رسائل: بيانو بِلَكْنةٍ فلسطينيّةٍ

يمكن القول، إلى حدٍّ ما، إنّ آلة البيانو تُقَدَّمُ للمستمع العربيّ على شكل خطٍّ لحنيٍّ، ضمن توزيعٍ ما في إحدى المقطوعات الغنائيّة أو الآليّة؛ عدا عن ذلك، من السّهل أن يقنعنا أصحاب الرّأي القائل إنّها آلةٌ تنتمي للطّبقة المخمليّة، برأيهم، وإنّها لم تنجح نسبيًّا، بعد، في أن تكون أحد عناصر المشهد الثّقافيّ العربيّ بعامّةٍ، لا سيّما بشكلها الكلاسيكيّ أو المنفرد.

أضيف مؤخّرًا للمكتبة الموسيقيّة الفلسطينيّة، عملٌ خاصٌّ بآلة البيانو، حمل اسم 'رسائل'، ضمّ مجموعةً من المؤلّفين والعازفين الفلسطينيّين من الوطن والشّتات، طرحه على مسامعنا المنتج الفلسطينيّ سامر جرادات، ضمن سلسلته الإنتاجيّة، 'عبور'، الّتي أسفرت عن ستّة ألبوماتٍ حتّى الآن.

المقدّمة السّلسة

بتأليف وعزف دينا الشّلّة، يبدأ الألبوم رسالته الأولى بعنوان 'بقايا'، والّتي قدّمت صاحبتها فيها، تقنيّةً وحرفيّةً عاليتين في العزف والتّأليف، في مقدّمةٍ سلسةٍ نستطيع أن نلمس فيها أسلوبًا مميّزًا لسير الجملة اللّحنيّة من ناحية البناء الموسيقيّ، كتلك الأساليب فائقة البراعة الّتي ميّزت الحقبة الرّومانسيّة، كما في بعض أعمال شوبان وبرامز، أسلوبًا وليس مخططًّا عامًّا للهارموني؛ ثمّ تأخذنا بلا ثرثرةٍ لحنيّةٍ، وبشكلٍ حيويٍّ، لمتغيّراتٍ لحنيّةٍ ذات علاقةٍ بالتّصرّف العامّ في السّلّم الموسيقيّ والشّكل الإيقاعيّ، الّذي يضفي نكهاتٍ بلقانيّةً وعربيّةً، لتنتقل بعدها، بأسلوبٍ أقرب ما يكون للانطباعيّة، إلى عدّة عوالم وظّفتها دينا في مقطوعتها، تجعلها جديرةً بأن تُسْمَعَ أكثر من مرّةٍ.

الطّابع التّأمّليّ

أمّا الرّسالة الثّانية، فهي بعنوان 'Kleiner Anfang'، للمؤلّف جون كميل فرح، وعزف دينا الشّلّة. بداية المقطوعة ذات طابعٍ تأمّليٍّ، حيث بناء التّآلف الموسيقيّ counterpoint''، أقرب ما يكون لأسلوب عصر النّهضة، ليتبعها ارتجالٌ يأخذ طابع الحوار بين جملٍ عربيّةٍ بتقنيّة عزفٍ تحاكي آلة القانون، وأخرى ذات طابعٍ وتريٍّ أقرب لأبعاد الجاز. قد لا تنساب الجملة العربيّة بطريقةٍ تلقائيّةٍ وطبيعيّةٍ في السّياق الكلّيّ، على عكس نهاياتها، إلّا أنّها تتماشى والرّؤية العامّة التّأمّليّة والانطباعيّة إلى حدٍّ ما، والّذي يخدم عنوان المقطوعة باللّغة الألمانيّة، والّذي يعني 'بدايةٌ صغيرةٌ'.

غلاف الألبوم الموسيقيّ 'رسائل'

لازمة

على عكس المقطوعتين السّابقتين، فإنّ الرّسالة الثّالثة بعنوان 'على الطّريق'، من تأليف وعزف رنيم نابلسي، تتّخذ، بطريقةٍ ما، طابع وبناء المقطوعة العربيّة من حيث التّأليف الموسيقيّ، باحتوائها لازمةً موسيقيّةً تشبه تلك الّتي توجد في متن الأغنية العربيّة. ينتقل بنا اللّحن بحيويّةٍ وإحساسٍ متصاعد البناء، إلى أن نصل منتصف المقطوعة بتآلفٍ لحنيٍّ كلاسيكيٍّ يذكّرنا بتلك التّآلفات عند بيتهوفين وبداية الحقبة الرّومانسيّة.

بيانو بانطباعات الجاز والبوب

رابعًا، تأتي رسالة دنيا جرّار، 'رقصٌ دائمٌ'، من تأليفها وعزفها، وقد استطاعت بنجاحٍ وتمرّسٍ تقديم السّهل الممتنع. تبدأ جرّار رقصتها على إيقاع 8/7 البلقانيّ، وببراعةٍ، تُحْسَبُ لها، في الحفاظ على سير نبض الإيقاع. في ذات الوقت، تصيب موسيقاها معظم نغمات البيانو بانطباعات الجاز حينًا، والبوب الأمريكيّ حينًا آخر، كما تظهر مقدرتها، ملحّنةً، في الانتقال بسهولةٍ بين مختلف مواضع النّغم.

