لَمّ شمل الساحل الفلسطينيّ

لوحة جنان عبده

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

التصفيقة هي تلاطم الموجة والموجة، تلك المرتدّة عن الشاطئ وتلك الهائجة المسرعة نحوه. هي تصفيقة قاتلة إن لم يدخل أحد، حتّى لو كان راقصًا، في الوادي الّذي تخلقه على وجه المياه. هكذا علّمني الصيّاد الحيفاويّ والبحّار حليم، وهو يجادل في ساعات انتظار القهر، وتدارك اليأس بأنّ الريح لها لعبتها مع الأمواج، واقترح أن تتّجه التفتيشات جنوبًا، وعدم الركون إلى فرضيّة الشرطة بأنّ البحر قد سار بأيمن من حيث أخذه نحو الشمال. في النهاية تبيّن أنّه كان محقًّا. ابن البحر يعرف أنّ الريح الشرقيّة تتوقّف عند النقطة الجنوبيّة القصوى من جبل الكرمل، حيث يستوي الجبل والسهل، والشرقيّة هي الأخطر في حالات الغرق؛ لأنّها تدفع نحو مساحات البحر الداخليّة.

لقد أجمع البحّارة والصيّادون على أنّ الفرق شاسع، بين أن تجيد السباحة وأن تجيد التعاطي مع البحر. السباحة من صُنع البشر ولعبتهم. نردّد دائمًا وبلغات العالم "مَنْ يركب البحر لا يخشى من الغرق"، وفي لحظة خاطفة يخطف البحر كلّ أقوال البشر وأجمل البشر؛ فالبحر هو البحر، وليس من صُنعهم.

لقد علّمتنا الحمامة المتمرّسة بالبحر، أنّ نقاء مياه البحر وارتفاع حرارتها سيجعلان الجثّة تطفو. قالت ذلك بلغة الثقة ولم تلعب بالأمل ولم تراهن على الأعجوبة. إنّها تعرف متاهات البحر، وهي أدرى بشعابه لأنّها ابنة جسر الزرقاء، القرية المتربّعة على أحد أجمل شواطئ فلسطين...

لقد أذهلت البحّارة حمامة الجميع، فحين شاهدنا قبل انتصاف النهار الرابع شيئًا يطفو بعيدًا على سطح البحر، ويتحرّك بحركة الأمواج، وفيما نحن نتأبّط النواظير ونقرّب الأبعاد، وجدنا حمامة تقلّص المسافات، وهي تسارع إلى السباحة لأكثر من كيلومتر واحد؛ فالمنظار يوهم بقرب الأشياء، والسباحة هي الّتي تقترب منها. انتظرنا من الحمامة أن تعود بعد الرحلة المنهكة، وفي فمها غصن زيتون من بشارة ما. وصلت الهدف وتبعتها طائرة صغيرة زنّانة لأحد الأصدقاء المصوّرين، وبدت الخيبة حين تبيّن أنّ الجسم العائم كيس بلاستيكيّ كبير وملوّن.

لم تكن خيبة بمعنى الكلمة، بل خيبة في مهبّ الصخب؛ فكلّما أوغلت حمامة في البحر تسارعت دقّات القلوب الخائرة والحائرة، وكأنّنا أمام تصفيقة موجتين من المشاعر؛ تلك المرتدّة عن شاطئ الأمل، وتلك الهائجة في اتّجاهه وعلى متنها الكثير من حمولات اليأس. وفي اصطدام الموجتين تفلت البشرى في الوادي الّذي تركتاه على وجه التوق.

