فرقة بنات القدس: موسيقى تحت الحصار وجائزة إقليميّة

'صبايا، الخميس التّدريب في بيت لحم، يعني في بيت ساحور'، من القدس إلى بيت لحم ومن ثم بير زيت، رحلة ثلاثة وعشرون فتاة فلسطينيّة مقدسيّة، تتراوح أعمارهن ما بين الثّالثة عشر عامًا والسّابعة عشر عامًا، للالتئام مع زميلاتهن في الفرقة من بيت لحم، الممنوعات من الوصول إلى القدس.

تصدح الأصوات متداخلة بأنغام يا 'نبض الضفة' في تدريبات متواصلة، مركبة ومعقدة، للمشاركة في مهرجان الجوقات المقام في دُبي. 'هذه بجواز سفر 48، وتلك بجوازٍ أردنيّ وأخرى بجواز فلسطينيّ'، كلهن فلسطينيّات تشتتهن الأوراق والحواجز والكتل الإسمنتيّة الوحشيّة وتجمعهن الهويّة الفلسطينيّة المتجذرة عميقًا في اللغة، في اللحن، في القصيدة وفي الهمّ الوطنيّ.

مرة أخرى، يعود صوت الأساتذة ليذكّر بأوصال البلاد المتقطعة: 'صبايا، الجمعة التدريب في بير زيت مش بالقدس، السّاعة الثّامنة صباحًا من أمام المعهد التحرك لمعهد بير زيت'... في البال لدى بنات القُدس يوم تدريب طويل من الثّامنة صباحًا وحتى الثّامنة مساءً، وفي البال، أيضًا، تفاصيل حاجز قلنديا وحاجز حزما وأن تحرص كل فتاة في الفرقة على اصطحاب هويّتها أو أي 'كوشان'، بحسب تعبيرهن، يدل على هويتك لأي طارئ. وفي بير زيت يقوم الطاقم الإداريّ بإتمام الاستعدادات اللوجستيّة لسفر فرقة بنات القدس.

الانطلاقة

'بنات القُدس'، هي فرقة مقدسيّة أسّسها معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى في القدس لتشكل مساحة داعمة ورافعة للطاقات النّسائيّة الشّابة في المعهد وفي القدس. وذلك إلى جانب تشكيلات فنّيّة مختلفة في المعهد، تضم الصّبايا والشّباب، فقد كانت الفكرة توسيع  فرص المشاركة أمام الفتيات وصقل المواهب الشّابة في تركيب موسيقيّ مهنيّ يشارك في النّشاطات الثّقافيّة على المستوى المحليّ والدّوليّ.

فقد حرص المعهد الوطنيّ الفلسطينيّ، منذ تأسيسه في العام 1993، على إحداث نهضة موسيقيّة في أوساط الصّغار والأجيال الشابّة، عن طريق رفع مستوى طالباته بشكل خاص. وقد انعكس هذا الاهتمام على مستوى العزف لديهن على الآلات الموسيقيّة العربيّة والغربيّة، وعلى مستوى تطوير معرفتهن الموسيقيّة، ومساهمتهن في إثراء وإحياء وتنشيط الموسيقى العربيّة الأصيلة في فلسطين بشكلٍ عام وفي مدينة القدس بشكل خاص، وإدراكًا لمستوى الإبداع والتميّز بين طالباته المقدسيّات وُلدت الفكرة لتأسيس فرقة بنات القدس في العام 2013.

بعض الطّالبات أظهرن قدرًا كبيرًا من التّميّز في العزف على الآلات الموسيقيّة العربيّة  كالعود، القانون والإيقاع أو الآلات الغربيّة (كمان، تشيللو، كونتراباص، فلوت وكلارينيت)، التي يتم تطويعها لدمجها في سياق الموسيقى العربيّة. حجم هذا التميّز برز، أيضًا، من خلال نسبة المشاركة العالية للطالبات في المجموعات الموسيقيّة المختلفة من أوركسترات موسيقيّة وجوقات، إضافة إلى المسابقات والبرامج والمشاريع الموسيقيّة الأخرى. وهنا عليّ أن أشيّد بدور المعهد الإيجابيّ لخلقِ بيئة تعليميّة وتنظيميّة مناسبة لمشاركة الطّالبات في العزف والتّعلّم والتّعليم الموسيقيّ.

تتكوّن فرقة بنات القدس من خمسة وعشرين عازفة ومغنيّة من طلبة المعهد الوطنيّ للموسيقى، ويشرف على تدريبها سهيل خوري (غناء) ولؤي عباسي (عزف). عملت الفرقة على تقديم أعمال عربيّة كلاسيكيّة أصيلة مثل أغاني ومقطوعات موسيقيّة لمحمّد عبد الوهاب، الرّحابنة وفيروز وسيد درويش، فريد الأطرش والشّيخ إمام. وقد حرصت الفرقة، أيضًا، على تقديم أعمال موسيقيّة ملتزمة، تحاكي النّضال الوطنيّ الفلسطينيّ، فقدّمت بعضًا من الأعمال الهامّة لأحمد قعبور ولفرقة العاشقين الفلسطينيّة وملحنها الكبير حسين نازك، وقدمت بعضًا من أعمال الفنان سهيل خوري.. وكانت هناك مساهمات فنّيّة للمدربين لإضفاء توزيعات جديدة لبعض الأعمال لتمنح للأغاني روحًا جديدة. حاملة أغانيها الطربيّة وأغانيها الوطنيّة شاركت الفرقة في المهرجانات المركزيّة الهامّة، التي أقيمت في القدس، كمهرجان القدس، الذي ينظمه مركز يبوس الثّقافيّ، ومهرجان 'ليالي الطرب في قدس العرب' الذي ينظمه المعهد الوطنيّ للموسيقى بالإضافة للمشاركة في مناسبات خيريّة تطوعيّة.