تجانس الحداثة

يعود بنا رمزي ريحان إلى تقنّيّة التّلحين الخاصّة بالحقبة الرّومانسيّة، وتقنيّة تجانس ما بعد الرّومانسيّة، برسالته الخامسة، 'الصّرخة'، الّتي عزفها جريس بلاطة، والأخير صاحب الرّسالة السّادسة، ' Arabic Rhapsody'، والّتي ألّفها وعزفها بنفسه؛ وهي تتكوّن من ثلاثة أجزاءٍ، وذات بناءٍ لحنيٍّ وهارموني يُحْسَبانِ له، وأداءٍ احترافيٍّ تقنيٍّ. كما يبرز استخدام التّجانس من عصر الحداثة، إذ يذكّرنا في لحظاتٍ بـ ' La Campanella' لفرانز ليزت، أو أعمالٍ تميّزت ببراعةٍ فائقةٍ مماثلةٍ للفترة الرّومانسيّة، وفي لحظاتٍ أخرى يوظّف نمط الإيقاع العربيّ، قوّةً دافعةً للموسيقى.

البناء الدّراميّ

تتّخذ الرّسالة السّابعة بعنوان 'Recreation of Eutopia'، من تأليف وعزف ميرا أبو الزّلف، قالبًا أقرب إلى الرّوندو، وبتجانس 'Homophonic' لحنيٍّ مرافقٍ بسيطٍ، قد يذكّرنا بموسيقى أغاني العصر الرّومانسيّ. أما الخطّ اللّحنيّ، فسلسٌ وقريبٌ للأذن، ومليءٌ بالشّجن. تليها الرّسالة الثّامنة بعنوان 'Aubada'، من تأليف سعاد بشناق، وعزف رنيم نابلسي. تتكوّن المقطوعة من خمس حركاتٍ أحاديّةٍ، تميّزت ببناءٍ موسيقيٍّ دراميٍّ، وُظِّفَ الصّوت الرّئيسيّ فيها ليقود إلى أربعة أجزاءٍ كُتِبَتْ بأسلوب الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة التّقليديّة، كما نجدها قد غرست بعض النّكهات العربيّة في بعض التّصرّفات اللّحنيّة، إلى جانب تجانسٍ موسيقيٍّ ما بين الجاز وإيقاع التّانغو.

برشاقةٍ لحنيّةٍ لا تخلو من العاطفة والدّراما، تقدّم دانا رزق رسالتها في المقطوعة التّاسعة من الألبوم، بعنوان 'A Soul’s Odyssey'، تأليفًا وعزفًا. يغلب تأثير الهارموني السّائد في موسيقى البوب على هذه المقطوعة، وتمتاز بأبعادٍ موسيقيّةٍ قريبةٍ ومتتاليةٍ، وقد تذكّرنا أجواؤها ببعض أعمال مؤلّفي موسيقى الأفلام، مثل ' Yann Tiersen'.

الارتجال... اللّا ارتكاز

أمّا مقطوعة 'Maqam for Nathalie'، فهي العاشرة وقبل الأخيرة من الرّسائل، من تأليف حبيب توما (1934-1998)، وعزف ميرا أبو الزّلف. نجد في هذه المقطوعة محاولةً لمزج المقام والتّصرّف فيه بشكله الارتجاليّ مع قواعد التّأليف الكلاسيكيّ التّقليديّة، ما جعلها بلا ارتكازٍ نغميٍّ واضحٍ، وهي قد تذكّرنا بأعمال شوينبيرج.

الرّسالة الأخيرة، 'Passe-Present'، من تأليف باتريك لاما وعزف فادي ديب، وقد جاءت بثيماتٍ مستوحاةٍ من ألحانٍ عربيّةٍ. يُطَوَّرُ اللّحن بجملٍ مغايرةٍ، وبتصرّفٍ موسيقيٍّ أقرب ما يكون لأسلوب بعض مؤلّفي البيانو الفرنسيّين في القرن العشرين، مثل أوليفييه مسيان.

لعلّ ما يميّز العمل، تنوّع المؤلفين، من حيث التّباين في المستوى الفنّيّ والتّقنيّ، واختلاف خلفيّاتهم ومدارسهم الموسيقيّة، ما يجعل العمل مثيرًا للفضول من ناحيةٍ، وشاملًا لأكثر من أسلوبٍ من ناحيةٍ أخرى، إلى جانب ميّزةٍ تتعلّق بالمدى البعيد، حيث يمكن له أن يعطي بعض المؤشّرات، وأن يكون بمثابة مادّةٍ للتّوثيق والأرشفة، على المدى البعيد جدًّا، لحال البيانو وبعض روّاده فلسطينيًّا.