لقد علّمتنا الحمامة المتمرّسة بالبحر، أنّ نقاء مياه البحر وارتفاع حرارتها سيجعلان الجثّة تطفو. قالت ذلك بلغة الثقة ولم تلعب بالأمل ولم تراهن على الأعجوبة. إنّها تعرف متاهات البحر، وهي أدرى بشعابه لأنّها ابنة جسر الزرقاء، القرية المتربّعة على أحد أجمل شواطئ فلسطين، الّتي أبقاها الغزاة كما زميلتها الفريديس على الساحل الواصل بين حيفا ويافا؛ وذلك لأنّهم طمعوا بأيادٍ عاملة رخيصة في مزارعهم. بينما اليوم وبعد سبعة عقود، وبعد أن أقاموا جدرانهم الفاصلة وتلالهم الاصطناعيّة كي تختفي ولا تخدش هدأة بالهم المستعمَر؛ فإنّهم يتمنّون لو أنّ البحر يبتلعها، وأن يلعب لعبتهم ويُلْحِقَها بجارتها الطنطورة لتنهش فيها المستعمَرات، ولينهبوا "هذا البحر لي..." كما نهبوا سجّادة جميلة من بيت، ومؤنة العائلة من آخر، والدواجن والمَعَز من كلّ بيت، ولتتشبّث الطنطورة بأرض الذاكرة المحرّرة، والجسر بجسر البقاء على الأرض، ليبقوا نواطير بحرنا.

لكنّ الحمامة كانت مشغولةً في الهدف الّذي جمع الصيّادين وبحّارة جسر الزرقاء، وعكّا والفريديس وحيفا ويافا ومجد الكروم، وكلّ مَنْ يجيد البحر، وجمع القلوب من كلّ أنحاء المكان. لم تُكثر من الكلام، ولم تكترث للخيال، بل كانت تعطي التوجيهات. فتّش البحّارة الصخور البحريّة والمغر المتشكّلة فيها، فتّشوا أرض البحر ومياهه وأمواجه، عرقلهم خفر السواحل الإسرائيليّ، واستفزّهم باستصدار المخالفات، لكنّ الهدف لم يكن مقاتلة الناطور بل الضغط عليه، حتّى لا يتقاعس في التفتيش عن أيمن، وأيمن هو الغاية وهو الموضوع.

لم يتوقّعوا حملة بهذه القوّة تحرّكها الطاقات الشابّة على الطوق، تنضح بالتفاني والوفاء، وبالشعور الإنسانيّ بالقلق والحزن والرغبة في إكرام مَنْ يستحقّ الإكرام. وحين تحرّكوا فذلك لأنّ بنات شعبنا وأبناءه حرّكوهم واتّهموهم، ولأنّهم لم ينتظروا نخوة من الشرطة...

كانت عيناها مصوّبتين نحو البحر الّذي أمامها، ونحو ذاكرة الأمواج ومهبّ الريح، من لحظة غرق أيمن حتّى ملاقاته، وأيّ ملاقاة وأيّ لقاء! أو كما صرخت الأحرف من كلمة واحدة خطّتها سَما على صفحة التواصل الاجتماعيّ: "لقيناك"! كلمة واحدة بِدويّ صرخة شعب حزين وآهات جيل الأمل. وكم كان لنداءاتها ونداءات كلّ الناطرات والناطرين رسالة وأثر حتّى "لقيناك"...

لم يترك أصدقاء أيمن وصديقاته الشاطئ، ربطوا الليل بالنهار بعد أن ضربوا أوتاد الوفاء في الأرض، وبنوا خيمة انتظار الغائب الحاضر، بل الّذي أصبح سيّد الحضور في المكان وفي كلّ مكان، وغدت قلوب الناس من مساحات المكان، ومن مغر البحر الهائج الّذي يؤجّل هدوءه.

اندفع الناس باتّجاه الاحتجاج على المماطلة والتقاعس؛ فالتفتيش عمّن يحمل اسم أيمن صفيّة ليس من أولويّات دولةٍ تعرف عنّا كلّ كبيرة وصغيرة، وتتابع كلّ سلوكنا، وقضاؤها يلاحق أفكارنا، وفي زمن الكورونا زادوا الطوارئ طوارئ، وضاعفوا صلاحيّات أجهزتهم ومنظوماتهم البشريّة والتكنولوجيّة، ثمّ قالوا بلغة البيانات إنّهم يقومون بدورهم على أتمّ وجه. يحضر شرطيّ ويؤكّد ذلك وهو يتحدّث بلغة البروتوكول، وما أقسى صدى المَحاضر والإجراء على المشاعر! وما أكبر نشاز لغة الضاد حين يتفوّه بها شرطيّ يبرّر التقاعس على أتمّ وجه.

