييم مهنيّة مستقلّة.

3. التوصية للجهات الرسميّة للمساهمة في إنتاج الأعمال الدراميّة، بما لا يقلّ عن 30% من قيمة العمل.

غير أنّ هذه القرارات لم تلقَ أذنًا صاغية من مجتمع المستثمرين الفلسطينيّين المحلّيّين أو المغتربين، لرفد خزينة دعم الدراما الفلسطينيّة؛ ويرجع البعض ذلك إلى حجّة عدم جدوى الأعمال الدراميّة الفلسطينيّة في أيٍّ من المواضيع والرسائل الّتي تحتويها.

 

المسلسلات والمتغيّرات السياسيّة

شكّلت مقاومة الاستعمار الإسرائيليّ، والفكاهة الشعبيّة المحلّيّة، أهمّ المحاور في المسلسلات الدراميّة الفلسطينيّة في مرحلة ما بعد «اتّفاقيّة أوسلو»؛ امتدادًا إلى الموسم الدراميّ الحاليّ 2023. وتناولت مسلسلات هذه الحقبة التحدّيات اليوميّة، والظلم، وانتهاكات حقوق الإنسان، الّتي تواجه الفلسطينيّين تحت الاستعمار، وتسلّط الضوء على المرونة والشجاعة والتصميم عند الفلسطينيّين، في نضالهم من أجل الحرّيّة، وقضايا الأسرى في المعتقلات الصهيونيّة.

يُعَدّ الإنتاج الدراميّ الفلسطينيّ ضئيلًا مقارنة بالإنتاج المصريّ أو السوريّ أو الخليجيّ، ومردّ ذلك قد يكون انشغال التلفزيون بالشؤون السياسيّة للبلاد، والتركيز على البرامج الترفيهيّة في ظلّ المآسي الّتي يعيشها الشعب الفلسطينيّ من جهة، وضغط الاستعمار الإسرائيليّ على القطاع الإعلاميّ، الّذي يحدّ من إنتاج أعمال دراميّة تلفزيونيّة توعويّة بحقيقة الاستعمار وفظائعه، ضمن نسق التوجيه السياسيّ لأبناء الأراضي المحتلّة.

 

 

أمّا في قطاع غزّة، بعد عام 2005، فيمكن القول إنّ الأعمال الدراميّة افتقرت إلى الحبكة والفنّيّة المحكمة، والمدعومة بأدوات إخراجيّة وشركات تموّل الإنتاج المحلّيّ؛ لتكون المسلسلات على «تلفزيون الأقصى»، التابع لحركة «حماس»، محاولات متواضعة تركّز على المقاومة والفعل السياسيّ والعسكريّ، وبناء الأعمال على قصص الحركات العسكريّة في القطاع المحاصر، ومخرجات العمليّات العسكريّة فيه.

يروي الفنّان الفلسطينيّ جواد حرودة لموقع وصحيفة «العربي الجديد» أنّ الدراما التلفزيونيّة الفلسطينيّة بدأت بحلقات ’فلاش‘، الّتي هدفت في تلك المدّة إلى توعية الجمهور بأهمّيّة الانتخابات في 1995، ومن ثَمّ مسلسل «ليالي الصيّادين»، الّذي كان تصويره على ميناء غزّة في عام 1996[10].

بذل «تلفزيون فلسطين» جهودًا مستمرّة على مدار السنوات القليلة الماضية؛ في محاولته إنتاج دراما تلفزيونيّة فلسطينيّة حيّة، تحاكي الواقع الفلسطينيّ من جهة، ومن جهة أخرى تحاول تخفيف وقع الأزمات الّتي تعصف بالمجتمع الفلسطينيّ؛ عبر إنتاج كوميديا خفيفة تنبع من هموم الشعب الفلسطينيّ في ذات الوقت.

