الرقص في ذاكرة الجسد العربيّ

"الرقصة" | Giulio Rosati

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في بلاط المكتفي

قال أحمد التيفاشي: "قرأت في كتاب زهر الآداب وثمر الألباب لعلي بن عبد الرحمن الحصريّ القيروانيّ ما هذا نصّه، قال محمّد الصوليّ: كنّا بين يَدَي المكتفي وهو يشرب، فرقص بين يديه غلام مليح صغير السنّ، في أذنه قُرط، وكان معجَبًا به لملاحته وصوابه في رقصه، فقال المكتفي: هل تعرفون للعرب شعرًا في صفة الرقص؟ فقلت: نعم، فهذا الصقعب النهديّ يقول:

عَجِبْـتُ مِنْ رِجْلَيْـنِ يَتْبَعانـِهِ

يَعْلـوهُمـا طَـوْرًا وَتَعْلُـوانِـهِ  

كَـأَنَّ أَفْعَيَيْـنِ تَلْسَـعانِـهِ

 

وعلى النهديّ، استدرك التيفاشي قوله في راقص:

يَمَسُّ الأَرْضَ مِنْ قَدَمَيْـهِ  وَهْـمٌ

كَرَجْعِ الطـرْفِ يَأْبـى أَنْ يبينـا

تَرى الْحَرَكـاتِ مِنْهُ فَلا سُكـونٌ

فَتَحْسَـبُها لِخِفَّتِها سُكـونـا[1]

 

تعبّد بالرقص

ليس يسيرًا التأريخ لتاريخ الرقص فنًّا، فمنذ أن دبّ الإنسان على وجه البسيطة، كان جسده أوّل تقنيّة لديه قربًا من الطبيعة، حسب تعبير مارسيل موس[2]؛ ولأنّ الفنّ جاور السحر والدين وطقوس التعبّد منذ الأزل – على خلاف ما يظنّ متزمّتو أيّامنا - فمنذ زمن الفراعنة في مصر والسومريّين في ما بين النهرين، إلى الآراميّين والكنعانيّين في سوريا، كان الرقص سلوكًا ملازمًا لطقوس التضرّع والعبادة وتقديم القرابين.

في حكاية شعبيّة عن الكنعانيّين واليرغول المصنوع من القصب، الّذي ارتبط رقصهم بألحانه، يُروى أنّ اليرغول قد حمله نافخو فرق المحاربين الكنعانيّين، الّذين نفذوا من مصر إلى بلادنا في ذلك الزمن. كان اليرغول يدبّ الحميّة في صفوف المحاربين، فتهيج قلوبهم به طربًا وأجسادهم رقصًا وحماسة للحرب، ويُذكر أنّ الكنعانيّين كانوا يرقصون على ألحانه، في طقس دعك الطين من أجل صناعة عملة الفلس الكنعانيّ؛ ومن هنا يُقال إنّهم أطلقوا على البلاد اسم "فلسطين"[3].

يُروى أنّ اليرغول قد حمله نافخو فرق المحاربين الكنعانيّين، الّذين نفذوا من مصر إلى بلادنا في ذلك الزمن. كان اليرغول يدبّ الحميّة في صفوف المحاربين، فتهيج قلوبهم به طربًا وأجسادهم رقصًا وحماسة للحرب

في الجزيرة العربيّة، كان طقس الحجّ والحجيج قائمًا لدى القبائل العربيّة فيها منذ ما قبل الإسلام، فلقبائل قريش وبطونها تراث عريق ارتبط بطقوس زيارة الأعراب الموسميّة إلى مكّة. لمفردة الحجّ قبل الإسلام دلالة تختلف عن مفهومها مع ظهور الإسلام؛ إذ اشتُقّت كلمة "حجَّ" من "حَجَجَ" أي احتفل ورقص، وكانت تحيل في حينه إلى التجمّع والاحتفال في طقس تطهير الذنوب، وتقديم القرابين لآلهة مكّة، و"حَجَجَ" في اللغات الساميّة القديمة تعني الاحتفال، وما زالت في العبريّة كلمة "حَجاج - חגג" تعني احتفل واحتفى[4].  