لم يتوقّعوا حملة بهذه القوّة تحرّكها الطاقات الشابّة على الطوق، تنضح بالتفاني والوفاء، وبالشعور الإنسانيّ بالقلق والحزن والرغبة في إكرام مَنْ يستحقّ الإكرام. وحين تحرّكوا فذلك لأنّ بنات شعبنا وأبناءه حرّكوهم واتّهموهم، ولأنّهم لم ينتظروا نخوة من الشرطة، بل ركبوا سطح البحر وأعماقه. إنّ وتيرة أصحاب الحقّ لا ترهن تسارعها لرتابة نظام القوّة والقهر، ثمّ إنّ النخوة لن تأتي إلّا من الشعب.

اكتشفنا القيمة الإضافيّة لساحل بحرنا وبلداته؛ فقد لَمَّ أيمن شمل الساحل وجيران البحر، وأحيانًا حتّى المفهوم ضمنًا يكون بحاجة إلى إعادة اكتشاف، وكذا الأمر مع ما ندركه في أذهاننا ونراه في وعينا للمكان...

اكتشفنا القيمة الإضافيّة لساحل بحرنا وبلداته؛ فقد لَمَّ أيمن شمل الساحل وجيران البحر، وأحيانًا حتّى المفهوم ضمنًا يكون بحاجة إلى إعادة اكتشاف، وكذا الأمر مع ما ندركه في أذهاننا ونراه في وعينا للمكان، بما جرى له وما يحلم به؛ فللمكان حلم وذاكرة.

التقت القلوب على الشاطئ تفتّش عن إشارة. التقى صوت الرجاء وصوت العزيمة على ركوب الموج والغوص تحته، والسباحة في مياهه العكرة. هناك مَنْ رفعت يديها متضرّعة إلى ساكن السماء وسيّد السماوات، بأن يمنّ علينا بعطفه لا بامتحانات المستحيل؛ فلسنا بحاجة إلى تجربة عذاب جديدة، وربّما كانت تتضرّع إلى البحر بأن يعيد مَنْ أخذ، وإلى إلهة المحيط "تيامات" كي تخلق موجة نجاة لمَنْ ابتلعه بحرها.

سرعان ما عادت العيون الساجدة للسماء لتقف على الأرض، وتنظر إلى الماء، وإلى انكسارٍ لموجة أو انحناءة لها؛ علّها تحمل خبرًا، وما أقسى الضياع في الضياع!

حضرت مع استقامة الصباح، بعد أن سارت مسافات طويلة على الرمل، ومعها سلّة المناقيش الطازجة بالجبنة وبالزعتر وبعض الشراب، لتروي رمق حارسات الليل وحرّاسه بانتظار مفاجأة، إنّه العطش إلى الأمل حتّى لو كان أملًا ذاويًا، يحتاج إليه القلب ويستبعده الذهن.

كانت هواتف العشرات على الشاطئ مشغولة في الردّ على اتّصالات القلق، الآتية من كلّ مكان. حضر مصوّر الأعراس ومعه طيّارته الزنّانة، علّها تكون عينًا للعيون وعونًا لها، بعد أن أرهقها الانتظار الّذي لم تكترث له، وبعد أن اختلط أمامها لون البحر بلون السراب.

فجأة، انقلب سياق البحر وتناثرت المواقف منه. هناك مَنْ أراد الانتقام من البحر، وهناك مَنْ اعتبر أنّ البحر هو البحر، ولا لوم عليه بل اللوم على الصدف الّتي اجتمعت بكثافة في لحظة ومكان وهيجان لبحر هائل...