في بداية القرن الحاليّ، أُنْتِجَتْ أعمال فلسطينيّة كاملة ذات مستوًى جيّد، ولاقت استحسان الجمهور الفلسطينيّ المحلّيّ، مثل مسلسلات «الكنعانيّ»، و«الإخوة الغرباء» (1980)، و«ليالي الصيّادين»، و«يوميّات أبو العزّ»، بالإضافة إلى «كفر اللوز» (2016). لم تحقّق هذه المسلسلات شهرة عربيّة؛ بسبب عدم عرضها على الشاشات الرئيسيّة العربيّة مثل «إم بي سي» وقنوات «روتانا»، في مواسم الدراما السنويّة في شهر رمضان، ويعود ذلك إلى قلّة الثقة المسبقة فيها، وضعف نجوميّة الممثّلين الفلسطينيّين العاملين فيها، بالإضافة إلى ضعف خبرة صنّاعها في التسويق والترويج، مثل غيرهم من المهتمّين إلى حدٍّ ما بالدراما العربيّة.

 وفي سياق الحديث عن الدراما الفلسطينيّة المعاصرة، وضعنا المسلسل التلفزيونيّ «الفدائيّ»، الّذي أنتجته فضائيّة «الأقصى» في الموسم الدراميّ 2015-2016، قيد الدراسة والتحليل؛ للنظر في ما إذا كان للدراما الفلسطينيّة المحلّيّة دور في إيصال همّ الفلسطينيّين وصوتهم إلى الشاشة، ووضعها على المحكّ أمام المتابعين، سواء العرب أو الغرب. ويتضمّن ذلك إبراز نقاط القوّة في الرسائل المتعدّدة الّتي يهدف فريق المسلسل إلى نقلها؛ من خلال المشاهد الدراميّة الّتي تحاكي الواقع الّذي يعيشه الشعب الفلسطينيّ.

وفي رمضان 2023، عُرِضَ مسلسل «أمّ الياسمين»، الّذي يتناول الحقبة بين 1929 و1935؛ أي بداية «ثورة البراق» في مدينة القدس، الّتي امتدّت في كلّ فلسطين، ويسلّط الضوء أيضًا على مدينة نابلس من الناحية الثقافيّة، والعادات والتقاليد الّتي تمتاز بها المدينة. هذا المسلسل من سيناريو وحوار فاخر أبو عيشة، وإخراج بشار النجّار؛ وجاء نسبة إلى «حارة الياسمينة» في مدينة نابلس، الّتي جرى تصوير غالبيّة مشاهد المسلسل فيها، نظرًا إلى الرمزيّة التاريخيّة الّتي تتمتّع بها. يحاكي المسلسل الحالة النضاليّة في مدينة نابلس في تلك الحقبة، ومواجهة المواطنين للاستعمار الإنجليزيّ، ومن ثَمّ الصهاينة، وكيفيّة رفض دفع الضرائب الباهظة الّتي فُرِضَت عليهم آنذاك، ويتطرّق أيضًا إلى بعض الأحداث مثل «ثورة البراق».

 

«الفدائيّ»

تناول مسلسل «الفدائيّ» جوانب مختلفة من الحياة الفلسطينيّة، تمتدّ من غزّة والضفّة الغربيّة والقدس وأراضي 48، وتشمل مواضيع مثل حصار غزّة، والأسرى في سجون الاستعمار، والمقاومة الفلسطينيّة، وانتفاضة القدس، والمستوطنات، والتهويد، وغيرها من المواضيع الّتي يسعى فريق العمل  إلى تسليط الضوء عليها.

 

 

في حين أنّه من الصحيح أنّ الأحداث والمشاهد التمثيليّة، في الضفّة الغربيّة والقدس، لها حضور أكبر في المسلسل مقارنة بأحداث جرت في غزّة، فإنّ التركيز على الضفّة الغربيّة ومقاومتها يتّجه نحو دفع حركة المقاومة هناك إلى الأمام، والتشديد على أثرها ودورها النضاليّ وعدم إغفاله، ولا سيّما بالنظر إلى التنسيق الأمنيّ بين «السلطة الفلسطينيّة» وسلطة الاستعمار.

