كيف تساهم المغازلة في تطور الدبكة؟

 

تختلف وتتنوّع أشكال المغازلة في عالم الحيوان، بعضها يستخدم الألوان مثل الكثير من الطيور، وعلى رأسها ذَيل الطاووس الشهير، وبعضها يظهر كنزاع أو مبارزة مباشرة بين الذكور، مثل الأيائل وقُرونها الضخمة. إنّ الدافع البيولوجيّ للمغازلة من أجل التكاثر من الدوافع الغريزيّة الأقوى في عالم الأحياء، حتّى أنّه قد يكون أقوى من الجوع أو العطش... مثال غريب على ذلك أحد أنواع القوارض؛ يضحّي الفرد الذكر بنفسه من أجل عمليّة إخصاب أُنثاه. أمّا دمج هذا الدافع الغريزيّ العميق بالتنوّع الهائل لأشكال الحياة، فيُولّد أساليب مغازلة مركّبة وذكيّة للغاية، فمن أجل أن تستجيب أنثى أحد أنواع "طيور الجنّة" لمغازلة الذكر لها، عليه أن يصمّم رقصة مثيرة ومتقَنة؛ بها يوظّف جميع قدراته الحركيّة وألوانه البهيّة. وبعد مراقبة الأنثى لرقصة الذكر، تحكُم على جيناته بالنجاح أو بالفشل في استجابتها لمغازلته، أو الانتقال إلى مناداة ذكر آخر لها.

 

"عِرِسْ فِشْ فيه دَبْتشِه مُشْ عِرِس"

"يا طيرِ الدُّرَّج يا طيرِ الدُّرَّج – وحبيبي بِدْبِك وَانا بتفَرّج".

في ما يتعلّق بنا، نحن البشر، لا يزال علماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس التطوّريّون وغيرهم في بداية الطريق، ولمّا يجيبوا بعدُ على جميع الأسئلة المتعلّقة بأشكال المغازلة لدينا. مع ذلك، أريد لفت الانتباه إلى المشهد الآتي: تخيّلوا مجموعة من الذكور الخَصِبين؛ أي البالغين واليافعين، يرتدون أبهى الملابس والألوان الّتي تُظهرهم على درجة عالية من الوسامة، يجتمعون في رقصة واحدة مُتّسقة ومتّفق عليها، بينما جمهورهم مجموعة متنوّعة من إناث القرية. مشهد مثير للتساؤلات والفضول... لماذا يبذل الذكور كلّ هذا المجهود في رقصة الدبكة؟ لِمَ لا تشارك فيها الإناث أيضًا؟ لماذا لا نرى هذا المشهد في جميع أنحاء فلسطين؟ ماذا وراء ازدهار الدبكة في بعض المناطق، على حين تكاد تكون ذاكرة منسيّة من التراث القديم في مناطق أخرى؟

تخيّلوا مجموعة من الذكور الخَصِبين؛ أي البالغين واليافعين، يرتدون أبهى الملابس والألوان الّتي تُظهرهم على درجة عالية من الوسامة، يجتمعون في رقصة واحدة مُتّسقة ومتّفق عليها، بينما جمهورهم مجموعة متنوّعة من إناث القرية.

"عِرِسْ فِشْ فيه دَبْتشِه هو مِش عِرِسْ" - جملة سمعتها عشرات المرّات، وأتبنّاها مقولةً تعبّر عنّي أيضًا. أذكر من أيّام طفولتي، في ليالي الأفراح والأعراس في باقة الغربيّة، أنّ ذروة العرس كانت في فقرة الدبكة؛ الفقرة الّتي اشترك فيها كلّ مَنْ استطاع إليها سبيلًا، من الشباب والأجداد والأطفال، على دقّات الطبل وألحان الشبّابة والمجوِز واليرغول. وعلى الرغم من أنّ هذه الفقرة الراقصة اقتصرت على الذكور فقط، إلّا أنّه كان للإناث دور قد يبدو هامشيًّا للوهلة الأولى، إلّا أنّه في الواقع شديد الأهمّيّة.

 

شعور "طيور الجنّة"

لطالما كانت الإناث في الأعراس التقليديّة في باقة الغربيّة، والكثير من قرى فلسطين، لطالما كنّ جمهورًا وشاهدًا وحَكَمًا لتصرّفات الذكور وحركاتهم، لكنّي فقط في السنوات الأخيرة أعرت اهتمامًا لدور الإناث، بعد طرح السؤال عن اندثار الدبكة واختفائها تدريجيًّا في لكثير من البلدان العربيّة.

"ياما اسْتَنّينا الحبايِبْ ياما – وياما قَطَّعْنا وْراقْ الرُّزْنامَة".

