الرّقصة الّتي استحقّت العناء

الرّّاقص السّوريّ الرّاحل، حسن رابح

تلك اللّحظة الّتي تعقب سلامنا على بعض دومًا، الّتي نرتجل بها غمرةً قويّة إضافيّة لنؤكّد بها معزّتنا لبعضنا ودعم بعضنا في وجه المطحنة الّتي تحيل عظامنا إلى رماد. تلك الشّدّة الّتي تقول لي فيها الكثير الكثير، وأردّ عليك فيها بالكثير الّذي يعوّض عن أسابيع تمرّ دون أن نلتقي.

أشاهد لحظة من فيديو وثّق بالصّدفة آخر لقاء لنا، لم تفارق وجهك يومها تلك النّظرة المخنوقة الّتي تقول بها للعالم كلّه: 'أنا أحترق، كيف لا تشعرون بكّل هذه النّار؟!' في هذه اللّحظة بالذّات وجّهتها إلى عينيّ، بل إلى قلبي، ولم يكن منّي إلّا أن ألعب دور الغبيّ و أتجاهلها وأعدّها تعبيرًا عاديًّا عن خنقتك. كلّنا مخنوقون في بيروت.

نتعاطى الكوكب

يبدأ الحديث معه بكلماته المحبّبة: 'سلام يابا، مشتقلك يا خال، عايش انتَ؟' لينتهي بأفكاره الكثيفة الفوضويّة الّتي كنّا نبتسم لسماعها بادئ الأمر لشدّة غرابتها، فالأرض عنده سفينة تبحر دون توقّف في محيط جائع مليء بالأسماك الضّخمة المتوحّشة الّتي تنتظر سقوط أيّ أحد لتنهش لحمه، أيّ أحد دون التّمييز بين لحم قاس وطريّ. تعاطي الممنوعات عنده نكتة رتيبة، فنحن 'نتعاطى الكوكب' لمجرّد وجودنا في عالم فيه سماء وغيوم وجبال وحروب وفقر وسرقة وتشبيح وفراشات ومجازر وحبّ وكيماويّ ولجوء وشرطة وسرير وأمن دولة... لمجرّد وجودنا في هذا الكوكب نتعاطى كلّ ذلك، ويذهب عقلنا وجسدنا نحو الإدمان والهلاك.

أذكر في أوّل مرّة اقتحمتَ فيها المسرح الّذي نغنّي عليه راقصًا، استغربنا، انزعجنا بادئ الأمر، ثمّ انتبهنا أنّك تقول كلّ الكلمات معنا كلمة كلمة، وتعطي لكلّ كلمة الحركة الّتي تليق بها، وتعبّر عنها من صميم روحك. وتوالت الحفلات حتّى صرتَ جزءًا منّا ومنها، دائمًا لك مساحتُكَ الخاصّة الّتي تتحرّك بها منفردًا كالملاك، لكن في الحفلة الأخيرة كان الملاك مخنوقًا، مهدودًا، يتحرّك من عزّيّة الرّوح، وفي عينيه ألف صرخة ونداء، كلّنا رأينا ذلك، كلّنا عرفنا ذلك وتجاهلناه، لأنّنا حقراء ربّما، أو ربّما لأنّ كلًّا منّا مهدود ومخنوق على طريقته، ولا حيل عنده لدعم الآخرين وإعطائهم أملًا جديدًا كاذبًا يزيد من خيباتهم القاتلة في مدينة كهذه.

حمانا كلّنا

كلّ من شارك بالحراك ومواجهاته في بيروت يعرف حسن، الشّهم الّذي يخلع قميصه ليلفّ به وجه متظاهر لا يعرفه، الشّهم الّذي يرمي نفسه بوجه هراوات الشّرطة وحجارتهم ليحمي فتاة لا يعرفها، الشّهم الّذي يملأ حقيبته بالبصل ليوزّعه على ناس يحبّهم دون أن يعرف أيًّا منهم، لحماية عيونهم من آثار قنابل الغاز ومسيل الدّموع. الشّهم الّذي يرقص على أنغام شعارات تستفزّ الدّرك فتستفزّهم رقصته أكثر بكثير، وتترك ضحكته لديهم أثرًا لا يقلّ أبدًا عن أثر هراوة على الرّأس... الشّهم الّذي حمانا كلّنا وخاطر بنفسه ألف مرّة ليحمينا... وها نحن اليوم يهدّنا العجز، لا نملك أكثر من الرّثاء والبكاء بصمت.

سامحنا على حزننا، سامحنا على تدخّلنا في قرار لطالما نخر رأسك، سامحنا على رثائك بهذي الطّريقة التّافهة على هذه الصّفحات التّافهة.

أعرف جيّدًا أنّ الموت لم يكن خيارَكَ في آخر لحظات، بل اخترتَ أن ترقص رقصة جديدة سعيدة في الهواء، رقصة تعرف ثمنها جيّدًا، أعرف كيف حرّكتَ جسمك بالهواء وغيّرتَ الحركة مع كلّ طابق تمرّ عنه، وعرَضْتَ ابتسامتك الحلوة. أعرف جيّدًا أنَّكَ لم ترقص هذه الرّقصة طمعًا بنهايتها المؤلمة، بل لأنّكَ تعرف أنّها رقصة تستحقّ بعض الألم، أنّها رقصة تستحقّ العناء.

المجد لقلبك الطّيّب وروحك الطّاهرة. ارقص بسلام يا صديقي الجميل.

اقرأ أيضًا: حسن رابح؛ قفزة الرّاقص الأخيرة.