يدرك المخرج محمّد خليفة تمامًا دوافع الأجهزة الأمنيّة في الضفّة الغربيّة للمشاركة في المقاومة ضدّ الاستعمار، ودور العديد من عناصر السلطة في تنفيذ عمليّات في الضفّة. ويتجلّى ذلك من خلال شخصيّة عضو مقاومة من ’خليّة نابلس‘، كان يعمل في الأجهزة الأمنيّة. حتّى أنّ المسلسل يصوّر تورّط مجموعة من الأجهزة الأمنيّة، في العمليّة الأخيرة لتحرير ’حيّ الفدائيّين‘ من المستوطنين وجيش الاستعمار. تركّزت أحداث المسلسل بشكل أساسيّ في مدينة الخليل، حيث كانت تجسيدًا مصغّرًا للواقع الفلسطينيّ الحاليّ، مع إظهار لقطات قليلة من قطاع غزّة، وأخرى من داخل سجون الاستعمار الصهيونيّ؛ ممّا يسلّط الضوء على مدى تغلغل الاستعمار في تفاصيل الحياة في البلاد، ومدى الظلم الّذي يتعرّض له الأسرى الفلسطينيّون.

 

مواجهة السرديّات الغربيّة

بعد انتشار منصّات مجنّدة وتحريضيّة مثل «نتفلكس»، تعمل على إخراج أعمال تسعى إلى تحسين صورة الاستعمار الإسرائيليّ، مثل فيلم «فرحة» (2021)، الّذي أظهر المحتلّ بصورة إنسانيّة، كما فعل الجنديّ الإسرائيليّ عندما رفض إعدام الطفل الرضيع، وتخفيف الحدّة تجاه المخبرين أو العملاء؛ فقد كان من الملاحظ أنّ الدراما الفلسطينيّة اهتمّت إخراجيًّا بتقديم ثلاثة ملفّات أساسيّة، تُنُووِلَتْ بطريقة دراميّة وفنّيّة لمواجهة السرديّات الغربيّة حول فلسطين.

على الرغم من بساطة هذه الأعمال، وعدم استخدامها لتقنيّات وتأثيرات التصوير الحديثة، الّتي تعكس التطوّرات في أساليب التصوير والإخراج والمونتاج، بسبب التحدّيات الّتي يمثّلها الحصار، ونقص الموادّ والتقنيّة، وضعف الموارد في البيئة الّتي جرى فيها تصوير المسلسلات، إلّا أنّها كانت قادرة على تسليط الضوء على عدّة قضايا:

 

1. الأسرى في سجون الاستعمار

حظيت قضيّة الأسرى في السجون الإسرائيليّة باهتمام كبير خلال أحداث مسلسل «الفدائيّ»، وكان التركيز على أوضاع الأسرى، والانتهاكات، والتعذيب الوحشيّ الّذي يتعرّضون له خلال فترة الاستجواب، الّتي كشفت حقيقة واقع الأسرى من خلال مشاهد دراميّة. وبالمثل، قدّمت مشاهد الحبس الانفراديّ وصفًا دقيقًا للحياة الصعبة للسجناء المعزولين، وكيف يعاملهم السجّانون الصهاينة، وكيف أسفر التعذيب الوحشيّ عن عطب العديد من الأسرى، تجسّد ذلك في شخصيّة ’أسيد‘؛ المقاوم الفلسطينيّ في زنزانة معسكر حوّارة في نابلس، الّذي تعرّض لتعذيب شديد أدّى إلى إصابته بالعمى.

وقد غطّت المسلسلات في غالبها التفاصيل المعقّدة لحياة الأسرى، بما في ذلك مداهمات غرفهم والاعتداءات عليهم، وسلّطت الضوء على الإضرابات عن الطعام الّتي يقومون بها، والّتي من خلالها حقّقوا مكاسب تتعلّق بالزيارات العائليّة، وتحسين ظروف الاحتجاز، وإنهاء العزلة.