لا أظنّ ثمّة مثيلًا للإحباط الّذي يصيب عاشقًا للدبكة، بعد انتهاء عرس بدون فقرة دبكة، بعدما انتظر هذا اليوم و"قَطَّعْ وْراقْ الرزنامَة"، آملًا أن يطلّ على مَنْ يُغازِل بأبهى الإطلالات. مُطأطئ الرأس يعود إلى بيته، مع شعور بالإخفاق، وضياع فرصة لأمر ما يجهله في أسفل اللاوعي. لربّما هو نفسه شعور ذكر طيور الجنّة، الّذي يبذل كلّ جهوده و"دمّ قلبه" في رقصة، لترفضه بعدها الأنثى. هذا الشعور بالإخفاق في إظهار أفضل ما تملك؛ من أجل إشباع الغريزة في الحوز على المنصب الاجتماعي والبُروز، وقد يرافق هذا الشعور الكثيرين حين يحضرون الأعراس في بعض المناطق الفلسطينيّة.

 

لماذا القرى الفلاحيّة؟

بعد رصد هذه المناطق في أراضي 48، الّتي تهمل الدبكة في طقوس الزواج، تبيّن أنّها تضمّ نوعين من التجمّعات السكّانيّة: الأوّل التجمّعات السكّانيّة الكبيرة القريبة من نمط الحياة المدنيّ، مثل الناصرة وحيفا وعكّا، والثاني بلدان النقب. لكن لماذا تزدهر الدبكة في مناطق القرى الفلّاحيّة في المثلّث والجليل، على حين تكاد تكون معدومة في المناطق الّتي ذُكِرت؟

بالتأكيد ثمّة عوامل كثيرة، تاريخيّة وثقافيّة وجغرافيّة وسياسيّة، تتداخل وتؤثّر في شكل طقوس الزواج والرقص التراثيّ. وبسبب استحالة الإحاطة بكلّ هذه العوامل بدون دراسة ميدانيّة واسعة؛ أريد لفت النظر إلى جانب واحد أثار فضولي بشدّة؛ وهو الجانب النفسيّ التطوّريّ المتأثّر بالسياق الثقافيّ.

يعالج علم النفس التطوّري الأسئلة الّتي تُطرح حول تصرّفات الكائنات الحيّة، انطلاقًا من أساسيّات بيولوجيّة تطوّريّة. وفي هذا النقاش عن أسباب ازدهار الدبكة أو اندثارها، وانطلاقًا من افتراض أنّ كلّ أنواع الرقص هدفه المغازلة، أواعيًا كان أم غير واعٍ؛ لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار المكانة والدور لكلٍّ من الإناث والذكور، في طقوس العرس، في كلٍّ من المناطق الّتي ذُكرت والمقارنة بينها.

في هذا العرس القرويّ التقليديّ، يمارس الذكور رقص الدبكة، في حين أنّهم يَعون أنّ الإناث يراقبنهم؛ ما يجعلهم يرغبون في البروز عن طريق تكتيكات متنوّعة، مثل الحركات المميّزة، أو الانضباط والانتظام، أو قيادة الصفّ والتلويح بالعصا أو بالـ "لوحة" أو بالسيف.

من السهل أن نبدأ بالمناطق الّتي ازدهرت فيها الدبكة تاريخيًّا، وهي القرية الفلسطينيّة. إنّ العرس التقليديّ في القرية الفلسطينيّة يحاكي تمامًا المشهد من العرس الباقويّ الّذي ذكرته سابقًا، وفيه تكون الإناث جالسات في مكان مخصّص لهنّ بعيدًا عن الذكور، لكن ليس بعيدًا بعدًا يمنع مشاهدتهم ومراقبة تصرّفاتهم وحركاتهم. في هذا العرس القرويّ التقليديّ، يمارس الذكور رقص الدبكة، في حين أنّهم يَعون أنّ الإناث يراقبنهم؛ ما يجعلهم يرغبون في البروز عن طريق تكتيكات متنوّعة، مثل الحركات المميّزة، أو الانضباط والانتظام، أو قيادة الصفّ والتلويح بالعصا أو بالـ "لوحة" أو بالسيف. كلّ هذه التكتيكات صعب للغاية، ويتطلّب الكثير من التدريب، والثقة بالنفس، والذكاء الاجتماعيّ والعاطفيّ، وقد تُظهر هذه التكتيكات الكثير من سمات المشاركين للعيون الّتي تراقب بإصغاء.

 

في النقب والمدن

"يا يُمّا شُفْتُه عَيَنابيعُهْ – غَزالْ صْغَيِّرْ بْأَوَّلْ رَبيعُهْ".

