الموسيقى والمدى: المكان والذّاكرة والآخر

[تأمّلاتٌ غضّةٌ في الموسيقى].

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقةٌ     

والأذن تعشق قبل العين أحيانا
(جرير)

أذكر يوم أصابني مسٌّ يقول لي أن أَغْمِضْ عينيك في حضرة الموسيقى وتلمّسها بإبصار سمعك. حضرت في بالي فكرة 'الخيال المادّيّ'، ففي الحلم والخيال لا يمكننا إلّا أن نضع حلمنا وخيالنا في 'مكانٍ' ما، إذ أنّ الحلم والخيال لا بدّ لهما من مكانٍ ليحدثا/ يقعا فيه، أمّا الموسيقى فلا، الموسيقى في ذاتها انفتاح المكان على حرّيّته وتحرّره من إدراك حواسنا القاصر.

أغمضت عينيّ واضعًا سمّاعاتي في أذنيّ، تاركًا العنان للموسيقى/ الأصوات لتحدّد ما للمكان من أبعادٍ، وليس العكس، ما للأبعاد من أصواتٍ؛ فالحالة الأولى تبنيها حاسّة السّمع، بما لها من اتّساعٍ ومدًى وانفتاحٍ، والثّانية تنبني على الرّؤية والعين وما فيهما من مركزيّةٍ انتقائيّةٍ لما هو خارج المشهد/ المعنى وما هو داخله؛ الأولى احتواءٌ والثّانية سلطةٌ.

أمدّ يديّ لأتلمّس حدود الصّوت المنبعث من الطّبل في تلك المقطوعة الموسيقيّة، أتذكّره على أقصى يميني، في حين أتت اهتزازات العود صريحة الموقع، من نقطةٍ ما عميقةٍ داخلي. ثمّة مقولةٌ عن الموسيقى الغربيّة والعربيّة، باعتبارهما أجسادًا؛ يكون البيانو فيها القلبَ من الجسد في الموسيقى الغربيّة، والعود هو القلب في العربيّة. أيمكن أن ينبع صوت العود من قلبي؟! ما لكم هذا الشّجن المسجون فيه؟!

السّمع أوّل الخلق

لا زلت مغمضًا عينيّ، وكلّ ما أراه سوادٌ، تتخمّر على سطحه إمكانيّاتٌ متموّجةٌ لاحتمالاتٍ لا نهائيّةٍ من الوجود. يقول فيثاغورس إنّ الكون خُلِقَ في ستّ نبضاتٍ/ إيقاعاتٍ، ويقال في الأديان التّوحيديّة ستّة أيّام؛ السّمع أوّل الخلق، تلك الحاسّة الّتي تتطوّر في الرّحم قبل أن نولد ويولد إدراكنا لها، ماذا تراها تقول؟ في حين تَخْمُلُ باقي حواسّنا في الرّحم؟! لماذا احتاج الله لستّ إيقاعاتٍ قبل أن يخلق الكون، ماذا حملت تلك الإيقاعات؟ ولماذا نسمع قبل أن ندرك؟

سرعان ما قفز في ذهني تساؤلٌ، هل تحمل تلك الإيقاعات السّتّ من حكاية الوجود ما لا نعرفه عن أنفسنا ووجودنا، كما حملت حاسّة السّمع حكايتنا في الرّحم؟ فلنتخيّل أنّنا قضينا من حياتنا شهورًا لا نملك قناة اتّصالٍ إلّا السّمع، فنسمع صوت أمّهاتنا وتنهداتهنّ، وهدير الوسط المائيّ حيث نحن: الرّحم، ماذا كانت لتحكي أصواتنا وموسيقانا عنّا وعن وجودنا وعالمنا؟! أوليس السّمع مفتاح المتصوّفة للخروج من قيد المحسوس الماديّ، الجسد، لباقي الحكاية والإشراق؟ أليست الولادة/ الخلق إشراقًا؟!

كان أحد الأطبّاء اليابانيّين قد اكتشف علاجًا لتهدئة الأطفال حديثي الولادة أثناء معاينتهم، بتسجيل الأصوات الصّادرة عن الرّحم أثناء الحمل وإسماعها لهم؛ فكان 86% يكفّون عن البكاء، ويغفو 30% منهم، وقد مُنعت تلك الطّريقة فيما بعد لما يُظنّ أنّه يؤدّي بالأطفال إلى مرحلةٍ نكوصيّةٍ!

