الأغنية الشّعبيّة: لحنٌ واحدٌ لمواقف متعدّدة

يقول الباحث نمر سرحان في موسوعته عن الفولكلور الفلسطينيّ، وفي تعريفه للأغنية الشّعبيّة، إنّها قصيدةٌ غنائيّةٌ يتداولها النّاس في الوسط الشّعبيّ، ويتوارثونها في مناسباتهم الاجتماعيّة. وقد تكون الأغنية مجهولة النّشأة، ظهرت بين ناسٍ أميّين في الأزمان الماضية، ولبثت تجري في الاستعمال لفترةٍ من الزّمن، ومن الممكن أن يكون مؤلّف الأغنية الفولكلوريّة فردًا معروفًا أو مغمورًا، ظلّ اسمه في كنف الغموض. وقد يرجع تأليف الأغنية الشّعبيّة إلى الارتجال، لكن ذلك ليس شرطًا أساسيًّا.

إنّ بعض الأغاني الشّعبيّة كانت يومًا أغاني رسميّةً، ثمّ انتقلت في التّداول من الوسط البرجوازيّ إلى الوسط الشّعبيّ، وهكذا صارت الأجيال تتوارثها، وغدت جزءًا من الموروث الشّعبيّ؛ ولا بدّ أنّ سببًا معيّنًا دفع الجماهير الشّعبيّة إلى تلقّف الأغاني  الّتي نبتت في وسطٍ رسميٍّ برجوازيٍّ.

إنّ تحديد هويّة الأغنية الشّعبيّة أمرٌ يفرض نفسه أثناء هذه المراحل من تطوّر ثقافتنا العربيّة، والّتي يتزايد فيها الاهتمام بالفنون الشّعبيّة، وكلّ ما يصدر عن الشّعب من فنونٍ قوليّةٍ، وتصبح مسألة التّحديد مسألةً ملحّةً، إذ أنّ هناك خلطًا بين الثّقافة الرّسميّة والثّقافة الشّعبيّة.

أجلس مع والدتي، أخبرها أنّني لطالما كنت مهتمّةً بأصول الأغاني التّراثيّة الشّعبيّة؛ من ألّفها، كيف انتقلت من جيلٍ إلى جيل، وما القصّة من وراء كلّ أغنية.

أتوجّه إليها على وجه الخصوص لأنّني على درايةٍ أنّ لديها القدرة على حفظ الكلمات، بل والإصرار على ترديدها في الأفراح، طالبةً من الجميع أن يردّدوها بعدها.

فأذكر، حين كنت طفلةً صغيرةً بداية التّسعينات، أنّ الأفراح كانت تتّسم بمميّزاتٍ مختلفةٍ عن تلك الّتي تهرب منها أفراح حاضرنا. جميع من يحضر كان يردّد كلمات الأغاني، ويدندن ألحانها، مرفقةً بالدّبكة أو رقصةٍ متوارثة.

تذكر لي أمّي مقطعًا من أغنية 'حَيِّدْ عن الجيشِ'، الّتي بدأ يردّدها النّاس زمن الحكم العثمانيّ لرفضهم الانخراط في جيشه:

وحَيِّدْ عن الجيشِ هي يا غالي

يا عزيز الرّوح يا بْنِ خالي

وِانْ صابك إشي لَ اقتلْ حالي

واقًصِ الجديلة وشعري احِلُّه

أو مثلًا، بعد تهجير جزءٍ من الشّعب الفلسطينيّ، وإقحام الحدود بين الأهل والأحباب، ردّدوا:

يمّا ويا يمّا وحبيبي وينُه

حطّولي البحر ما بيني وبينُه

لَ اقطع البحر واقعد في حْضينُه

واشربْ من ميِّةْ عين الزَّتونا

(عين الزّيتون، قريةٌ فلسطينيّةٌ مهجّرةٌ، قضاء صفد).

أمّا عن استخدام اللّحن الشّعبيّ وتغيير الكلام وفقًا لسياقٍ أو حدثٍ ما، فيتّضح أنّ العامّة تحاول دائمًا إبراز موقفٍ معيّنٍ أو آخر حتّى في الأفراح. ففي نهاية التّسعينات، مثلًا، حاولوا في قريتيْ عسفيا ودالية الكرمل قضاء حيفا، وفي العديد من قرى الجليل، وبأمرٍ دينيٍّ، منع الفرح والأغاني في الأعراس، بالذّات لمن هم أجاويد (أي أهل الدّين من الدّروز)، فأخذ العامّة لحن أغنية الدّلعونا، وردّدوا ما يلي:

على دلعونا ودلعونا جديدِة

منعوا الفرح عَ الأجاويدِ

طلبوا الجنّة والجنّة بعيدِة

ودربك يا جهنّم أقرب ما يكونا

أمّا الظّاهرة الّتي استمرّت منذ الخمسينات حتّى أواخر التّسعينات، فبدأت بعد فرض التّجنيد الإجباريّ على الشّباب الفلسطينيّين الدّروز في جيش الاحتلال الإسرائيليّ، وبعد ترويج روايةٍ كاذبةٍ مفادها أنّ مجموعةً من الأجاويد الدّروز قاموا بتوقيع وثيقةٍ مع دولة الاحتلال لتبرير الخدمة، فردّدوا في القرى الّتي يسكنها الدّروز، مؤكّدين رفضهم القاطع للتّجنيد، بل واحتقارهم لمن ينخرط في صفوف جيش الاحتلال:

لوّح بالفوطَة لوّح بالفوطَة

ياللّي رايح ع الجيش لوّح بالفوطّة

إمّه شرّموطة إمّه شرّموطة

ياللّي مضى ع الجيش إمّه شرّموطة

والمقطع أعلاه، منظومٌ على لحن أغنية 'من بين البيوت الشّعبيّة'، وكلماتها الأصليّة:

منْ بينِ البيوتِ... منْ بينِ البيوتِ

وِلْفي مرقْ خيّالْ... منْ بينِ البيوتِ

والسّرج ياقوتِ.. السّرجْ ياقوتِ

والمسبحة فضّة.. والسّرج ياقوتِ

وهو نموذجٌ  آخر لتوظيف لحن أغنيةٍ شعبيّةٍ ما، للتّعبير عن موقفٍ جديدٍ بكلماتٍ مختلفة.

يفيدنا ما تقدّم من نماذج أنّ الأغنية الشّعبيّة الفلسطينيّة لم تكن محصورةً في مناسبات الأفراح فقط، بل كانت مهمّةً في صياغة الثّقافة الجمعيّة والتّعبير عنها، كلمةً ولحنًا، تُستخدم لتسجيل موقفٍ معيّن، سياسيٍّ أم اجتماعيّ، نعجز في كثيرٍ من الأحيان عن طرحها في مجلسٍ أو لقاءٍ أو اجتماعٍ.

وكثيرًا ما كان يحدث أن يُعتمد لحن أغنيةٍ شعبيّةٍ معروفةٍ مع تغيير كلماتها لخدمة الموقف الجديد، فسرعان ما يأخذ النّاس بترديدها، بفعل قربها منهم، وحضورها في ذاكرتهم ووجدانهم، ما يجعل الموقف نفسه متوارثًا ومؤكّدًا عبر الأجيال، فتكون بذلك الأغنية الشّعبيّة الفلسطينيّة، باستخداماتها العديدة، قد ساهمت، ولا تزال، في صياغة الهويّة الفلسطينيّة الجمعيّة، ما بين تثبيتٍ وتطوير، ومسهّلةً التّعبير عنها في ظلّ حدودٍ عدّةٍ وُجِدَت لتشرذمها.