للرّقص حياة؛ عن تجربة مركز الفنّ الشعبيّ

من تخريج مدرسة الرقص في مهرجان فلسطين الدوليّ (2016)

أثارت انتباهي على مدار سنتين متتاليتين، مشاركة خرّيجي مدرسة الرقص التابعة لمركز الفنّ الشعبيّ في مهرجان فلسطين الدوليّ. فرصة أعدّها ثمينة، كوني أرى أطفالًا وشبابًا غير محترفين أمام الجمهور، ربّما تكون هذه تجربتهم الأولى، وما يعنيه كلّ ذلك من رهبة وفخر وتعزيز للثقة بالنفس، وكذلك توفير للفرص وفتح لآفاق التعلّم والتجريب والمشاركة.

ضمّت أمسية تخريج المشاركين من مدرسة الرقص في مهرجان فلسطين الدوليّ هذا العام، مئة وأربعين راقصًا وراقصة صغارًا وكبارًا؛ وُلِدَت ثقتهم العالية بالنفس أمام ما يقارب الألفي شخص، من تدريبات صارمة على مدى عام كامل، لا على الرقص فقط، بل أيضًا على الالتزام والتعامل مع المساحة والجاهزيّة وروح المسؤوليّة، والتعامل معهم من منطلق أنّهم ينتمون لفرق ذات مستوًى فنّيّ عالٍ، الأمر الذي انعكس على حضورهم أمام الجمهور.

فُرص

لمشاركة خرّيجي مدرسة الرقص في مهرجان فلسطين الدوليّ أهمّيّة على أكثر من صعيد؛ فعلى مستوى الطلبة أنفسهم، تعدّ مشاركتهم فرصة ثمينة لعرض مجهوداتهم على مدار عام كامل، تُتوّج بحفل تخريج يكسرون فيه رهبتهم من الوقوف أمام الجمهور في مهرجان دوليّ، وفي هذا العرض تجتمع فرق فنّيّة مختلفة لاختيار أعضاء جدد لفرقها من بين المشاركين، فتُتاح لهم فرص الانخراط في فرق الدبكة والرقص المختلفة.

تدريب فرقة 'الحنّا' (2012)

أمّا على مستوى مدرسة الرقص ذاتها، فتكمن أهمّيّة عرض إنجازها في الحفاظ على الدبكة موروثًا شعبيًّا فولكلوريًّا من خلال نقله للأجيال الجديدة، منعًا لنسيانه وإهماله، وحمايته من السرقة، والترويج لمدرسة الرقص مساحةً مهمّةً تستقبل الكثير من الطلبة كلّ عام، الذين يتعلّمون ويجرّبون وتُفتح أمامهم أبواب نحو المستقبل في هذا المجال.

تأسيس وتمكين

لا يقتصر دور مدرسة الرقص على تعليم الدبكة والرقص في أروقتها، وذلك من عام 1991، لكنّها تنتقل للمناطق الأقلّ حظًّا لتأسيس فرق دبكة فيها، أو تمكين فرق دبكة موجودة أصلًا، كما أشار المدرّب والراقص شرف دارزيد، وهي تدعم فرق الدبكة التابعة للمؤسّسات والمراكز الفنّيّة في هذه المناطق عبر تطوير مهاراتها، سواء من خلال استهداف الأعضاء والمدرّبين والمدرّبات بسلسلة تدريبات متنوّعة، تشمل المادّة الفنّيّة، والاستثمار بالمواهب الفرديّة، والتعامل مع المجموعات، والإصابات، والأخطاء على المسرح، والوقوف على المسرح أمام الجمهور، إضافة إلى آليّات الاستمراريّة بعد تقوية الفرقة والانتقال لمرحلة الاعتماد على الذات. كما تعمل مدرسة الرقص على توفير زيّ شعبيّ وإكسسوارات بتصاميم خاصّة للفرق، وتنظيم الفعاليّات لهم وترشيحهم للمهرجانات، وغير ذلك من وسائل التمكين. وعلى سبيل المثال، كان نصيب القدس من ذلك تأسيس وتمكين 14 فرقة في مناطق مختلفة فيها.

كائن حيّ

ترى مدرسة الرقص في مركز الفنّ الشعبيّ، كما أوضح دارزيد، أنّ الدبكة كائن حيّ، شيء يعيش مع الإنسان ويتطوّر لتطوّره، وأنّ الوقوف بالدبكة عند شكلها التقليديّ والاقتصار عليه، هو شكل من أشكال الجمود والإعاقة لنموّ هذا الكائن وتطوّره. فعلى الدبكة أن تحمل قضايانا المعاصرة أيضًا وتقدّمها بقالب لا يلغي تراثنا، لكنّه لا يمنع عنه تأثّره بالسمات الحديثة.

من أحد عروض تخريج مدرسة الرقص في مهرجان فلسطين الدوليّ (2016)

يؤكّد دارزيد أنّ هدف مدرسة الرقص هو الحفاظ على الدبكة الشعبيّة الفلسطينيّة، لكن مع إبقائها متجدّدة ونابضة بالحياة، تُفتح فيها فسحة للراقصين ومصمّمي الرقصات، ليضعوا لمساتهم الخاصّة والمميّزة، فيصمّمون ويبتكرون حركات جديدة، وذلك كما في تجربته الشخصيّة، إذ أدخل الأفرو - دبكة نوعًا جديدًا من الرقص الذي يدمج بين الدبكة الفلسطينيّة والرقص الإفريقي.

يرافق تعليم الدبكة الشعبيّة الفلسطينيّة في مدرسة الرقص تعليم للباليه والسالسا والهيب هوب وغيرها من أنواع الرقص المعاصر، إضافة إلى الدمج بين أنواع رقص مختلفة، وهو ما رأينا بعضه في أمسية تخريج طلبة المدرسة في مهرجان فلسطين الدوليّ.

معهد

تطمح مدرسة الرقص أن تتحوّل إلى معهد يُمَنْهِجُ تعليم الرقص ويوفّر مدرّبين متخصّصين لديهم المساحة ليكونوا محترفين، ما يوفّر لهم فرص عمل في هذا المجال. وفي سبيل تحقيق ذلك، يعمل مركز الفنّ الشعبيّ حاليًّا، على إنجاز بحث شامل حول الدبكة، لينبثق منه منهج تعليميٍّ متخصّص للدارسين مدّة أربع سنوات، وقد يحصل خرّيجو هذا المعهد على منح استكمال لتعليمهم الرقص خارج فلسطين، ليعودوا أكثر احترافيّة وأقدر على التعامل مع الرقص بشكل مهنيّ وممنهج.

من التدريبات في المناطق الأقلّ حظًّا

وبين الموهبة والتخصّص والاحترافيّة العالية، جهود متكاملة تتطوّر وتُبدع لتنقل الدلعونا والسحجة والدحيّة والطيّارة وغيرها، لأجيال متلاحقة، يضع الاحتلال كلّ إمكانيّاته لسرقة موروثها، ويتكفّل الزمن، لولا هذه الجهود، بمراكمة غبار النسيان والتهميش عليها، لكن هناك من يصرّ على إبقائها نابضة بالحياة وينجح في ذلك.