فلتسمع كل الدنيا: نبض الضفة ولغزّة سلام

حاملةً قصص المدن، القرى والمخيمات المُتألمة، مثقلة بتعقيدات السّفر الفلسطينيّ داخل بلاده وخارجها، ذائقة أوجاع المعابر وقساوتها البليدة، أمام أعين فتيات القدس، وصلت الفرقة إلى مكان مشاركتها الدّوليّة الأولى في مسابقة الجوقات-الكورال، التي أقيمت في دبي، وقد شاركت فيها فرق من عدّة بلدان مثل لبنان، الأردن، العراق وإيران والسعوديّة. وقد كانت الفرقة المقدسيّة الفلسطينيّة الأصغر سنًا من بين كل الفرق ألمشاركة.

تنظّم مسابقة 'الكورال' من قبل مجموعة مهنيّة فنّيّة تدعى choirfest middle east  والتي أخذت على عاتقها تطوير واقع الجوقات في الشّرق الأوسط عن طريق الاستعانة بخبرات عالميّة. فقد قدّمت خلال أسبوع المسابقة في دبي ورشات فنّيّة في مجالات الصّوت وتطويره، التّقنيات في الأداء الكوراليّ، إضافة إلى تعريف بالأنماط الشّرقيّة والغربيّة وكيفية التّداخل، التّعاون والدّمج. وفي نهاية المسابقة قُدّمت عدة جوائز ومن ضمنها أهم جائزتين: الأولى وهي فرقة كورال العام 2016، والثّانيّة أفضل فرقة إقليميّة للعام 2016.

إضافة للتجربة الفنّيّة المهنيّة التي خاضتها عضوات فرقة بنات القدس، فقد شكّلت المشاركة فرصة نوعيّة للتواصل مع عمقها العروبيّ، الالتقاء بفرق عربيّة والتّواصل، أيضًا، مع فلسطينيّي الشّتات من خلال الفرق والجمهور. أغاني الفرقة من ' يُما مويل الهوى' التّراثيّة و' نبض الضفة' و'والله لازرعك بالدار' و' سلام لغزّة' شكّلت حالة انسجام عروبيّ بين الكثير من أعضاء الفرق، لما تحمله من ذكريات ماضٍ ورؤيا للمستقبل.

بنات القدس لم يتوقعن الفوز بأحد الجوائز الهامّة، معتمدات في توقعهن هذا على صغر سنهن وتجربتهن القصيرة إيّاها، أمام فرق أكبرهم سنًا وتجربة، إلّا أن البنات لم يدركن مدى عمق وعيهن الموسيقي المتقدم، الذي أنعكس على العزف والغناء في يوم المنافسة والحسم. وقد كان هذا الوعي الموسيقيّ المتطور كافيًا لمنحهم ثاني أهم جائزة، والتي تحمل لقب أفضل فرقة إقليميّة في الشّرق الـوسط Best Regional Choir. في حين حصلت فرقة الفيحاء اللبنانيّة على الجائزة الأولى ولقب أفضل فرقة العام Choir of the year.

لقد تحوّلت 'نبض الضفة' لأحمد قعبور لواحدة من أهم الأغاني التي تعبر عن نكبتنا ونكستنا وعن وجع الجرح الفلسطينيّ المستمر، فقدّمت في الجولة النّهائيّة للمسابقة. في حين أبكت 'سلام لغزة' الجمهور ووثّقت الرباط والانسجام بين الجمهور والكلمات والموسيقى، و'سلام لغزّة' هي أغنية جديدة أعدّت لفرقة 'بنات القدس' وهي من كلمات فؤاد سروجي وألحان سهيل خوري. أما رائعة توفيق زياد 'فلتسمع كل الدنيا' التي لحنّها حسين نازك لفرقة العاشقين، فقد رافقت الفرقة بمشوارها وقدمتها في عدة أمسيات فنيّة، لتقدّم رسالة مختصرة من بنات القدس 'لن يركع منا حتى طفلٌ يرضع'.

الأسماء من وراء الوتر والصوت

حين نكتب ونعمّم في الوصف في مقالاتنا غالبًا، ما نختصر في ذكر أسماء الأفراد اللواتي يقدمن هذا العطاء والوعي الموسيقيّ. لذلك أقدم للقراء أأسماء تلك البنات كي لا يبقين مجهولات تحت عنوان عامٍّ. أسماء العازفات والمنشدات اللواتي شاركن في مسابقة الكورال في دبي محققات هذا الإنجاز: لينا كمال (فلوت)، مارغو حنا مصلح (غناء)، هيفاء متولي (غناء)، سارة مشعشع (غناء)، عايدة قنبر (غناء)، سهى أبو عكر (غناء)، نور جمال علوي (غناء)، يارا قاسم (غناء)، أميرة إمام (كلارينيت)، ياسمين أبو شلباية (إيقاع)، ريم عبيدي (قانون)، سلمى عبّاسي (عود)، ريم شريف (غناء)، مريم عفيفي (كونترباس)، انتصار أبو شلباية (عود)، سهيد عزة (غناء)، رامة بدارنة (قانون)، شادن مكاوي (غناء)، رند خوري (تشيللو)، عرين شامي (غناء)، لمى إلياس (كمان)، كارول إبراهيم (كمان)، إلين مسعود (كمان).