ثمّ إنّ العديد من المشاهد صوَّرَ دور المخبرين والجواسيس، في انتزاع المعلومات من الأسرى. هذه التفاصيل الّتي أخفق الاستعمار في استخلاصها أثناء الاستجواب، أظهرت وعي الأسرى الشديد بهؤلاء المتعاونين وطريقة تعاطيهم معهم. إضافة إلى ذلك، نقلت المسلسلات رسالة تحذير إلى كلّ أسير لتجنّب الوقوع في فخّ التعاطي مع المخبرين والجواسيس، وقد ظهر ذلك من خلال تسريب صورهم خارج السجن. وسلّطت المسلسلات مثل «الفدائيّ» الضوء على ارتباك الدولة الصهيونيّة في التعامل مع قضيّة الأسرى، وعدم قدرتها على مواجهة تصعيدهم، مثل الإضراب عن الطعام، والامتناع عن التوجّه إلى باحة الاستراحة، وغالبًا ما استسلمت إدارة السجن للمطالب المشروعة للسجناء؛ ممّا يعكس الواقع داخل نظام السجون.

أظهر الصراع الدراميّ عدم قدرة الضبّاط الإسرائيليّين على التعامل مع هذا النوع من المقاومة الفلسطينيّة - أي مقاومة الأسرى - الّتي تعتمد على الفكر والتخطيط. كما سلّط «الفدائيّ» الضوء على قدرة الأسرى على التواصل مع العالم الخارجيّ، والتأثير في الساحة الفلسطينيّة؛ إذ لم يكن السجن قطّ عقبة أمام استمرار عملهم المقاوم؛ ممّا يفضح زيف نظريّة الاستعمار الأمنيّة في إنهاء المقاومة.

 

2. الاستيطان والتهجير القسريّ

تناقش المسلسلات مسألة الاستيطان والاعتداءات في الضفّة الغربيّة المحتلّة، وتلقي الضوء على واقع تصرّفات المستوطنين دون مبالغة. يُصَوَّر هذا الأمر من خلال قصص واقعيّة للحياة اليوميّة للفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، مثلًا مدينة الخليل و’حيّ الفدائيّين‘ كما في مسلسل «الفدائيّ»، حيث يصوّر المسلسل عمليّات مقاومة المستوطنين وطردهم، واستصلاح الأراضي. كما يستعرض المسلسل المحاولات الإسرائيليّة لاستعادة السيطرة من خلال الجرائم اليوميّة الّتي يقوم بها المستوطنون، بما في ذلك العنف والإذلال ضدّ السكّان. وتُظْهِر المسلسلات تصميم الفلسطينيّين على حماية أرضهم مِنْ عدوان المستوطنين، وتفضح المصالح المتباينة للصهاينة، على عكس الرواية الّتي يقدّمها الإسرائيليّون، ويكشف عن مصالحهم المشتركة في الاستيلاء على الأراضي والممتلكات الفلسطينيّة. حتّى أنّ مسلسل «الفدائيّ» مثلًا تقديم مشاهد رمزيّة، حيث يلجأ المستوطنون إلى قتل بعضهم بعضًا لتحقيق مكاسب ماليّة.

 

3. المقاومة وعمليّات الفصائل

من أهمّ المواضيع والثيمات، الّتي تتطرّق إليها الدراما الفلسطينيّة الحديثة لمواجهة السرديّات الغربيّة، موضوع المقاومة ضدّ الاستعمار والعمليّات العسكريّة الهجوميّة الّتي تنفّذها، وكيفيّة مقاومة الشباب العزّل لقوّاته العسكريّة.

تعكس المشاهد المتعلّقة بالمقاومة في الدراما الفلسطينيّة المعاصرة، مثل «ميلاد الفجر» (2021) و«الفدائيّ»، مدى التأييد الشعبيّ والوحدة الفلسطينيّة حول خيار المقاومة في غزّة والضفّة الغربيّة والقدس المحتلّة وغيرها، والدعم المعنويّ المقدّم للمقاومة وأهالي غزّة خلال العدوانات عليها.