 

يُمارَس ويُجابَه

 أمّا في سياق الحضارة العربيّة الإسلاميّة فقد مورس الرقص وجوبِه معًا؛ فبلاط خلفاء بني العبّاس والأمويّين من قبلهم، مرورًا بباحات ملوك أشبيلية وقرطبة ودواوينهم، وصولًا إلى مساطب دواوين السلاطين العثمانيّين، ظلّت خصور الراقصات والراقصين تموج فيها على وقع رنين المعازف والدفوف والطبول وطنينها.

ومن القصر نزولًا إلى الأسواق والميادين وعند عتبات التكايا، رقص الناس في الأعياد، ومواكب طقوس المواسم والأعراس، تعبيرًا جسديًّا وجد بعضهم فيه وجدًا إنسانيًّا وازدهارًا حضاريًّا، في ما ردّ بعضهم الآخر الرقص إلى تردّي حال المجتمع ووهنه[5].

جوبِه الرقص على مرّ التاريخ العربيّ؛ لأسباب تنوّعت بين بيئة وأخرى، غير أنّ ملاحظتين جديرتين بالذكر: الأولى أنّ رفض الرقص وزجره لم يكن لأسباب دينيّة بالضرورة؛ فقد جوبِه اجتماعيًّا لأغراض عُرفيّة متعلّقة بهيبة جسد المرء ووقاره وضرورة ضبطه، والثانية: انطبق رفض الرقص على الرجال أكثر ممّا انطبق على النساء؛ وذلك في نزعة ذكوريّة عابت على الذكر الرقص، لأنّه سلوك يصحّ "للنساء في خلواتهنّ"، وما زالت هذه النزعة قائمة إلى يومنا.

 

قواعد وآداب الراقصين

على الرغم من ذلك، كان رقص الرجل معتبَرًا، تُلزمه قواعد وآداب، وهذا أحمد بن يوسف القفصيّ (580 – 651 هـ/ 1184 – 1253 م) يقول في مؤلّفه "متعة الأسماع في علم السماع": "أوّل ما يحتاج إليه الراقص الدخول في الإيقاع، ثمّ لين الأعطاف، والرشاقة وحسن الشمائل، وتسمير[6] الثياب، وسكون الجأش، واعتدال القامة، وقوّة القلب، وسجا الطرف، وخفّة الجسم، وحلاوة المنطق، ووقار الطبع، والمعرفة بالألحان والطرائق ومليح الغناء والضرب، وأن يكون شديد التحفّظ من الخروج[7]، متّئدًا في رقصه، وأن يجتمع له مع وثاقة الرجلين حُسن المنكبين، وخفّة وقع القدمين، ولطف وضعهما ورفعهما، وحُسن الاستدارة، وتكسير ثيابه عند دورانه، وثبات القدمين على مدارهما، وتساوي ما يعمل بيمناها ويسراها، وليعتمد بوضعهما ورفعهما بموافقة الإيقاع عند المقاطع"[8].

في مقامات الحريريّ، جاء أنّ للراقص ما يحتاج إليه في طباعه، وأشياء في خلقته، وأخرى في عمله. أمّا في طباعه فيحتاج إلى خفّة الروح، وحسن الطبع على الإيقاع، وأن يكون مرحًا إلى التدبير في رقصه والتصرّف فيه. وعمّا يحتاج إليه في خلقته فطول العنق والسوالف، وحسن الدلّ والشمائل...

