"الطّابق الرّابع" لمحمّد نجم: من الكلارينيت... كلّ شيءٍ حيّ

في ألبوم "الطّابق الرّابع"* لعازف الكلارينيت الفلسطينيّ المقيم في باريس؛ محمّد نجم، تتّخذ المقطوعات شكل أمكنةٍ متخيّلةٍ، قد تقوم الذّاكرة البصريّة بلملمة زواياها، إلّا أّنها في الصّورة العامّة تبدو جديدةً للذّهن. ورغم التّنوّع المزاجيّ الّذي يخلقه اللّحن والتّوزيع، إلّا أنّ جميع القطع تتشارك في كونها موسيقى تصويريّةً لجرف مياهٍ في هذه الأمكنة. حركة المياه الّتي تظهر أحيانًا جرفًا حادًّا، أو جريانًا، أو سيلاً، وفي أحيانٍ أخرى تبدو تسرّبًا خجلًا، هي الحركة الّتي يخلقها صوت الكلارينيت الممتدّ، أمّا شكل الحركة وقوّة دفعها فيشكّلها الإيقاع؛ والإيقاع في ألبوم "الطّابق الرّابع" يبدو حرفةً محكمة الهندسة لدى نجم؛ في أصالة الإيقاع الشّرقيّ، وفي انزياحه نحو ثقافاتٍ موسيقيّةٍ أخرى كاليونانيّة أو الجبليّة الوسط آسيويّة، وفي مشاكساته المائلة لعتبات الجاز.

اعتدت، مستمعةً متوسّطةً، أن أحرص على إيجاد ثيماتٍ فكريّةٍ أو حسيّةٍ للموسيقى الـ ـinstrumental. غالبًا ما تبدو بعض العناوين فضفاضةً، وغالبًا ما أحتاج لبعض المفاتيح لتدلّني على طريقٍ ما، أتمشّى فيها في هذا العالم شديد الاعتماد على المخيّلة، فلا يقبض على كلامٍ أو فكرةٍ واضحة المعالم. النّصوص القصيرة الّتي أُرفقت في كتيّب "الطّابق الرابع" عن المقطوعات منحتني بعض المفاتيح، لكنّها لم تشذّب مخيّلتي أو تحاصر حرّيتي في بناء الأمكنة ورسم الخطوط الّتي تجري فيها مياه الكلارينيت. لا تشير النّصوص القصيرة إلى قيمٍ مشتركةٍ، يشير بعضها إلى اليوميّ والمحسوس، آخر إلى الذّاكرة، آخر إلى جوانبَ عاطفيّةٍ صرفةٍ. وفي استماعٍ متواصلٍ للقطع، يبدو هذا التّنقّل كمن يمشي في طريقٍ، ثمّ يتوقّف متأمّلًا، ليستأنف الطّريق من جديدٍ، فيعاود التّأمّل، تارةً يمرّن بصيرته، وتارةً بصره، بين ملموسٍ وحسّيٍّ.

المكان الأوّل؛ شرفةٌ في الطّابق الرّابع، تخرجه من زحام المدينة. هناك، يكون شريكًا للغروب الّذي تشهده يافا "الممنوعة"، تلك الّتي يراها عبر قصص جدّه. يصير الخطّ الهوائيّ الواصل بين الشّرفة وبين الأفق الّذي يبدأ عنده البحر خطّ جريان الماء. ما تنتصر له المقطوعة الأولى، "الطّابق الرابع"، هو أنّها لا تنزف، بل قد تيقظ حنينًا أو ذكرًى ممتعةً. هذا ما يتبدّى في إيقاعها الرّاقص، الّذي يذكّر بأغاني الغجر، اللّاطمة والرّاقصة في آنٍ. المكان البسيط، الشّرفة، يتأثّث بالمعنى؛ حين يصبح حاضرًا يطلّ بعينين مفتوحتين على الماضي أو الذّاكرة المتخيّلة من يافا.