فعلًا، في سياق طقوس العرس في النقب "الحكي مش مثل الشوف". حين نأخذ بعين الاعتبار أنّ الأعراس في النقب مفصولة تمامًا؛ أي أنّ الذكور والإناث لا يرون بعضهم بعضًا أبدًا، يمكننا فهم انعدام وجود رقصات مغازلة مركّبة وصعبة مثل الدبكة في هذه الأعراس؛ فلا غاية ولا جدوى من الرقص بلا جمهور يتلقّى، ولا حاجة إلى بذل مجهود هائل، في تصميم حركات عديدة ذات منظومة قوانين صارمة وإتقانها.

ربّما هذا هو السبب في عدم شعبيّة الدبكة في النقب. ولكن، هذا التعقُّل يخلق مشكلة منطقيّة حين نتطرّق إلى طقوس الأعراس في المدن الفلسطينيّة. ففي مدن مثل الناصرة وحيفا وعكّا، تكون الأعراس مشترَكة للجنسين في أغلبها؛ الذكور والإناث يجلسون بجانب بعضهم بعضًا في حيّز العرس، ولا فصل بينهم، فإذا ارتكزنا على الفرضيّة الأوّليّة الّتي تدّعي أنّ الدبكة رقصة مغازلة يستخدمها الذكور - غالبًا - لاستمالة الإناث؛ فلماذا لا ينطبق هذا القانون أيضًا في الأعراس المشتركة في المدن؟

في الأعراس المدنيّة المشتركة، لا يقتصر الرقص على الذكور فقط، بل يضمّ الإناث أيضًا؛ ومن هنا يمكن ادّعاء أنّه لا حاجة إلى استعمال الدبكة للمغازلة من بعيد، بل بالإمكان المغازلة بقناة مباشرة عن طريق الرقص الزوجيّ

على الرغم من التناقض الظاهريّ هذا، حين نتعمّق في ديناميكيّة العرس المدنيّ المشترك، نجد عاملًا يميّز هذه الطقوس من طقوس الأعراس القرويّة، وهو مشاركة الإناث الفاعلة في الرقص والمغازلة. في الأعراس المدنيّة المشتركة، لا يقتصر الرقص على الذكور فقط، بل يضمّ الإناث أيضًا؛ ومن هنا يمكن ادّعاء أنّه لا حاجة إلى استعمال الدبكة للمغازلة من بعيد، بل بالإمكان المغازلة بقناة مباشرة عن طريق الرقص الزوجيّ، وعن طريق التوجّه المباشر من الذكر إلى الأنثى أو العكس.

 

المسافة

الدبكة أرضيّة خصبة لإرسال إشارات بروز وتميّز من مسافة بعيدة، مثل المسافة بين الذكور والإناث في العرس القرويّ التقليديّ، فيمكن مشاهدة سرب الدبكة ورصد قدرات المشاركين فيه عن بعد، مقارنةً بالرقصات الفرديّة العاديّة، الّتي تجعل هذه المقارنة بين الراقصين صعبة وغير دقيقة. وربّما تحديدًا بسبب اختفاء المسافة البعيدة بين الجنسين في الأعراس المدنيّة المختلطة، يجعل الحاجة إلى الالتزام بصفّ الدبكة أقلّ إلحاحًا؛ فجُلّ طاقة الراقصين العاطفيّة يذهب في التفاعل والمغازلة المباشِرة والقريبة.

 

بحث النفس

هل علينا - ولو كان كلّ ذلك صحيحًا فعلًا - من أجل الحفاظ على التراث والدبكة؛ هل علينا الالتزام بالعُرس القرويّ التقليديّ؟ لا أعتقد ذلك؛ فالثقافة والفلكلور يتغيّران ويتحرّكان أيضًا بإرادة الناس ووعيهم.

أعتقد أنّه بإمكاننا المحافظة على كنوز تراثنا الجميل؛ إذا فهمنا الأسباب الّتي أدّت إلى إضعافها أو تقويتها.

هذه المحاججة كانت بمنزلة محاولة لفهم العوامل المؤثّرة في الدبكة من زاويتي، بصفتي باحثًا مهتمًّا بالرقص التراثيّ، وبالأنثروبولوجيا وبالعلوم النفسيّة التطوّريّة أيضًا.

ثمّة أسئلة مهمّة عديدة تنتظر الدراسة والبحث والتفكير في هذا الحقل، وثمّة أسئلة لمّا تُطرح بعد. أؤمن بأنّ هذه الأسئلة والنقاشات الّتي تعالِج ماضينا وحاضرنا، قد تقرّبنا من تحديد مصيرنا ومستقبلنا.

 

 

جاد قعدان

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.