في مقامات الحريريّ، جاء أنّ للراقص ما يحتاج إليه في طباعه، وأشياء في خلقته، وأخرى في عمله. أمّا في طباعه فيحتاج إلى خفّة الروح، وحسن الطبع على الإيقاع، وأن يكون مرحًا إلى التدبير في رقصه والتصرّف فيه. وعمّا يحتاج إليه في خلقته فطول العنق والسوالف، وحسن الدلّ والشمائل، والتمايل في الأعطاف، ورقّة الخصر والخفّة وحسن أقسام الخلق، ومخارج النفس والإراحة، ولطافة الأقدام، ولين الأصابع وإمكان ليّتها من نقلها. وفي عمله، فكثرة التصرّف في ألوان الرقص، وإحكام كلّ حدوده، وحسن الاستدارة، وإثبات القدمين على مدارها، وإسواء ما تعمل يمين الرجل ويسراها حتّى يكون في ذلك واحدًا[9]. وهذا ما عناه ابن خلدون في مقدّمته بالقول: إنّ كلّ رقص يتطلّب الدربة والدراية[10]، ويعني في ذلك الممارسة والمعرفة فيها؛ وهو ما يؤكّد أنّ الرقص ليس مجرّد تحريك للجسد، إنّما هو إتقان واحتراف في ذهن الراقص قبل جسده.

 

أنماط الرقص في التراث العربيّ الإسلاميّ

تنوّعت أشكال الرقص وأنماطه في التراث العربيّ الإسلاميّ، إلى حدّ يصعب فيه الإحاطة بها في مقال، لتعدّد الشعوب وتنوّع الثقافات الّتي انضوت تحت مظلّة الحضارة العربيّة الإسلاميّة، في أزمنة وأمكنة مختلفة، غير أنّ في مراحل متأخّرة من تاريخ العرب الحديث، يمكننا الانتباه إلى أنماط مختلفة من الرقص، سنكتفي بالإشارة إلى ثلاثة منها، وهي: الرقص الفلكلوريّ المحلّيّ، والرقص الشرقيّ، والرقص الصوفيّ.

 

الرقص الفلكلوريّ – الدبكة

يظلّ الرقص الفلكلوريّ محلّيًّا يختلف بين بيئة وأخرى من حياة أيّ أمّة أو شعب؛ فالرقص في مدن الشام غير ذلك الرقص المتعارف عليه في ريفها. ويتمايز سكّان الجبال في رقصهم عن سكّان الساحل، وعن كليهما يختلف رقص أهل البوادي الصحراويّة. من هنا؛ فالرقص الفلكلوريّ يُمارَس جماعيًّا في طقوس محلّيّة، يعاد من خلاله إنتاج هويّة الجماعة المحلّيّة، وعلاقتها بالمكان والزمان، ومثال على ذلك الدبكة.

لم تأتِ كتب التراث الإسلاميّ على ذكر رقص الدبكة؛ وهذا يعني أنّها رقصة حديثة في تاريخ الجسد العربيّ[11]. الدبكة ريفيّة الطابع، ترتبط بالأرض من وجهين، الأوّل: لأنّها رقصٌ إيقاعه يرتبط بخبط الأقدام على الأرض، والثاني: لأنّ الدبكة منبثقة عن علاقة الفلّاح بأرضه، الّتي لطالما ثابر على اختبار علاقته بها بصفتها علاقة حسّيّة انتفاعيّة. والدبكة تجسيد لإيقاع الجسد الفلّاحي، الّذي هو إيقاع الزمن الدائريّ للحياة الزراعيّة[12].

تُفصح الدبكة الشعبيّة عن سياسات الهويّة الجنسيّة، وأنماط الهيمنة الجسديّة في المجتمع؛ ففي أعراس أهل الجليل دبكة يختلط في ممارستها الرجال والنساء معًا، وتُسمّى دبكة "حبل مودّع"، غير أنّ "الشعراويّة" دبكة كان يمارسها الرجال فقط؛ بسبب قوّة انبعاث الجسد فيها من قفز وضرب في الأرض...

غير أنّ للدبكة رقصات وأسماء مختلفة؛ فـ "التشوبي" دبكة ريفيّة عراقيّة، ويدبك أهل جبل لبنان وبقاعه دبكة "العرجا"، ونحن في فلسطين عُرفنا بدبكتنا "الشمّاليّة"، وهذا ما نعنيه بمحلّيّة رقصة الدبكة؛ ففي فلسطين الدبكة "الشمّاليّة" شماليّة وجبليّة المنشأ، بينما يدبك أهل النقب جنوبًا رقصة "الدحيّة".

