"دوبان": الجسد الرّاقص رسول الانعتاق

ما يشبه التّقديم

ذهبتُ إلى العرض بروحٍ صحراءَ... وعدتُ أحمل معي الماء

ثلاث سنواتٍ مرّت على تأسيس "دوبان"، أوّل فرقة رقصٍ فلسطينيّةٍ مقدسيّةٍ ساعيةٍ للاحتراف، الفرقة الحالمة بتحويل المجتمع الفلسطينيّ إلى مجتمعٍ يسوده التّسامح والحبّ، التّحرّر والانعتاق في رسالة الأجساد والأرواح المحلّقة؛ ليس فقط تحرّرٌ من الاحتلال، لكنّه أيضًا تحرّرٌ فكريٌّ، تحرّرٌ من الأمراض الاجتماعيّة كالجهل، والفقر، وانعدام الفرص، وتقييد المرأة، والتّقليد الأعمى، وغيرها الكثير، وهو رسالةٌ أيضًا لحبّ الحياة.

بدءًا من الاسم "دوبان"، وهو اسم مقامٍ فارسيٍّ كان يرقص عليه راقصون محترفون، كما أشار المدير الفنّيّ للفرقة، حنّا طمس، وليس انتهاءً بحلم العالميّة السّاعية إليه "دوبان" بروحٍ توّاقةٍ، وما بين النّشأة وحلم العالميّة، يدمج أربعون راقصةً وخمسة راقصين، تتراوح أعمارهم بين 14 و24 عامًا، بين فنون الرّقص المختلفة؛ الدّبكة الفلسطينيّة والباليه والفلامنكو والرّقص الإفريقيّ والرّقص المعاصر، يجتمع هذا الكمّ الإنسانيّ في لوحاتٍ فنّيّةٍ تحمل مع كلّ خطوةٍ رشيقةٍ فيها رسالةً للمجتمع.

احتفاءٌ بالتّنوّع وسماعٌ للتّناقضات

احتفالاً بثلاث سنواتٍ على تأسيسها، وبما لا يقلّ عن خمس عشرة لوحةً فنّيّةً راقصةً تنحاز للإنسان، افتتحت "دوبان" حفلها بمشاركة فرقة "غزل" للموسيقى البديلة من النّاصرة، في قصر رام الله الثّقافيّ.

جاء الافتتاح برقصة "مسار"، تنتقل بنا من بداية الخليقة، حيث الأرض وولادة الإنسان، نحو بداية القوّة والسّلطة والصّراع مع الطّبيعة وصراع الإنسان مع الإنسان، ونحو التّمرّد، فتهجّرنا نحو المجهول، ونحو الآخر، حيث ثقافاتٌ كثيرةٌ لا تعرفنا ولا نعرفها، لكن تغلبنا قوّتها ونعود كما لم نكن يومًا. أمّا الأرض، فتبقى كما هي وتقبلنا بكامل تناقضاتنا وتحوّلاتنا.

تحتوي لوحة "مسار" على لوحاتٍ راقصةٍ منوّعةٍ، بين باليه وفلامنكو، وترتدي الرّاقصات لباس باليه أسودَ مطعّمٍ بالتّطريز الفلسطينيّ، ولباس الفلامنكو؛ قد نحتفي في هذه اللّوحة بالتّنوّع، لكن رسالتها تحمل لنا أيضًا صراع الحضارات وغلبة القوّة، وحمل ثنائيّة الأنا والآخر في جسدٍ واحد.

وفي لوحة "طبولٍ" على وقع إيقاعاتٍ إفريقيّةٍ عربيّةٍ، نرى الصّراع الإنسانيّ في أشرس حالاته بتجسيدٍ حيوانيٍّ للرّقصات، فنرى نهش الإنسان لأخيه الإنسان، وأنانيّته في الوصول على حساب الآخرين، وكأنّنا نعيش دون رادعٍ أخلاقيٍّ؛ تسيطر علينا المادّة فلا نرى إلّا أنفسنا، ونسحق كلّ من يقف في طريقنا.

أمّا لوحة "بدّي غنّي للنّاس"، فتنحاز للمظلومين حيثما يوجد الإنسان؛ والظّلم في هذه اللّوحة يتجسّد بعدم قدرة الإنسان على التّعبير عن نفسه، فنرى الصّوت المكتوم الّذي يأبى أن يخرج. وبأحبالٍ تتلوّى في أيدي الرّاقصات لتشكّل لوحةً فنّيّةً تُعجب النّاظرين، يكمن الصّوت المكتوم في زمن القهر وحرمان الإنسان من العيش بكرامة، والتّعبير عن رأيه!