 

 

علاوة على ذلك، يتناول المخرجون قضايا أسر جنود الاستعمار، مقارنين طريقة تعامل المقاومة مع الأسرى الإسرائيليّين بالمعاملة الّتي يتلقّاها الأسرى الفلسطينيّون من سلطات الاستعمار. وتُبرز المعاملة الإنسانيّة حقيقة كيفيّة تعامل المقاومة مع الأسرى، وتلبية احتياجاتهم، وتوفير المعلومات والصور عن عائلاتهم، وضمان ظروف معيشيّة كريمة، وحتّى السماح لهم بالأنشطة الترفيهيّة. يتجلّى ذلك مثلًا في مشاهد الجنديّ الإسرائيليّ المفرج عنه، جلعاد شاليط، بعد تبادل الأسرى في عام 2011، كما الحال في مسلسل «الفدائيّ». ويمكن الإشارة إلى شخصيّة مالك في مسلسل «ميلاد الفجر»، الّتي تعود إلى قياديّ في المقاومة الفلسطينيّة، ومهندس العمليّات في الأرض المحتلّة؛ وهو الّذي يرسم الخطط، ويعطي التوجيهات لفصائل المقاومة على الأرض، ويحظى عمله بالكثير من النجاحات والإخفاقات في نفس الوقت، الّتي تزيد المقاومة قوّة وصلابة وإصرارًا على المواصلة في الدرب[11].

 

توجّهات دراميّة جديدة

لا تنفي فكرة الالتزام بالقضايا المصيريّة للشعب الفلسطينيّ ومقاومة الاستعمار، أن يكون للدراما الفلسطينيّة توجّهات ومحاور دراميّة جديدة، ولا سيّما التوجّه نحو الكوميديا، والمسلسلات الخفيفة الّتي توجّه النقد نحو الشارع المحلّيّ والعربيّ بطابع ساخر. تأتي بعض سكيتشات مسلسل «وطن ع وتر»، للمخرج رائد الحلو، ناقدة للواقع السياسيّ والاجتماعيّ والصحّيّ والاقتصاديّ الفلسطينيّ، والعربيّ أحيانًا، بنصّ ساخر وأداء تهكّميّ، وتحمل رسائل واضحة حول الواقع الّذي يعيشه الفلسطينيّون، سواء تحت حكم «السلطة الفلسطينيّة»، أو تناقش علاقة السلطة بالاستعمار الصهيونيّ، كما الحال في مسألة التنسيق الأمنيّ، ومسألة الانقسام الفلسطينيّ، ومسألة المساعدات وكيفيّة تمريرها إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وغيرها.

 


إحالات

[1] نصري الجوزي، تاريخ الإذاعة الفلسطينيّة، هنا القدس 1936-1948، (دمشق: الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، 2010).

[2] مصدر سابق.

[3] مصدر سابق

[4] وكالة وفا، تمّ الدخول في 20 يونيو 2023.

[5] مصدر سابق.

[6]  عبد الله تايه، التطوّر التاريخيّ لإذاعة وتلفزيون فلسطين. دنيا الوطن، 2023. تمّ الدخول في 19 يونيو 2023 من خلال https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2006/12/20/67755.html.

[7] الموسوعة الفلسطينيّة، الجزء الرابع، ص 314.

[8] وكالة وفا، تمّ الدخول في 20 يونيو 2023.

[9] موقع تلفزيون فلسطين. تمّ الدخول في 19 يونيو 2023 من خلال https://www.pbc.ps/network/

[10] الفلسطينيّ جواد حرودة: شعب لا يجيد الفنّ لا يجيد القتال، العربي الجديد، تمّ الدخول في 23 يونيو 2023: https://shorturl.at/bsDQ8.

[11] الدراما الفلسطينيّة: أعمال تستلهم واقعًا وتستعيد تاريخًا، العربي الجديد، تمّ الدخول في 3 أغسطس 2023: https://shorturl.at/lsKPZ.

 


 

مهيب الرفاعي 

 

 

 

كاتب وصحافيّ وباحث سوريّ في «معهد الدوحة للدراسات العليا»، حائز على ماجستير «الترجمة التحريريّة» من «جامعة دمشق». تنصبّ اهتماماته البحثيّة في قضايا الإعلام، والسياسة، والصحافة العربيّة.