التّجسيم السّمعيّ

ثمّة ما يسمّى 'السّتيريوفونيا'، أي 'التّجسيم السّمعيّ'؛ يقول النّاقد الموسيقيّ نيك كولمان: 'أتصوّر أنّك إذا كنت تحبّ الموسيقى على كلّ حالٍ، فسيكون لديها في رأسك نوعٌ من البعد الثّالث، وهو بعدٌ يقترح الحجم بالإضافة إلى السّطح، وعمق الحقل بالإضافة إلى الجوهر. عن نفسي، لقد اعتدت أن أسمع أبنيةً متى سمعت موسيقى، أشكالًا ثلاثيّة الأبعاد من المادّة المعماريّة والتّوتّر ... كانت هذه الأشكال تُظْهِرُ الحجم، وتُبنى من سطوحٍ متشابكةٍ اعتمد بعضها على بعضٍ من أجل التّماسك. كانت الموسيقى في نظري، دومًا، وعاءً جميلًا ثلاثيّ الأبعاد، حقيقيّةً بطريقتها... مع فضاءاتٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ فرعيّة التّقسيم. أنا أكيدٌ من أنّ فنّ العمارة هذا يتعلّق تمام التّعلق بالسّبب وراء هذه السّيطرة العاطفيّة الّتي مارستها الموسيقى'.

هذا التّجسيم السّمعيّ، أليس سردًا أو إدراكًا لحقيقةٍ ما؟ حقيقةٌ ما قبل الحواس، وأعلى من اللّغة؟! وأكثر اتّساعًا من الذّاكرة؟ أي أنّها – الموسيقى - كيانٌ قَبْلِيٌّ Prior لوجود الإنسان وحواسّه، ولغته وذاكرته.

يقول الفيلسوف الموسيقيّ فيكتور زوكر كاندل، في كتابه، 'الصّوت والرّمز': 'سماع لحنٍ هو سماعٌ مع اللّحن... هو حتّى حالةٌ لسماع لحنٍ، بحيث أنّ النّغمة الموجودة في اللّحظة الحاليّة يجب أن تملأ الوعي كلّيّةً، لا شيء يجب أن يُتَذَكّر، لا شيء باستثنائها أو بالإضافة إليها يجب أن يكون موجودًا في الوعي... سماع لحنٍ هو أن تسمع، وتكون قد سمعت، وعلى وشك أن تسمع، في وقتٍ واحدٍ. كلّ لحنٍ يعلن لنا أنّ الماضي يمكن أن يكون هناك من دون أن يُتَذَكّر، والمستقبل هناك من دون أن يُعْرَفَ مسبقًا'.

هذه القدرة للموسيقى على تجاوز الحواسّ واللّغة والذّاكرة، لتهندس مكانًا إدراكيًّا قبليًّا، تتراءى في الأدب، مثلما في حالة الرّاوي الفاقد للذّاكرة في رواية أمبرتو إيكو، 'اللّهب الغامض للملكة لوانا':

'بدأت بدندنة لحنٍ لنفسي. فعلت ذلك تلقائيًّا، مثل تنظيف أسناني بالفرشاة... ولكن ما أن بدأت أفكّر فيما أفعله، حتّى توقّفت الأغنية عن الإتيان طوعًا، وتوقّفت عند نغمةٍ مفردةٍ. ظَلَلْتُ عالقًا عندها فترةً طويلةً، خمس ثوانٍ على الأقلّ، كما لو كانت إنذارًا بخطرٍ أو ترنيمةٍ جنائزيّةٍ. لم أعد أعرف كيف أتابع لأنّي فقدت ما كان قبل... عندما كنت أغنّي من دون تفكيرٍ، كنت، فعليًّا، نفسي السّليمة طوال مدّة ذاكرتي، الّتي كانت في تلك الحالة ما يمكن أن تسمّيه ذاكرةً حلقيّةً، حيث السّابق والتّالي متّصلان معًا، وكنت أنا الأغنية الكاملة، وفي كلّ مرّةٍ كنت أبدأ بها، كانت أوتاري الصّوتيّة تُحَضّرُ، بالفعل، للنّغمة التّالية. أعتقد أنّ عازف البيانو يعمل أيضًا بتلك الطّريقة، فحتّى عندما يعزف نغمةً ما، هو يحضّ أصابعه على ضرب مفاتيح النّغمة التّالية. من دون النّغمات الأولى، لن ننجح في الوصول إلى الأخيرة، وسيكون عزفنا غير متناغمٍ، ولن ننجح في الانتقال من البداية إلى النّهاية، إلّا إذا احتوينا، بطريقةٍ أو بأخرى، الأغنية كلّها داخلنا. لم أعد أعرف الأغنية كاملةً. أنا مثل... زند خشبٍ يحترق، لكن لا إدراك لديه أنّه كان فيما مضى جزءًا من جذعٍ كاملٍ، ولا سبيل لديه ليكتشف أنّه كان كذلك، أو ليعرف متى اشتعل، وهكذا يحترق... أنا أعيش في ضياعٍ تامٍّ'.

