"مينا"؛ ذاكرة القُبل الّتي أفلتت من فم الخراب

كنّا جميلين في يوم مضى، ورغم الخراب، سنصير أجمل في يوم قريب. ما الّذي ينتشل القلب من أوجاعه حين يعمّ الخراب؟ ما الّذي يفتح في قلوبنا شبابيك تطلّ على غد من زغاريد وأفق أوسع؟ قد تكون الدّهشة الّتي تصيبك وأنت تصغي لأغنية كنت ظننت أذنك مدربّة على سماعها، أو لأغنية لم تسمع إيقاعها من قبل فتنتبه لعينيك مفتوحتين مثل قلبك إلى أقصى حدٍّ ممكن ولا يضيرك أنّ من حولك يعتقدون الأغنيات تُسْمَع بالأذنين فقط.

أعرف أنّك كنت تبحث في تجاعيد وجه امرأة هرمة عن وجه جدّتك، وتحدّق في أطراف فم أمٍّ - كم تشبه أمّك - وهي متّكئة فوق سرير ابنتها توشوشها بعض التّهاويد لتغفو، أو ربّما تجهد نفسك في مساعدة مزارع لإتمام أشغاله، علّك تعثر على ما يدلّك إلى حكاية الأغنية. أليست الأغنيات حكايا مشغولة من خفقة في القلب وبوح، من لحظة اللّقاء بين حنين لا تقوى منه افتكاكًا، وتوق لا تملك المضيّ إلّا باحثًا عن حضنه! والأغنيات، همسة من فم البحر ترتاح على الشّطآن، أمسها موج والملح غدها.

هنا بدأت 'مينا'، كما الميناء، حيث تجتمع النّوارس ويرسو بحّارة بسفن مملوءة بأسباب الدّهشة والحبّ، حاملين أكوام حكايات عن بلاد لم تسمع بها، ولهجات لم تقرع على طبلة أذنيك من قبل. 'مينا' البوح النّقيّ المُنتقى، ليس يفتح أبواب الدّهشة عن آخرها فحسب، بل يمضي بك وبكلّ ما فيك من حواسّ في رحلة مؤسّسة على لهفة المتعة في المعرفة الجماليّة، إلى رغبة الوقوف في الميناء واستراق السّمع إلى ضمّة أخطأتَ فهمها أو ظهر تقوّس من تكرار الكسر فاستعان بالسّكون. وإذا كانت الذّكريات الجميلة تستجلب الحنين، فالتّراث زادنا من النّبيذ المعتّق في جرار الوقت، سبيلنا إلى الدّفء في مواجهة هذا الصّقيع الّذي يعصف حولنا.

مشروع 'مينا' ليس بالرّجوع إلى التّراث، إنّما في الذّهاب معه رغم وعورة الدّرب إلى غدٍ يهتدي بالضّوء الجماليّ الّذي لم تستطع كلّ بشاعة العتم أن تمحو أثره في الرّوح بعد. هو الغد الّذي ينتصر للإنسان فينا، ليس جسدًا وحسًّا فقط، إنّما ذاكرة توشك على الاندثار لولا ذلك القلق حين يكون متّقدًا في بحثه عن موطئ قدم، واثق من أمسه ومن رؤيته الواضحة في المضيّ إلى أقاصي البهجة في الصّبح الّذي ننتظر. كنّا جميلين في يوم مضى، رغم أنّ الخراب شديد، حين أفلتنا حنطة القلب من قبضة المطحنة، ومنحنا بعضها للحقل والبعض قوتًا للعصافير، ومينا سنبلة نابتة في هذا الحقل. سنصير أجمل في يوم قريب، رغم أنّ الخراب شديد، حين نلتفت ثانية إلى حنطة في قلوبنا ونحرسها من ألف مطحنة تحاصرنا، لا لتمضي بهذا الطّحين صوب مواقد الخبز، بل لتعجنه بالقهر وترميه إلى النّسيان.

'مينا'، ذاكرة القُبل الّتي أفلتت من فم الخراب وانغرست في شفة الذّاكرة، تحرسها رغبة الإفلات ثانية من الخراب المقيم في وقتنا. ثمّ 'مينا' يدا حبيب مفتوحتان لاحتضان طفولة الحبيبة والنّهوض معها إلى صبح لم يألفه قبل هذا العناق.

هكذا ينفتح باب الأغنيات المنتقاة بعناية ملفتة، والمشغولة تفاصيلها بأقصى جماليّة ممكنة، على هويّة فنّية ثقافيّة تستمدّ من بحثها في التّراث الإنسانيّ كلّ أسباب الوثوق بقدرة الرّوح النّقيّة على انتشال جسد الأغنية من جراحها الدّامية وأوحال الاستهلاك. نعم كنت تبحث دون أن تنتبه عن رموش عينيك مخبوءة في رعشة الوتر، عن حشرجات صوتك في كلّ نبرة، فعثرت على ما ضاع من ملامح وجهك في الزّحام.