تُفصح الدبكة الشعبيّة عن سياسات الهويّة الجنسيّة، وأنماط الهيمنة الجسديّة في المجتمع؛ ففي أعراس أهل الجليل دبكة يختلط في ممارستها الرجال والنساء معًا، وتُسمّى دبكة "حبل مودّع"، غير أنّ "الشعراويّة" دبكة كان يمارسها الرجال فقط؛ بسبب قوّة انبعاث الجسد فيها من قفز وضرب في الأرض، ينبّهان إلى قوّة جسد الرجل وهيمنته.

في المقابل، تُعَدّ "القرّاديّة/ الكرّاديّة" دبكة نسائيّة في العرس؛ لأنّها تعتمد الخطو لا القفز، خطوتين إلى الأمام وخبطة في الأرض ثمّ خطوتين إلى الوراء، وهكذا في طقس جماعيّ تجعل فيه القرّاديّة جسد المرأة أكثر ضبطًا وحشمة، على إيقاع أغانٍ نسائيّة المضمون.

 

الرقص الشرقيّ

من أجواء الابتهاج في الأعراس والحفلات العائليّة، مرورًا بمظاهر الترفيه في الملاهي وأماكن المتعة، صعودًا إلى ملامح الذوق على المسارح وصالات العرض، كان الرقص الشرقيّ وما زال الأكثر إفصاحًا عن لغة الجسد العربيّ والشرقيّ عمومًا، في الاتّصال والتماس بين الفرد والجماعة.

ليس الرقص الشرقيّ الوحيد الّذي مارسه ويمارسه العرب، إلّا أنّه احتلّ موقعًا شاسعًا في خصور شرائح مختلفة من مجتمعات الحضارة العربيّة الإسلاميّة وناظريها، وهو الرقص الّذي من خلاله اقتُرح الجسد الشرقيّ على المتفرّج الأوروبّيّ، وخلب التصوّر الجماعيّ للغربيّين، ومن هنا سُمّي بـ "الشرقيّ" ملمحًا من ملامح ثقافة الجسد الشرقيّ في الأرض.

يعود الرقص الشرقيّ في نسخته العربيّة إلى العصر العبّاسيّ؛ العصر الّذي تشكّلت في مداره مجالس الآداب، ونقل المعارف، ومختلف فنون الموسيقى والغناء والرقص، فضلًا على صنائع فنّ المعمار والزخارف والرسم. في بلاط أروقة الخلفاء وأرستقراطيّة بغداد ماجت أجساد الجواري والقيان، في مجون حدّث عنه الإخباريّون وكتب عنه المستشرقون.

في ظلّ الدولة العثمانيّة، اتّسعت دائرة ممارسة الرقص الشرقيّ؛ ففضلًا على ممارسته في الخانات والحمّامات وبيوت الباشوات، بدأ يتّخذ طابعًا شعبيًّا في المقاهي والحفلات والأعراس. وفي إسطنبول، في القرن الثامن عشر، تعمّم الرقص الشرقيّ، ومارسه الرجال كصنعة فيها أكثر ممّا مارسته النساء...

تسلّل الرقص الشرقيّ تاريخيًّا إلى كلّ موقع يمكن الموسيقى أن ترنّ فيه، بدءًا من القصور ودواوين النخب، إلى حانات الخمر وخانات الترفيه، وحتّى إلى الحمّامات العامّة الّتي عجّت بها مدن المشرق الإسلاميّ؛ فجعلت هذه الأماكن الرقص الشرقيّ يظهر على صورته الاستهلاكيّة، لأنّ انغلاقه على إظهار جسد الأنثى في فضاء اللهو والترفيه، كان أحد أسباب دمغ الرقص الشرقيّ بدمغة البذخ واللهو والاستهلاك[13].

