عن "من تلا"، تحديات الرّقص والشّمس التي لا زالت تُشرق

عدسة: حنان واكيم

"إحنا فرقة مسرح"، هكذا أجبنا أنا وسماء وأيمن وسمر على سؤال الضّابط الأردنيّ في معبر الشّيخ حسين بعد أن أطال النظر إلينا وتفتيش أمتعتنا ثم سألنا مستغربًا: "بماذا تعملون؟". لم يجرؤ أحد منّا على ذكر كلمة "الرّقص"، فنحن لا نعرف ماذا ستكون ردة فعله، بل كان بمقدوري أن أتخيّل وجه الضّابط السّاخر والمحتَقِر لو عرف أننا فرقة رقص، ولن يغيّر من تعابير وجهه لو أضفنا كلمة "معاصر" إلى الرّقص.

لا أعلم إن كنا قد ظلمنا الضّابط بإجابتنا هذه أم لا، لكننا عرفنا في أعماقنا بأن شريحة كبيرة من المجتمعات العربيّة لن يكون لكلمة "رقص" وقعًا إيجابيًا عليها، بل أنها تُرتبط مباشرة مع "الانحلال الخلقيّ والثّقافيّ". وهذه هي إحدى العقبات التي تعمل على تخطيها وإزالتها فرقة "من تلا" للرقص المعاصر من العالم العربيّ، وتقديم الرقص المعاصر إلى الجمهور العربيّ من خلال عروض قيّمة وورش عمل.

المسرح مقابل الرّقص
لم تكن هذه القصّة هي المرة الوحيدة التي اضطررت فيها إلى تعتيم الحقيقة، إذا صح التّعبير، ففي المنطقة الصّناعيّة بمخيّم البقعة، ذهبنا أنا والراقص المغربيّ محمد المقيسي وخورخي، مصمم الرّقص الإسبانيّ، وأحد مؤسسي فرقة "من تلا". كانت زيارتنا إلى المخيّم بعد أن وجدنا ما نبحث عنه لمدة أسبوع كامل في أرجاء عمّان: قضبان حديد وإسمنت وإطارات قديمة لبناء ديكور العمل. وكنا حريصين على أن نقول للبائع، بأن هذه المواد معدة لعرض مسرحيّ.

كانت متطلباتنا غريبة، ولذا شرحنا مرارًا وتكرارًا الهدف من المواد المطلوبة، وأذكر أن وجه خورخي كان يضيء في كل مرة استسرل فيها بالشرح عن ديكور العمل من كثرة حماسه. فالديكور الرّائع المكوّن من 25 إطارًا، مصبوب بداخلها إسمنت، كي تكون قاعدة يخرج منها قطبان الحديد التي ستصمم على شكل متاهة، وخلال العرض، سيقوم الرّاقصون والرّاقصات بالرقص بينها وطيّ بعضها، كي يصنعوا منها مكانًا مقدسًا وملجأ لهم.

وبعد أن حصلنا على المواد، وأثناء دفعي للحساب، لمح البائع رخصة القيادة، وقد كُتب عليها بالعبريّة، فاستهجن ونظر من حولي ومن ثم كلمني بشكلٍ مباشر لأول مرة، وقال: "هذه إسرائيليّة". وأنا كمن صفعني أحد، ورمى على رأسي دلو ماء بارد، فضحكت من التّوتر، وأجبته: "أنا إسرائيليّة؟!"، وأضفت، على غير عادتي: "استغفر الله"، علّه يقتنع. ثم نظرت إلى صورة الأقصى وراء مكتبه، فسألته: "من أيّ قرية مهجّرة أنت؟"، فأجاب: "من قضاء الرملة". فقلت له: "جدي مهجّر من قرية البصة". فنظر لي مطولًا، وتحدثنا قليلًا عن الاحتلال، فاطمأن وابتسم وأخذ نقوده.

التّواصل المُنتِج

هذه القصّة جعلتني أتساءل: كيف يمكن أن يكون لاجئًا فلسطينيًّا على غير دراية بواقع أبناء شعبه في الأراضي المحتلة عام 1948؟ وما هي معناتهم وكيف يعيشون؟ هل فعل بنا الانقطاع كلّ هذا؟ فإن كان بعض الفلسطينيّين على غير دراية ببعضهم الآخر، ماذا نقول عن باقي العالم العربيّ؟ وكلما تعمّقت بالموضوع أكثر، شعرت أن مشروع فنّيّ، مثل فرقة "من تلا" للرقص هي إجابة بسيطة في بحر من التّساؤلات، وأن ما نفعله ليس سهلًا، بل هو تحدي للحدود السّياسيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة التي نعيش بها.

