’فريندز‘... متعة اللّاشيء

من مسلسل «Friends» | المصدر: Vox.

 

شكّل مسلسل الكوميديا الأمريكيّ الشهير «فريندز - Friends»، الّذي انطلق عام 1994 لعشرة مواسم، نقلة نوعيّة لافتة في مجال صناعة برامج ’كوميديا الموقف‘ (Sitcom)، الّتي باتت تُعْرَف لاحقًا بـ ’الكوميديا المنزليّة‘. 

تنطلق فكرة هذا النوع من البرامج التلفزيونيّة من الإطارات الثابتة: شخوص تدور حولهم الأحداث؛ أماكن ثابتة تحتوي ما يحدث من أحداث وتُبْقي عليها، ونقلات ظريفة وبسيطة تحمي ذهن المشاهد من الحبكات المعقّدة والانتقالات المربكة، إضافة إلى مقارباتها الساخرة والظريفة.

لم تكن انطلاقة المسلسل الّذي قدّم إلى العالم في عام 1994 ستّة ممثّلين وممثّلات جدد، نجح بعضهم في إكمال المسيرة على أكمل وجه، مثل جينفر أنسيتون وديفيد شويمر تحديدًا، وفشل بعضهم في إكمال ما بدؤوه، مثل مات ليبلاك وماتيو بيري، وآخرون تأرجحوا على حبل النجاح، مثل كورتني كوكس وليزا كوردو؛ بل سبق المسلسل مجموعة من الأعمال الّتي أسّست لقدوم هذا العمل. عند الحديث عن «فريندز» لا بدّ من تسليط الضوء على مسلسل أمريكيّ شهير سبقه بسنوات، «ساينفيلد - Seinfeld»، الّذي انطلق في عام 1989 لتسعة مواسم كاملة، وقد كان من بطولة نجم الـ ’ستاند أب كوميدي‘ الأمريكيّ الشهير جيري ساينفيلد، إضافة إلى جوليا لويس درايفوس، وجاسون أليكساندر، ومايكل ريتشاردز. ولعلّ المتابع الجيّد لأحداث «فريندز» وقفشاته، سيلحظ بالتأكيد الكثير من التأثّر بما جرى في مسلسل «ساينفيلد».

 

مسلسلات اللّا شيء

في واحد من فصول مسلسل «ساينفيلد»، يخرج أبطال المسلسل بفكرة تقديم مشروع مسلسل ’سيتكوم‘ لإحدى شركات الإنتاج التلفزيّة الأمريكيّة، وبعد نقاش طويل، يتّفق الممثّلون المحتملون على أنّ فكرة المسلسل يجب أن تقوم على لا شيء (Nothing). يدور نقاش طويل: المسلسل سيدور حول لا شيء؛ لا فكرة؛ لا قصّة؛ لا حبكة؛ لا أحداث مميّزة. لا شيء: نستيقظ من النوم؛ نستعدّ؛ نذهب إلى العمل؛ نأكل؛ نتشاجر، هذه هي قصّة المسلسل؛ لا شيء (Nothing).

 

 

تبدو فكرة المسلسل الّذي يتحدّث عن لا شيء صادمة أمام انبهار سينما السبعينات بالعناوين الكبرى، ثمّ تَهَشُّم هذه العناوين وتهاويها وتلاشيها لصالح الهموم الصغيرة واليوميّة، الّتي لا تريد أن تعالج أو تحفر أو تُسائِل أيّ شيء. كما أنّها مؤسِّسة إلى حدّ بعيد لما سيأتي لاحقًا من أعمال تتّسم بالخفّة والرشاقة والالتقاطة السريعة، تكتفي بذلك، ولا تبتعد أكثر من ذلك، وهو ما صبغ الثيمة الأساس لمسلسل «فريندز» الشهير، الّذي ما زالت ذكراه تتردّد بعد أكثر من 19 عامًا من إقفال آخر حلقاته.

 

تطبيع إسرائيل 

لا يمكن ادّعاء أنّ «فريندز» بدأ أو رسّخ فكرة الأعمال الّتي تتحدّث عن لا شيء. السينما الأمريكيّة زاخرة بهذا النوع من الأعمال، وتحديدًا تلك الّتي وُلِدَتْ في تلك الفترة، قبلها بكثير أو بعدها بكثير أيضًا. لكن، وعند تجاوز الدائرة الفجّة للأعمال الّتي لا تعالج أيّ شيء، في فكرة هذا المسلسل ما يرسّخ الادّعاء القائم، وتحديدًا قبيل ظهور ما بات يُطْلَق عليه ’الصوابيّة السياسيّة‘ (Political Correctness)؛ إذ يبدو من الممتع النظر إلى مشاهد تتحرّر من فوبيا الوقوع في فخّ الاعتداء على محرّمات هذه الأيّام. تبدو أدوات الرقابة هذه الأيّام أكثر شجاعة وأكثر حدّة من مثيلاتها في منتصف التسعينات ومطلع الألفيّة؛ ممّا يبرّر أريحيّة أبطال المسلسل في مسألة التناول بسخرية قضايا مثل المثليّة الجنسيّة، والأمراض السارية، وأشكال الناس وأنماطهم.

مع أنّ في المسلسل الكثير ممّا يمكن الادّعاء بشأنه، في أنّه يحاول أن يطبّع قضايا ذات إشكاليّة عالية، وتحديدًا في قضايا مثل الاستعمار الصهيونيّ؛ وهو العنصر الّذي اشترك واتّفق عليه المسلسلان «فريندز» و«ساينفيلد»، في تمرير الكثير من القفشات والمواقف، الّتي تستدعي إسرائيل وعاداتها وطقوسها في المسلسل كأنّها شيء عاديّ، وليس باعتبارها استعمارًا ونظامًا قميئًا للفصل العنصريّ.