في ظلّ الدولة العثمانيّة، اتّسعت دائرة ممارسة الرقص الشرقيّ؛ ففضلًا على ممارسته في الخانات والحمّامات وبيوت الباشوات، بدأ يتّخذ طابعًا شعبيًّا في المقاهي والحفلات والأعراس. وفي إسطنبول، في القرن الثامن عشر، تعمّم الرقص الشرقيّ، ومارسه الرجال كصنعة فيها أكثر ممّا مارسته النساء، وقيل عن الرجال برقصهم الّذي كان مبعث إثارة، بأنّهم "ليّنوا العريكة وقليلو الحشمة"ـ ولكثرتهم وقتئذٍ، يُقال إنّ السلطان محمّد اضطرّ سنة 1837 إلى إصدار قانون بمنع رقصهم وإبعادهم عن إسطنبول؛ لأنّهم صاروا مبعث مجون وفوضًى، وهو ما دفع بالراقصين إلى الرحيل إلى القاهرة[14].

 

رقص الطقس الصوفيّ

التصوّف الإسلاميّ نمط تمايز عن باقي أنماط التديّن، بانفتاحه على الموسيقى والرقص والغناء. وللموسيقى في التصوّف معجم مستقلّ وخاصّ بالمتصوّفة؛ فسمّوا الغناء "ذِكْرًا" من مدائح وتواشيح، واعتبروا الرقص "جَذْبًا"، ينجذب المتصوّف العاشق فيه إلى حبّ الله روحًا ثمّ جسدًا؛ ليكون الغناء والرقص ضمن عناصر تشكيل طقوسه الروحيّة، وقد اختلفت هذه الطقوس بين طريقة صوفيّة وأخرى.

يسمّي المتصوّفة فعل حبّ الله بـ "ذِكْرُ الْجَلْوَة"، وهو ما يعني ممارسة التقرّب إلى الله جماعيًّا بالصوت والحركة البدنيّة؛ فالمدائح الغنائيّة والحركات والإيماءات البدنيّة كلّها، تُلْحَق بذكر الله إلى حدّ الاستغراق في جمال الله وكماله، وهذا ما يُعْرَف بـ"الْوَجْد" أو "التجَلّي".

عن حركة الجسد في التصوّف ورقصه، يقول الشيخ عبد القادر الجيلانيّ في كتابه "سرّ الأسرار ومظهر الأنوار"، بأنّ الحركات الجسمانيّة نوعان: جسمانيّة باطلة، يدعوها بالحركات "الاختياريّة"، وجسديّة صالحة، يدعوها بـالحركات "الاضطراريّة"[15]. والاختياريّة غير مشروعة لديه؛ لأنّها تأتي من حضور النفس وقوّة الجسم، بينما الاضطراريّة تحصل لأسباب أخرى، مثل قوّة الروح وقوّة الجذبة بفعل ذكرٍ لله ونبيّه، يهيج به العاشق المتصوّف روحًا وجسدًا.

تُعَدّ رقصة "المولَوِيَّة" من أشهر رقصات المتصوّفة، وأكثرها تعبيرًا عن مفهومَي "الْوَجْد" و"الْجَذْب"، وتعود هذه الرقصة في أصولها إلى الطريقة المولويّة الّتي أسّسها جلال الدين الروميّ. والمولويّ رقص يعتمد على بعض الحركات والوضعيّات الرمزيّة، وأهمّها الحركات الدائريّة المزدوجة في الفضاء الّذي يسمّى "الميدان"...

تُعَدّ رقصة "المولَوِيَّة" من أشهر رقصات المتصوّفة، وأكثرها تعبيرًا عن مفهومَي "الْوَجْد" و"الْجَذْب"، وتعود هذه الرقصة في أصولها إلى الطريقة المولويّة الّتي أسّسها جلال الدين الروميّ. والمولويّ رقص يعتمد على بعض الحركات والوضعيّات الرمزيّة، وأهمّها الحركات الدائريّة المزدوجة في الفضاء الّذي يسمّى "الميدان": الدوران الأوّل حول النفس في عين الموقع، ودوران آخر انتقاليّ مع الآخرين في دائرة الميدان[16].