سارت العائلات الحيفاويّة في ساعات الليل المتأخّرة على شاطئ حيفا الجنوبيّ، وهذه المرّة لم تذهب من أجل الاستمتاع، بل ربّما فاجأتها عتمة الشاطئ. يمشون والعيون نحو عتمة البحر، وبانتظار أن يدلّها القمر على شبيهٍ له قد اختطفه البحر.

تغيّر شكل البحر في العيون الّتي تغنّت به من قبل؛ فبدت بسمته مخيفة، ومغيب الشمس حين تسقط في أبعد أطرافه أصبح يذكّر بأيمن، ومشرقها من فوق الكرمل غدا يذكّرنا بمرور يوم آخر على غيابه. فجأة، انقلب سياق البحر وتناثرت المواقف منه. هناك مَنْ أراد الانتقام من البحر، وهناك مَنْ اعتبر أنّ البحر هو البحر، ولا لوم عليه بل اللوم على الصدف الّتي اجتمعت بكثافة في لحظة ومكان وهيجان لبحر هائل، وكان لسان الحال أن لا لوم بل حسرة وحزنًا صافيين.

سكن بحر عتليت كلّما ابتعد أيمن عنه، وانتقلت المساحات إلى كفر ياسيف، ليجتمع في ساحة الأوّل من أيّار بحر من البشر، في انتظار حزين لسيّد الرقص. الكلّ في بحر الوداع والتكريم. اجتمعت الورود كلّها في استقباله ووداعه. تراقصت في فضاء الساحة وتطايرت، كما لو كانت من تلقاء ذاتها نحوه، وعلى وتيرة تكريم الوالدة بدور لابنها، ووداعها لفقيدها الباقي فيها.

ودّعت كفر ياسيف ابنها، وغدت ساحة الشعب، وودّع الناس أيضًا أيمن، واحتفت به بالطريقة الّتي تشبه أيمن، برقصة ووردة وشمعة ودمعة.

تقول الحكمة إنّ الصبر الحزين أقرب جارٍ إلى اليأس، لكنّ جموع الصبايا والشباب، هذا الجيل الصاعد، جيل أيمن صفيّة الّذي أثبت أنّه أكثر حكمةً من الحكمة؛ فقد كان جار اليأس حاضرًا، لكنّهم لم يرتضوا اليأس...

ثمّة لحظات تنبّهنا إلى جدوى إعادة الاعتبار إلى الإطراء، ولا بدّ من تأكيد التحيّة إلى "مجلس كفر ياسيف المحلّيّ"، الّذي أكّد أنّ فقدان أيمن ليس موتًا، بل صرخة حياة لمجتمع متنوّر يزدان بتعدّديّاته الجمعيّة والفرديّة، فالتقى المجلس المحلّيّ، وأهل الفقيد، وأهل البلدة وأهل البلاد، بجيل يعشق الحرّيّة وحياتها، وقد تجاوزوا تصفيقة أمواج الكبت، ولن يغرقوا.

تقول الحكمة إنّ الصبر الحزين أقرب جارٍ إلى اليأس، لكنّ جموع الصبايا والشباب، هذا الجيل الصاعد، جيل أيمن صفيّة الّذي أثبت أنّه أكثر حكمةً من الحكمة؛ فقد كان جار اليأس حاضرًا، لكنّهم لم يرتضوا اليأس. كانوا أقرب إلى حكمة أخرى شكسبيريّة، بأنّ الحزن الصامت يهمس في القلب حتّى يحطّمه؛ ولذلك لم يصمتوا بل رقصوا وصفّقوا وحيّوا ولعبوا لعبة الورد. لقد انبثق من الحزن مشهد فيه من جماليّات المشهد وللحزن جمال، إنّه من جماليّات جيل يبكي ويحمل فقدانه، ويواصل مسيرته بروح مَنْ فقدوا.

هذا البحر لي...

 

 

أمير مخّول

 

 

أسير سياسيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله في السجون الإسرائيليّة مديرًا لـ "اتّجاه - اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948.