ففي واقعنا العربيّ المتسم بالفوضى وعدم الوضوع والمشاهد القاسيّة، ليس مفهومًا ضمنًا أن نلتقي مجموعة من مختلف الدول العربيّة لمدة شهر في مكان واحد لإنتاج مشروع، خاصة في ظل الصّعوبات والعوائق العديدة، وعلى رأسها مسألة تأشيرات الدخول والتّضييق على حرية التّنقل والحركة. وهو هاجس رافق الرّاقصين والرّاقصات ومصممي/ ات الرّقص خلال مراحل مشروع "من تلا" في مصر والأردن، حيث أن "من تلا" نشأت بالأساس من رغبة بالتّواصل لدى الرّاقصين والرّاقصات والعمل ضمن الامتداد الجغرافيّ الطبيعيّ للمنطقة الذي شوهته سنوات طويلة من الاستعمار والحروب والنّزاعات.

الإنتاج الأوّل

لقد رافقت الفرقة خلال التّدريبات والمراجعات التي أقيم معظمها في مزرعة بعيدة قليلًا عن مركز عمّان. قمنا ببناء الدّيكور وإجراء التّدريبات والمراجعات بوتيرة شبه يوميّة، وقد كنت شاهدة على إصرار الراقصين والراقصات وثباتهم، حتى عندما يسوء الطّقس، فلا يأبهون بشمسٍ حارقة أو بردٍ قارس. ثم رأيتهم يعيدون الكرة؛ يتعبون ويتذمرون ولكنهم يستمرون بالرقص حتى ساعات مغيب الشّمس، عند الرابعة والنصف مساءً، والتي بغروبهاا تخلق أروع المشاهد والألوان. في تلك اللحظات، كنت أنظر إلى الرّاقصين والرّاقصات وأفكر في الطّريق الذي سلكناه سويةً، وأدندن في صدري قصيدة الشّاعر المصريّ الرّاحل أحمد فؤاد نجم، والتي لحنّها وغناها الشّيخ إمام عيسى:

إذا الشمس غرقت في بحر الغمام

ومدت على الدنــيا مــوجة ظــــلام

ومات البصر في العيـون والبصايــــر

وغاب الطريق في الخطوط والدواير

يا ساير يا دايــر يا أبــو المفهومــــية

ما فيش لك دليـل غير عيون الكلام

وما أن تحدثت عن هذا المشهد لكل من سمر حدّاد كينغ، مصممة رقص وشريكة مؤسّسة لفرقة "من تلا"، وخورخي كريسيس، صمتا لحظة وابتسما وقالا: "ها قد وجدنا اسم العمل الأوّل لمن تلا: إذا الشّمس!"

"إذا الشمس"، هو رحلة في الحاضر، حيث يشّق الرّاقصون والرّاقصات طريقهم من خلال الحركة والنفس محاولون إيجاد فسحة للتأمل. ويقدمون لوحات راقصة تستند على العلاقة بينهم وعلى المسار الذي مروا به في سعيهم للوصول إلى التوازن الجسديّ والعاطفيّ، وبالتالي إيجاد الجمال في التّفاصيل الصغيرة. ويقومون سويةً بخلق مكانٍ مقدسٍ فعليّ في الفضاء العام ومكان اَمن للتعبير الفنّيّ.   

هذه قصّة "من تلا" في عمّان، وما نتج عنه من "شمس" على مدار شهر كامل. كان هذا الشّهر بمثابة مساحة آمنة نرتاح فيها من الجنون الذي يحيطنا. قصص كثيرة عاشت قصّة كبيرة، وقصص كثيرة ستعيش وسيُحكى عنها حين تأتي وتنفذ المرحلة القادمة من المشروع، وتجول فرقة "من تلال" بعرضها "إذا الشّمس" في العالم العربيّ والعالم.

***

"من تلا" 

فرقة رقص معاصر، وُلدت من أحلام الرّاقصين في العالم العربيّ الذين يتوقون للعمل معًا في مساحة واحدة بلا حدود. تعمل "من تلا" على طرح والخوض في موضوعة الهجرة مع التّشديد على أنّ العالم العربي هو أيضًا مكان مزدهر بالمواهب وقادر على إنتاج فن وثقافة رائعين. منذ بداياتها، عملت "من تلا" مع فنانين من مصر، لبنان، المغرب، فلسطين،الاردن، سوريا والسودان. الاسم "من تلا" مأخوذ من إحدى اللهجات العاميّة في بلاد الشّام والتي تعني: من هنا إلى هناك.

 

*مديرة ثقافيّة ومنسّقة برامج  فرقة "من تلا"