إن كان راوي إيكو قد أسماه 'ضياعًا تامًّا'، إلّا أنّه وجودٌ كاملٌ، فتلك المعرفة المتعالية على الذّاكرة، والّتي تسبق أيّ ظاهرةٍ (قَبْلِيَّةٌ)، هي قصّة الوجود ما قبل السّرديّ للدّين والذّاكرة واللّغة؛ فمن أين تأتي إذا كانت قبل الذّاكرة؟!

اللّحن الحاكم

أمدّ يدي في الصّوت الآتي من هناك، لأعرف أين أنا ومن معي، أمدّ يدي إليها!

من هناك، في اللّحن، معي؟ ثمّة آخر معي نخلق وجودنا، في الموسيقى، وإلّا فما الحاجة للّحن القائد Lead في الهارمونيّ؟

يحدّثنا أدورنو عن تلك الموسيقى الّتي تستغني عن الرّابط الهارمونيَ الحرّ (مدرسة فيينا الثّانية)، فتحرّر الألحان الـ ـ12 باستغنائها عن اللّحن القائد، الحاكم؛ فتنافر الأصوات دلالةٌ على التّناقضات الاجتماعيّة السّائدة، وكذلك المساواة بين الألحان، في نزوعٍ 'لا سلطويٍّ'.

إنّ موسيقى الجاز، مثلًا، بحسب أدورنو، مصدرٌ للرّعب، لأنّها لا تستطيع رفع الاغتراب الّذي يعاني منه الزّنوج، بل تقوّيه، 'فالجاز  يوصل شعورًا خاطئًا يتمثّل بالعودة للطّبيعة، في الوقت الّذي يجب أن يكون نتاجًا اجتماعيًّا'، 'فهي تُحوّل الفنتازيا الفرديّة إلى فنتازيا اجتماعيّةٍ تبدو ديموقراطيّةً، كما أنّ تنوّع الجاز إنّما يعكس تحرّرًا جنسيًا كاذبًا، وتتحوّل رسالته إلى عمليّة إخصاءٍ، لأنّه يربط بين ما يعد به من تحرّرٍ وما يقوم به من رفضٍ تقشّفيٍّ، فالوظيفة الأيديولوجيّة للجاز تقوّي أسطورة ’الأصل الزّنجيّ الأسود‘، وتكشف عن التّشابه بين بشرة الزّنجيّ السّوداء اللّون، واللّون الفضّيّ القاتم للسّاكسفون، وهو بالمعنى السّايكولوجيّ، نوعٌ من أنواع المازوشيّة'.

وبالعودة للمجتمع الاستهلاكيّ الّذي يرى الصّمت جريمةً، باعتبار أنّ الموسيقى ليس لديها ما تخشاه في القرن الـ 21، كما يقول إريك هوبزباوم، فالسّؤال: ماذا تقول لنا تلك الموسيقى الّتي بات الإنسان فيها آلةً وليس فكرةً ووجودًا، أو كما يستنتج – كذلك - هوبزباوم: 'الموسيقى تصلنا من دون كثير تدخلٍ بشريٍّ'، حينها يكون الصّمت عبادةً وهرطقةً، معًا، وأوّل الطّريق إلى الذّات والآخر، والموسيقى ترانيم موتٍ.