تتعاون التّركيبة الآلاتيّة المصاحبة للكلارينيت في تشكيل المكانيّة وتهيئتها. وفي توزيعٍ ذكيٍّ بين الأكورديون والباص والإيقاعات والعود والكمان والفيولا والتشيلو والقانون والبزق، تصير الاستعارة الموضوعيّة، الّتي خرجت منها الموسيقى، مرئيّةً؛ إذ يستطيع المستمع القبض عليها بسهولةٍ. ففي المقطوعة الثّانية، الّتي تحمل عنوان "Instant Love"، يشير نجم كلاميًّا إلى تناوله لحظة حبٍّ باعتبارها خلاصةً لزمن حبٍّ كاملٍ. يطابق هذا التّصالح مع نهاية العاطفة الموسيقى الّتي لا تخلو من "الفرح"، وكأنّها انتصرت على فعل القبض وتغلّبت على أيّ انكسارٍ تقليديٍّ يكون لزامًا على نهاية الحبّ. وسط هذا الفرح الّذي توزّعه الحالة إلى خارجها، تغرق المقطوعة، فجأةً، في دواخلها، في سولو مثيرٍ للكلارينيت، لا يبدو حزينًا بقدر ما يبدو متأثّرًا من حالةٍ صادقةٍ. ثمّ تعود لتنتشي من جديدٍ. تشكّل هذه التّقاطعات الحسّيّة، الجليّة في الموسيقى، مكانيّةً تشبه غرفةً قديمةً ومهجورةً، لكنّ نوافذها مشرّعةٌ على حياةٍ متجدّدةٍ. والمياه الخارجة من الكلارينيت تتدفّق دون حواجزَ، لكنّها تتسرّب في مقاطع السّولو وكأنّها متردّدةٌ أو غير واثقةٍ؛ وفي هذا بناءٌ دراميٌّ موفّقٌ للقطعة.

في المكان الرّابع، يقدّم نجمٌ موسيقى تصويريّةً للمشاهد المتتابعة من نافذة الباص، إنّه اللّحن الّذي كان يدندنه في رأسه كي لا يشعر بالملل من أحاديث السّائق أو الرّكّاب. هنا، تبدو الاستعارة المشهديّة شديدة المرئيّة في الموسيقى. نبض الإيقاع، وتراتبه الّذي يشبه الهرولة، أو سفر الحافلة الرّتيب والمتباطئ، يتيح مساحةً تصويريّةً للمخيّلة، في بناء المشاهد المدنيّة المتغيّرة والملوّنة الّتي تؤطّرها النّافذة.  

غلاف ألبوم "الطابق الرّابع" لمحمد نجم 

في المكان السّادس مقطوعةٌ بعنوان "Rakset Zabakly"، والزّبقلي اسم إيقاع 9/8. يتصرّف نجم في مقطوعةٍ من التّراث العثمانيّ، قد تعود بالمخيّلة إلى ما قبل العثمانيّين، قد تكون قسطنطينيّةً بكامل تفاصيلها وزركشتها وعمرانها وفخامتها المكانيّة المدنيّة، يصوّرها الإيقاع وكثافة عمل مجموعة الآلات في بعض المقاطع؛ لكنّ توزيعها يخرجها من تراثيّتها، ليقدّم منها صوتًا عصريًّا يجعل من المكان أكثر حيويّةً، ويجعل من الماء أكثر مواربةً في حركته، وأكثر ذكاءً في رسم خطوط جريانه.

"الطّابق الرّابع"، الّذي أنتجه الموسيقيّ سامر جرادات ضمن سلسلة إنتاجاتٍ حملت عنوان "عبور"، يقدّم تنوّعًا في تأثيراته الثّقافيّة، ومزيجًا من امتداداته التّاريخيّة الّتي قدّمتها موسيقى المنطقة بخاصّةٍ، وموسيقى العالم بعامّةٍ. ما هو بعيدٌ عن تحليله الموسيقيّ، بالنّسبة لمستمعٍ متوسّطٍ؛ يقدّم الألبوم أمزجةً هي خير جليسٍ ليومٍ عاديٍّ، أو لعلّها محفّزاتٌ لكلّ الأمزجة المحتملة الّتي من الممكن أن تكون دفينةً دواخلنا في يومٍ عاديٍّ... محفّزاتٌ للفرح والحزن والتّأمّل والتّساؤل والانبساط والانقباض. هي قيمٌ حسّيّةٌ قد تكون حبيسة روتيننا اليوميّ، ليكون الكلارينيت من يجعلها حيّةً وظاهرةً.

* "الطّابق الرّابع": أكورديون - مانفرد لويشت؛ جيتار باص - أنطوان بوتز وشارلي رشماوي؛ إيقاعات - طارق رنتيسي؛ عود - ديمتري ميكيلس؛ كمان - توماس باجباك؛ فيولا - ماتيلد ڤيتو؛ تشيلو - دانيله سبادا؛ واستضاف: قانون - يعقوب حمودة؛ بزق - طارق عبوشي.

صورة الخبر الرّئيسيّة: محمد نجم بعدسة لوسيا أحمد فوتوغرافي