"ربيع غزّة"، حفل موسيقيّ في مدينةٍ تتنفس الحصار

لا يُعرف مدى صعوبة تنظيم حفلٍ موسيقيّ في غزّة سوى سكانها، ففي مدينة مغلقة من جميع جوانبها، مثل سجن حقيقيّ يكابد النّاس فيه من أجل البقاء على قيد الحياة، ولا ينتظرون سوى أن ينتهي النّهار بلا مصائب، ولا يحفظون فيه نصًا مكتوبًا غير جدول توزيع الكهرباء، ولا يرددون سوى أحاديث الحصار وتوقعات الحرب، ستبدو الموسيقى بالتأكيد حدثًا خارجًا عن المألوف، وهديةً على غير انتظار.

رغم هذا، امتلأ مسرح مؤسّسة سعيد المسحال في غزّة عن آخره، قبل ساعةٍ من موعد بدء حفل "ربيع غزّة"، الذي أحيته فرقة "وتر باند" الغزيّة وحدها، بعد أن كان من المفترض أن يشاركها الحفل فنانون من فرقة "الكمنجاتي" من الضّفة الغربيّة، التي حال دون وصولها إلى غزّة رفض السّلطات الإسرائيليّة منح أعضائها تصاريح المرور إلى القطاع.

بدا الحصار حاضرًا جدًا في حفل "ربيع غزّة"، حينما أطل رمزي أبو رضوان، عضو ومؤسّس مركز وفرقة "الكمنجاتي" على الجمهور، من خلال اتصال صوتيّ من رام الله، لعدم تمكن الفرقة من عبور حاجز بيت حانون (إيريز)، ما حرم جمهورًا يتوق للموسيقى من ثلاث حفلات أخرى، كانت مقررة بناء على موعد وصول فرقة "الكمنجاتي"، للمشاركة فرقة "وتر باند" الغزيّة هذا الحدث الاستثنائيّ.

وأسف رمزي خلال اتصاله، وأثناء انتظار الجمهور إطلالة فرقة "وتر باند" على مسرح "سعيد المسحال"، لعدم تمكن الفرقة من العبور، متمنيًا لو أنه كان موجودًا على المسرح الآن، وخاطب الجمهور عبر مكبرات الصّوت بجمل تفيض بالمشاعر، متمنيًا لفرقة "وتر باند" حفلًا ناجحًا، وللجمهور متعةً لا تنتهي، فيما قابله الجمهور بالتصفيق.

الموسيقى تتحدى الحصار

رغم كل شيء، كان للموسيقى الصّوت الأقوى خلال ساعةٍ ونصف من المتعة والفرح، بدأته فرقة "وتر باند" بمقدمة موسيقيّة متميزة أدخلت الجمهور إلى أجواء الحفل تمامًا، وبدا المسرح خلال لحظات قطعةً من عالم آخر، غير العالم المعتم بفعل انقطاع الكهرباء خارج المسرح.

عزفت الفرقة مجموعة من الأغاني التّراثيّة والفولكلوريّة، طبعتها الفرقة بطابعها الموسيقيّ الخاص، الذي أعتمد على آلات ذات إيقاع غربيّ مزج بذكاء مع إطلالات مدروسة لانفرادات متميزة على القانون، والإيقاع، والبيانو، والأداء الصوتيّ المتميز لنادر حمودة.

كما غنّت الفرقة خلالها واحدة من أجمل أغنياتها بعنوان "دوشة"، التي تفاعل معها الجمهور بشكل لافت، وشارك الفرقة غناء كلماتها، وطالب بإعادة أدائها في جوّ مشحون بالمشاعر والمتعة.

بدا مسرح "سعيد المسحال"، وقد غصّت مقاعده بالناس، كتلةً من الحياة طوال فقرات الحفل، وبدا الجمهور شديد العطش للموسيقى، وغنى الحاضرون وصفقوا وصرخوا أغلب الوقت، مع الفرقة التي كان أداؤها ساحرًا واحترافيًا وسط مسرح معدٍ جيدًا على جميع الأصعدة.
 

الحياة تليق بغزّة

كل شيءٍ كاملًا حد أن غالب الجمهور لم يغادر مقاعده أثناء الاستراحة بانتظار الفرقة، وكأنه يستزيد فرحًا أتى على غير العادة، وحين حاولت الفرقة مغادرة المسرح استزادها الحاضرون مرارًا، ثم غادرت الفرقة المسرح فيما الجمهور لا يزال يردد بلا موسيقى أغنية فيروز "يا سهر الليالي"، التي عزفت الفرقة أنغامها بناءً على طلب الجمهور كختام لفقرات الحفل، ورفض الجمهور مغادرة مقاعده وكأن لسان حالهم يريد أن يقول أن الموسيقى مساحة حياة، وأن الحياة تليق بغزّة أكثر مما تليق بها الحرب، وأن الرغبة في الحياة والأمل ما زالت واردةً حتى في أتعس الظروف، في ظل الحصار والاحتلال.

وقد تداول العديد من رواد مواقع التّواصل الاجتماعيّ عبارات الشّكر للفرقة ولمجلة "28" منظمة الحفل الذي منح العديد منهم أجواءً مسروقةً من المتعة، التي لا يعتادها الناس في قطاع غزة، حيث يبدو تنظيم حفل موسيقي ترفًا ليس في المتناول.

يُذكر أن مجلة "28" نظّمت هذا الحفل بالتعاون مع فرقة "وتر باند"، التي أطلقت ألبومها الأول "غريبٌ هنا" بتمويلٍ من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، وبالتنسيق مع فرقة الكمنجاتي على هامش زيارة اثنين من أعضائها إلى مدينة غزّة من أجل تأسيس فرع غزّيّ للفرقة ومركز تدريبها، الذي يُعنى بتأسيس فرقة من الأطفال، على أن تشرف على تدريبهم فرقة "وتر باند" في غزّة، فيما يشكّل تعاونًا بين الفرقتين.