وهي الثيمة الّتي اشترك فيها أبطال المسلسلين، جيري ساينفيلد، وهو يهوديّ يستدعي إسرائيل وعادات اليهود في الكثير من المواقف، وديفيد شويمير الّذي مثّل دور ’روس‘ اليهوديّ، الّذي يريد أن يذكّر المُشاهِد أنّ ثمّة الكثير من المناسبات اليهوديّة الواجب الاحتفال فيها والتوقّف عندها، فضلًا على استدعاء صورة الكوماندوز الإسرائيليّ بشيء من الإعجاب في كلا المسلسلين.

 

 

 

الجنس للضحك

لكن، بالتجاوز عن محاولة تعويد الذهن وتطبيعه بالسخرية من إسرائيل، وكأنّها شيء طبيعيّ يمكن السخرية منه، إلّا أنّ المسلسل زخر بذكاء اللاشيء إيّاه؛ ذكاء المقاربة الظريفة المتصالحة مع ذهن المشاهد، القادرة على التسلّل إلى أكثر المساحات إضحاكًا. والمقاربة نفسها الّتي تقترب من الكوميديا المادّيّة بالمفهوم الأخلاقيّ الإشكاليّ، كوميديا تستدعي الجنس محرّكًا للضحك، تقترب منه ولا تقترب تمامًا، وهكذا.

وإذا كان الجنس، باعتباره ثيمة لا تختبئ تمامًا في الدراما والكوميديا الغربيّة؛ أي أنّها في شقّيها الواضح والمشار إليه بمواربة، تُعْتَبَر محرّكًا أساسيًّا لعجلة الأحداث الصغيرة والكبيرة؛ فإنّ المسلسل لم يتفوّق على نفسه فحسب في امتلائه بالكثير من الإشارات والدوافع الجنسيّة، بل في أنّ هذه الدوافع والإشارات لم تكن ثقيلة، أو زُجَّت بفجاجة ما بين السطور، بل بالعكس، جاءت تستجيب لمحرّكات المجتمع الغربيّ الذاتيّة وثقلها الملحّ على الوجدان الفرديّ.

 

خفّة المعالجة

لم ينشغل المسلسل تمامًا بإكمال الحوارات كما يقتضي أيّ حوار بين شخصين؛ بمعنى أنّ ذهن المشاهد لم يكن غائبًا عن إكمال الكثير من الحوارات والأحداث والصور؛ إذ كان على أبطال العمل أن يبدؤوا حوارًا من جملتين؛ لرسم صورة ما سيحدث لاحقًا بالاتّكاء على ذهن المشاهد، في حلقة يتبادل فيها المشاهد وصنّاع العمل الأدوار؛ الأمر الّذي لا يمكن تطبيقه في الكثير من الأعمال، وتحديدًا تلك الثقيلة الّتي تستدعي جهدًا آخر وتركيزًا أكبر من طرف المشاهد؛ حتّى يمسك تلابيب الحبكة وصولًا إلى القفلة. تبدو الكوميديا هنا مدخلًا سهلًا للاتّكاء على ذهن المشاهد، في عجلة تتّسم بالخفّة والرشاقة غير المنطوقين.

 

 

وهي الكوميديا ذاتها الّتي تنطلق من افتراضها أنّ هموم الشباب تندرج أسفل مجموعة من العناوين: عناوين المواعدة والجنس، والانسحاب من العلاقات والعودة إليها، والعمل والدراسة، والعلاقة بالوالدين. وهي الكوميديا الّتي لا تقدّم ولا تنشغل بتقديم معالجات أخلاقيّة لكلّ ذلك، لكنّها تلتقط المفارقات المضحكة الكثيرة، وتضغطها في قالب تمثيليّ اتّسم بالحميميّة والقرب والسهولة اللذيذة، بلا انشغال بالنصائح، ولا انهماك في محاولة تصويب أيّ شيء؛ أي أنّها لم تنصب نفسها في إطار الناصح الّذي يريد أن يغيّر أو يصلّح، أو يقدّم نموذجًا مغايرًا لما هو سائد أو رائج أو مختلَف عليه.

بالرغم من أنّ «فريندز» لم يكن أصيلًا بما يكفي كي يشكّل اختراقًا موضوعيًّا في نمط سينمائيّ يشكّل رسوخه عائقًا لما سيأتي من بعده، باعتباره انقلابًا على السائد، لكنّه، وفي سياق آخر، أكمل طريقًا طويلًا مشى عليه مؤسّسون.

ما يُحْسَب للعمل، أنّه منح المشاهد شعورًا بالحميميّة والدفء، ومنح مناسبات وطقوسًا تبدو في السينما في وضعها العاديّ، وللوهلة الأولى، تمرّ مرور الكرام، مسحة أخرى وبُعْدًا جديدًا في كوميديا تلك الأيّام. لم تستطع أعمال كثيرة سبقته أن تضفي تلك المسحة الّتي تفتّت الوحشة، وتمسح الملل عنها.

 


 

أمير داود

 

 

 

كاتب وباحث في الشأن الثقافيّ من فلسطين. يكتب في منابر عربيّة وفلسطينيّة، صدرت له مجموعة نصوص سيريّة بعنوان «صديق نقطة الصفر».