لرقص المولويّ رداء خاصّ متعارف عليه، قطعة أساسيّة تنزل من الكتف حتّى القدمين، عريضة في أسفلها، تسمّى بـ "التنّورة"، وتُشَدّ بحزام أسود في الوسط، وقطعة أخرى أشبه بالقميص المفتوح بكمّين طويلين، وتحت التنّورة بنطال طويل. الرداء الأبيض بأكمله يرمز إلى الكفن الّذي يرتديه المريد للقاء ربّه، وهناك غطاء الرأس، مصنوع من مادّة اللبّاد على شكل مخروطيّ يُدعى بـ "السكّة"، وهو يرمز إلى الحجرة الّتي على القبر، توضع على القبر عند رأس الميّت.             

لم يحدث أن أعلن جسد الإنسان نفسَه، مثلما أعلن راقصًا، فوحده الرقص مَنْ جعل أجسادنا تنطق بحسّيّتها نحو الكون والكينونة فيه. والرقص سواء كان إيماء أو حركة، فكلاهما يضيء التاوي والثاوي في أعماق المرء منّا وصميمه. والإيماء في الرقص، كحركة هزّ الرأس ورفع الحاجبين مثلًا، يعني صحّة إمكانيّة الرقص ارتجالًا، تعبيرًا عن مزاج اجتماعيّ. أمّا الحركة بما تعنيه من حضور لسائر البدن، فهي ما جعل من الرقص احترافًا ليكون فنًّا.

..........

إحالات:

[1] أحمد بين يوسف القفصيّ، متعة الأسماع في علم السماع، تحقيق رشيد كيلاني (قرطاج: المجمع التونسيّ للعلوم والآداب والفنون، 2019)، ص 282.

[2] راجع مارسيل موس، تقنيّات الجسد، ترجمة محمّد الحاجّ سالم (بيروت: دار الكتاب الجديد المتّحدة، 2019)، ص 17.

[3] وردت هذه الحكاية على لسان الحاجّ الشاعر محمّد صالح، في مقابلة شفويّة ضمن برنامج "التاريخ الشفويّ لنكبة فلسطين"، أجرى المقابلة عبد المجيد ياسين دنديس، في تاريخ 18/6/2004.

[4] علي الشوك، جولة في أقاليم اللغة والأسطورة (بيروت: منشورات المدى، 1994)، ص 22. 

[5] راجع قاسم بياتلي، ذاكرة الجسد في التراث الشرقيّ الإسلاميّ (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة، 2007)، ص 82-85.

[6] التسمير لغة في التشمير، وشمّر الأزرار والثوب تشميرًا؛ أي رفعه.

[7] الخروج عن الإيقاع، وكان يُعَدّ من أكبر عيوب الغناء والرقص.

[8] القفصيّ، مرجع سابق، ص 273.

[9] أبو محمّد الحريريّ، مقامات الحريري (بيروت: دار الصيّاد، 1980)، ص 107.

[10] عبد الرحمن ابن خلدون، المقدّمة (بيروت: دار العودة)، 339.

[11] بياتلي، مرجع سابق، ص 33.

[12] راجع فوّاز طرابلسي، إن كان بدّك تعشق – كتابات في الثقافة الشعبيّة، ط2 (ميلانو: المتوسّط، 2018)، ص 71.

[13] بياتلي، مرجع سابق، ص 95.

[14] روبرت مانتران، الحياة اليوميّة في إسطنبول في زمن السلطان سليم الكبير (ميلانو، 1985)، ص 333.

[15] عبد القادر الجيلاني، سرّ الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج إليه الأبرار (دمشق: دار السنابل، 1993)، ص 119.

[16] حول ذلك مفصّلًا، راجع بياتلي، مرجع سابق، ص 65 – 68.

 

 

علي حبيب الله

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة. حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من الجامعة الأردنيّة، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بير زيت. يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس، ويكتب المقالة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.