بعدسة: رفيق سعادة

حرّيّتان، للمرأة والوطن

ولأنّ الحرّيّة لا تتجزّأ، فللمرأة حظوةٌ في رقصات "دوبان"، وأكثر ما يبرز ذلك في لوحة "جدلة"، وعلى خلفيّةٍ صوتيّةٍ تحمل رسالة الآلهة عشتار تمثيلًا للمرأة أينما وُجدت: "أنا الزّوجة، وأنا العذراء... أنا الأمّ، وأنا الابنة... أنا في عرسٍ كبيرٍ ولم أتّخذ زوجًا... أنا العروس وأنا العريس..."؛ لكن هذه الرّسالة تطعّمها "دوبان" برسالة امرأةٍ فلسطينيّةٍ تقول: "أنا امرأةٌ فلسطينيّةٌ حدّ الرّحم"! في لوحة "جدلة" تلبس راقصتان لباس العرس الأبيض، لكن دون عريسٍ. رسالةٌ تقول إنّ النّساء مكتملاتٌ بعطائهنّ وقوّتهنّ وحنانهنّ وأنوثتهنّ.

أمّا الوجع الفلسطينيّ ورسالة الثّورة على الاحتلال والظّلم، فنراه في الكثير من اللّوحات الرّاقصة على أغانٍ شعبيّةٍ فلسطينيّةٍ وأغانِ عربيّةٍ ملتزمة، مثل "وين ع رام الله"، و"نحنا الثّورة والغضب"، و"رجع لبنان"، و"ظريف"، و"شالت شالت". معظم اللّوحات الّتي تتناول القضيّة الفلسطينيّة الدّبكة فيها هي الأساس، لكنّها ليست دبكةً خالصة، بل دبكةً تحاكي أنواع الرّقص الأخرى تعبيرًا عن التّطوّر والانفتاح على الحضارات الأخرى. وفي رقصة صولو للرّاقص حنا طمس، يعبّر طمس عن وجع غربة الفلسطينيّ، على خلفيّة صوت محمود درويش في قصيدته "تُنسى"، بينما يرتدي لباسًا تزيّنه الكوفيّة الفلسطينيّة.

هذا المزج بين أنواع رقصٍ مختلفةٍ، يرافقه مزجٌ في الأزياء الّتي تمتاز بها "دوبان"، للمصمّمة خلود خوري، والّتي تجمع بين اللّباس التّقليديّ والمعاصر؛ فلبس الباليه، والّذي اختارت له اللّون الأسود مع تطريزٍ فلسطينيٍّ، ولباس الدّبكة الّذي أتى بألوانٍ مبهجةٍ، واستخدام الأقمشة المتنوّعة كالقماش السّوريّ والغبانيّ وغيرها، مع استخدام إكسسواراتٍ من التّراث الفلسطينيّ؛ كلّ ذلك قد يجعلك تحتفي بالتّنوّع في لوحاتٍ تحمل لك فرحًا جميلًا سمعته في كلّ مكانٍ من قاعة قصر رام الله الثّقافيّ، ورأيته على وجوه الحاضرين.

بعدسة: رفيق سعادة

لقاء الاختلاف

أمّا مشاركة فرقة "غزل" للموسيقى البديلة في حفل "دوبان"، والّتي أثارت الحضور بموسيقاها وكلمات أغانيها القريبة من حياة النّاس وهمومهم، فتأتي تتويجًا لرؤيا مشتركةٍ التقت عليها الفرقتان، إذ تدمج كلٌّ منهما بين أنواعٍ مختلفةٍ من الموسيقى والرّقص، احتفاءً بالتّنوّع الإنسانيّ وإيصالًا لرسائلَ اجتماعيّةٍ، وتأكيدًا على أنّ الاختلاف المكانيّ بينهما - حيث تجد فرقة "غزل" نفسها في الشّارع بين الناس، فيما المسرح بشكله الكلاسيكيّ هو المكان الّذي تجد "دوبان" نفسها فيه - اختلافٌ لم يَحُلْ دون التّعاون بينهما، كما يقول المدير الفنّيّ "لدوبان"، حنّا طمس.

قدّمت فرقة "غزل" خمس مقطوعاتٍ حملت أسماء "الخريف"، و"علبةٌ من خشب"، و"مش مشتاق إلك"، و"تعبت"، و"على الطّريق".

في النّهاية بداية

في لوحةٍ فنّيّةٍ رمزها الشّمس، تشارك فيها راقصتان طفلتان ترمزان للأجيال القادمة إلى جانب أعضاء الفرقة، تختتم "دوبان" حفلها في رام الله بالإعلان عن عملها الفنّيّ القادم، والّذي سيحمل اسم "صلال"، عملٌ سيحتفي بالأمل والقوّة والمستقبل للأجيال القادمة.

بعدسة: رفيق سعادة

*صورة الخبر الرّئيسيّة بعدسة: رفيق سعادة